}

"الشدّة التلمسانية".. حُلّةٌ ملكيّة واختبار لصبر العروس

علاء زريفة 14 أكتوبر 2022
استعادات "الشدّة التلمسانية".. حُلّةٌ ملكيّة واختبار لصبر العروس
عروس ترتدي "الشدّة التلمسانية" (algeria vintage)



تعتبر" الشدّة" أقدم زي نسائي معروف، لا يزال يحتفظ ببعديه التاريخي والروحي، وهو لباس العروس التلمسانية. ويُصنف كزيّ ملكيٍ بامتياز، يعود إلى أيام الملوك الزيانيين التي كانت تلمسان في غرب الجزائر عاصمةً لهم. تتباهى به اليوم الفتيات المقبلات على الزواج، بارتدائه في ليلة زفافهن. ويصنف كـ"عجيبة فنية بربرية"، دخلت عليها مؤثرات ثقافية عديدة من حضارات إسلامية (أندلسيةٌ وعثمانية)، وأوروبية، على مدار القرون السابقة. إلا أنه لا يزال يحتفظ بـ "أصالته" وهويته الجزائرية التي صاغتها أيادِي وجوارح الحرفيين التلمسانيين.

لا تزال (الشدّة) تعد "فولكلورًا مقدسًا"، يتمتع بالسحر والأناقة التقليدية التي تجمع بين البراعة في التصميم، والتقنية الباذخة، حاملًا تفاصيل الصنعة الدقيقة المتوارثة جيلًا بعد جيل، لما يحتويه من رموز ودلالات معنوية وتاريخية عديدة. فاللباس مُوشّى بالحرير الثمين المنسوج يدويًا بخيوط الذهب ولآلئ الباروك وملحقاته من الإكسسوارات الغنية من الجواهر والحلي والقلائد باهظة الثمن إضافةً للمسكيا والكتابة التي تزين تفاصيله الغنية، والذي تعجز الفتيات عن ارتدائه أكثر من يوم واحد لثقل وزنه.

"تكريس اليونسكو لفستان الزفاف التلمساني ما هو إلا اعتراف عادل بالإبداع والحرفية في هذا المجال"، هذا ما صرح به السيد سليمان حشي، مدير هيئة تراث (الجزائر العاصمة)، في لقاء متلفز بثته القناة الجزائرية الرسمية، خلال احتفال بمناسبة تكريس التحفة التلمسانية الفنية ضمن التراث اللامادي للإنسانية، وذلك في كانون الثاني/ديسمبر 2012.

تاريخ الفستان

تاريخيًا، يعود الزي التراثي التلمساني الشهير إلى حقبة ما قبل سقوط الأندلس، وتحديدًا إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وعرف تطورًا كبيرًا نتيجة التأثيرات الحضارية التي طرأت على تصميم أجزائه المتعددة، والتي أعطته جمالًا وسحرًا إضافيًا. وقد كان مخصصًا للأميرات وبنات العائلات الأرستقراطية حصرًا اللاتي يعرفن بـ"زيانيات البرجوازية اليوم".

الشكل الحالي المعروف للشدّة تبلور في العصر العثماني، ولكنه لا يزال يحمل تأثيراته الثقافية والفنية المختلفة، فـ(البلوزة) وهي اسم لاتيني للعباءة، تُعرف بأصلها العربي، ويكشف هذا الجزء عن التأثر بالفساتين الفرنسية منذ مطلع القرن العشرين، و(الفوطة) هي أمازيغية بربرية، بينما (الشاشية) أندلسية الأصل أدخلها المسلمون الخارجون من غرناطة هربًا من البطش الإسباني. وأخيرًا، (القفطان) أو (أرفطان) هو عثماني الأصل والصنعة.

ولكنها جميعًا تحمل بعدًا "سيميائيًا" متوارثًا من الحقبة الأمازيغية البربرية الأقدم من كل المؤثرات المضافة لاحقًا على الفستان؛ حيث يسود الاعتقاد "بأنه يضفي على الأنسجة المُقلمة والحرير اللمّاع والتطريز الوهّاج واللآلئ البراقة، القدرة على إبعاد الأرواح الشريرة وحماية المرأة" التي ترتديه ليلة زفافها، كما تقول كل من صليحة بن عمارة وإكرام خلادي في دراسة أكاديمية لهما بعنوان (آثار توليد المصطلح على التراث الثقافي.. دراسة تراث تلمسان نموذجًا).

وترمز الخيوط الحريرية الذهبية إلى القضبان التي تحمي الأعضاء التناسلية من تلك الأرواح. وهذا العنصر لا يزال موجودًا على بعض الأقمشة الرخيصة التي ترتديها نساء البربر الأمازيغ حتى اليوم في الجبال. لكنه تطور ليكون أكثر بذخًا في تلمسان.

 "الشدّة التلمسانية" في أحد المحلات التجارية في الجزائر



أصل التسمية

يُمكن النظر إلى هذا الزي، المُصمم على شكل طبقات متعددة من الحرير المشغول بخيوط الذهب بحرفية عالية وتقنيات مبتكرة، كعمل معماري باذخ القصد منه إخفاء متحف الجسد الأنثوي المغطى بهالة من الحرير المطرز بالجوهر الثمين الذي يلمع ويتوهج سحرًا ورغبة مبطنة برسم العفة.

أما عن أصل التسمية، فلذلك عدة تأويلات. يقول البعض بأن السبب يكمن في كون الحُلي والمجوهرات المرصعة تضفي عليه بريقًا ولمعانًا شديدًا، ولذلك سُمي بـ"الشدّة". بينما يذكر آخرون أن الخيوط والمجوهرات المشدودة بقوة بعضها إلى بعض والتجميع المعقد لعناصر الزي باستخدام المسامير، هو سبب الاسم.

أما الرواية الأكثر شيوعًا على الإطلاق شعبيًا، فتقول: إن ارتداء الفستان في ليلة الزفاف هو بمثابة اختبار لصبر وقوة تحمل العروس واستعدادها لمشقة الحياة القادمة، والتي ستدخل قريبًا عُش الزوجية، كون الفستان العجيب يزن أكثر من 15 كيلوغرامًا، وذلك منذ خروجها من بيت أهلها إلى دار زوجها. 

عناصر وأجزاء "الشدّة"  

تتألف الشدّة من 12 قطعة متنوعة في الشكل والتصميم، مترابطة ومحكمة بشدة فيما بينها لتغطي الجسد بأكمله تقريبًا. فهناك أولًا الفستان الحريري المُسمى بـ" الردة" ويتصف بكونه واسع الأكمام والمصنوع من قماش شفاف ورقيق يُسمى بـ"القطيفة"، يدل على انعدام الأسرار لدى الفتاة قبل ليلة عرسها. منمق بحبات اللؤلؤ، ومرصعٌ بالبُرقة والدانتيل المطرز بخيوط الذهب التلمساني المعروف باسم "الفتلة".

وتستخدم "الفتلة" في صناعة وتنميق معظم أجزاء الشدّة. وهناك أيضًا "المثيقلة" بمعنى (ثقيلة) باللهجة المحلية الجزائرية؛ عبارة عن مخمل منسوج بخيوط الذهب أيضًا. وملحقة بـ"المنجدة" التي تكون في الغالب بلون فاتح (أزرق أو أبيض أو وردي). وكلتاهما تنسجان بطريقة يدوية لتشكلان ما يُسمى بـ"الرضا" وهي أشبه بالقفطان العثماني ذي الأكمام القصيرة المزينة في نهايتها بالزخارف البديعة.

بالنسبة للعنق، فيغطى بقلادة مميزة مزينة بالأحجار الكريمة من الياقوت والزمرد والألماس. أما الأذنان فتعلق عليهما "القُرصة" التي تتدلى حتى أسفل الذقن لتلامس الكتف. وهناك أيضًا قفطان يُسمى بـ"الجوهر" يزين صدر العروس، وهو مشكلٌ من خمسين صنفًا من المجوهرات التلمسانية التقليدية المعروفة بـ"الزرارف". وحول الخصر منديل يدعى بالمثقلة عبارة عن حزام يتميز بخيوطه الذهبية العريضة.

أما التاج أو ما يُعرف بـ"الشاشية" الأندلسية، وتُسمى بالأمازيغية بـ"تيدج"، وتعني (تاج) بالعربية، فيُزين بسبعة إلى تسعة تيجان، وهو عبارة عن رأس مخروطي الشكل، في قاعدته محاط بقلادة ذهبية مزينة بأحجار كريمة، ويحيط به إكليل يغطي الجبهة. أما أجزاء التاج فموصولة ببعضها بخيوط الفتلة أيضًا. إضافة لكل ما سبق نجد المجوهرات الثمينة والأساور التي تزين معصمي العروس والخلاخيل والحناء الذي يغطي يديها.

"الشدّة" اليوم

تُصنع "الشدّة" اليوم من قبل أي امرأة ذات خبرة وباع في هذا المجال، وينص الأمر على استعارة كمية كبيرة من المجوهرات والحلي الثمينة برسم الأمانة والثقة قبل أن تتم إعادتها إلى الأسرة. وهناك إصدارات مصغرة مخصصة للفتيات الصغيرات اللائي سيتعرفن على هذا التقليد منذ بلوغهن سن الثالثة حيث يرتدينه في العطلات.

وباعتباره تقليدًا لا مفر منه، يتجاوز الحالة الاحتفالية الخاصة بطقس الزواج. وبسبب الصنعة المتكلفة والمعقدة وتعدد طبقاته وأجزائه، هناك سيدات متخصصات في عملية "تلبيس الشدّة" مقابل أجر معين. وهن يعرفن بـ" النجافات". ونظرًا لارتفاع سعر الفستان الذي قد يصل إلى 4000 دولار أميركي، يضطر البعض لاستئجاره من قبل متعهد خاص بذلك.

هذا الزي تنتظم حوله طقوس الزواج التقليدي المعروف باسم "الدجلي"، ويعني انسحاب العروس الوشيك من بيت أبيها، حيث تُسمى "الشدّة" في هذه المرحلة باسم تقليدي آخر هو (لبسة العرفان). هو أيضًا يعتبر جزءًا من البروتوكول المتبع في استقبال الوفود الرسمية الخارجية التي تزور الجزائر بمطار مصالي الحاج بزناتة.

وكانت "الشدّة" أيضًا تتويجًا رمزيًا لعودة العلاقات الودية بين الجزائر والمغرب على هامش القمة العربية في القاهرة عام 1970، حين أهدى الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين "الشدّة التلمسانية" إلى نظيره المغربي الملك الحسن الثاني.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.