وعد إياد جميل محفوظ في كتابه (حكايات الجميلية – 2021) بكتابٍ تالٍ يوقفه على يهود مدينته حلب. وقد وفى بالوعد في كتابه الجديد (حكايات يهود الجميلية – دار الحوار 2022). وكان الكاتب قد خصّ حلب بكتابيه (بيوت الخفاء في حلب الشهباء: خزائن لم تفتح – 2017) و(أعجب العجب في طبائع أهل حلب: لوحات حلبية – 2018). وما هذه الكتب بحسباني إلا حلقات في موسوعة حلبية جديدة أسوةً بالأثر الجليل (موسوعة حلب المقارنة) لخير الدين الأسدي (1900 – 1971). كما يأتي كتاب (حكايات يهود الجميلية) إضافةً هامة إلى السرديات الروائية التي أوقفها أصحابها على اليهود في حلب: فيصل خرتش وزياد كمال حمامي وابتسام التريسي وقحطان مهنا. وهذا الكتاب إضافةٌ هامة أيضًا إلى السرديات التاريخية التي أوقفها أصحابها على يهود حلب، أو أفسحوا لليهود فيها، وأثبتها إياد جميل محفوظ كمراجع لكتابه: علاء السيد (تاريخ حلب المصور)، ظافر فكتور كالوس (تاريخ اليهود في بلاد الشام)، محمود حريتاني (تاريخ اليهود في حلب)، الشيخ كامل الغزي (نهر الذهب في تاريخ حلب)، الشيخ محمد الطباخ (إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء).
يهدي إياد جميل محفوظ كتابه إلى "أبناء الطائفة الموسوية من أهالي حلب". وقدم الباحث الحلبي الموسوعي محمد قجة لكتاب محفوظ، واصفًا المؤلف بالروائي المتمكن من سرديته، والقاص اللماح، والكاتب التوثيقي العاشق لمدينته حلب المحروسة. ووصف قجة الكتاب بأنه نموذج في فرادته وتوثيقه ودقة معلوماته وروحه السمحة الصافية. أما المؤلف نفسه فقد شدد على أن سورية بعامة، وحلب مدينة التسامح والتعايش والمحبة، والكوسموبوليته كما يصفها محمد قجة، بخاصة، منسوجتان من فسيفساء ملون وبديع.
يحدد إياد جميل محفوظ هدف كتابه بتقديم رؤية حضارية إنسانية معاصرة، يرصد من خلالها نشاطات اليهود الاقتصادية والعلمية والثقافية وكذلك الفعاليات الاجتماعية. ولأن حلب فقدت بهجرة اليهود عنصرًا هامًا من عناصرها، ولأن تراث الطائفة الموسوية بالتالي سوف يضيع، بما هو جزء من تراث اليهود اللامادي، لكل ذلك وضع محفوظ (حكايات يهود الجميلية).
أما منهج الكتاب فهو استعراض حكايات وأخبار وأحداث تعلي من قيم الإخاء والتآلف وقبول الآخر، مما كان سائدًا في المجتمع الحلبي. ومن ذلك الاحتفاء بأعلام اليهود وبسطائهم على حد سواء. وفي منهجية الكتاب أيضًا أن يكون مثل آلة تصوير ترصد الجمال والقبح، والخير والشر، بلا أفكار جاهزة، ولا أحكام مسبقة، والكتاب يتقصى معاناة الطائفة الموسوية بعد قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وإلى خروج آخرهم. وعلى الرغم من كل ذلك يعد المؤلف بتحاشي الأمور الدينية والسياسية "إلا ما هو ضروري".
وعد إياد جميل محفوظ في كتابه (حكايات الجميلية - 2021) بكتابٍ تالٍ يوقفه على يهود مدينته حلب. وقد وفى بالوعد في كتابه الجديد (حكايات يهود الجميلية - 2022) |
توشّح السيرية الكتاب، ابتداءً من إعلان صاحبه أنه مولع بتقفي الحكايات المنسية والأخبار المتوارية إلى أن يبلغ منابعها الأصلية، وهذا ما جعله يتعقب المخضرمين من أبناء حي الجميلية ويمتح من ذاكرتهم الدفينة. غير أن ما ضاعف صعوبة ذلك أن "كثيرًا من أهالي الحي المسلمين غادروا المدينة أيضًا إثر الأحداث المؤسفة التي اجتاحت المدينة بدءًا من عام 2011"، وسوف يصف محفوظ هذه الأحداث مرارًا بالزلزال.
من مواطن السيرية ما يسرد المؤلف عن البناية الحلبية الشهيرة (بناية مستت) والتي شيدها جده، وأقام فيها مع أسرته، ومع أسرة الخواجة سليم قباني اليهودي الذي كانت زوجته تنادي الطفل إياد أو ترسل إليه ابنها ليعود به كل يوم سبت، فيشعل الغاز بعود كبريت أو يطفئه بعد ما يكون أشعله قبل ساعة، وقد يقوم بأشغال أخرى بسيطة، ومن ذلك سيعرف (الإسبات) وسيتحدث عنه كتراث حضاري. والإسبات هو ما جعل امتحانات مادة التربية الدينية للشهادات السورية تتحدد بيوم السبت. ومن النقائض الرسمية السبتية يروي محفوظ من ذكرياته أن الطالبة اليهودية مزيدا كندي انتسبت إلى جامعة حلب عام 1980، وأنها مع طلبة يهود آخرين، أعلموا شعبة الامتحانات بيهوديتهم، فأخذت ذلك بالاعتبار. وعلى العكس من ذلك جاء تحديد موعد امتحان مادتي الفيزياء والكيمياء للشهادة الثانوية عام 1968 في يوم سبت، مما تسبب في رسوب الطلبة اليهود، ومنهم الطالبة آرليت زيات ذات الجمال الصارخ والحضور اللافت، والتي هيمنت على خيال المارة والمتلصصين، ويترقبون إطلالتها من على الشرفات وهي في رحلتها اليومية من معهد الفرنسيسكان إلى منزلها قرب بيت الترامويات في حي الجميلية. تُرى، هل كان المؤلف من المأخوذين بها؟ لقد حصلت آرليت على علامة شبه تامة، لكنها رسبت بسب قرار السبت الذي اعتقد من اتخذه أنه يرد على العدوان الصهيوني الغاشم عام 1967 بالانتقام من بضعة عشر طالبًا وطالبة من اليهود.
تغلب السيرية الغيرية على (حكايات يهود الجميلية)، وبها، كما بالسيرية الشخصية، ومعهما (جرة) الأخبار والأحداث، يبدو هذا الكتاب ينابيع تتدفق منادية من يكتبها في رواية – روايات، مثلما هو الأمر فيما سبقها لإياد جميل محفوظ، ويتعلق بحلب وهذا ما كنت قد حرضته عليه منذ كتابه الأول (بيوت الخفاء في حلب الشهباء).
تلك هي (حكاية) توفيق منافيخي (المسلم) وحاييم مرزاحي اللذين أسسا شركة (منافيخي ومرزاحي)، وعاشت الشركة إلى أن هاجر مرزاحي عام 1987. وقد تزوج أبناؤه من غير اليهود، كما كست ابنته مايا واجهات منزلها في حي بروكلين (نيويورك) بالحجر الحلبي المشغول، والمؤلف هو أول من أدخل هذا الحجر إلى الإمارات. وقد ثابرت مايا على زيارة حلب حتى "اشتعال نيران الزلزال السوري عام 2011"، كما يكتب محفوظ. وفي زيارتها كانت مايا تلتقي مع صديقات طفولتها وصباها. أما والدتها راشيل عبادي فقد زارت حلب عام 2007 وهي المريضة بالسرطان، لكنها برئت من المرض في حلب، ثم توفيت بعد أسبوعين من عودتها إلى نيويورك. وتلك هي حكاية مصنع الحاج محمد عمر صباغ مع جاك شقالو محاسب المصنع الذي أوكل الحاج له حساب مقدار زكاة المصنع وتوزيعها. وقد هاجر المحاسب اليهودي عام 1992. ومن السيرية الغيرية حكاية الحاج سعد الله صلاحية والحاخام مراد سردار اللذين أسسا شركة لتجارة الألبسة النسائية، وخصصا غرفة داخلية لأداء كل منهما فروضه الدينية. وإلى مثل شخصيات الحكايات السابقة، تتألق شخصيات المهندسين والمحامين والمدرسين والأطباء والوجهاء والفنانين والرياضيين من اليهود. ومن الذين واللاتي في الصدارة الفنانة فيروز الماميش – وهي فيروز سماحة – والتي يقال إن فيروز اللبنانية حملت أسمها تيمنًا بفيروز الحلبية التي غنت (فيك كل ما أرى حسن) و(يا مليكًا عزّ نصرًا) والتي غنتها للملك فيصل الأول أثناء زيارته لحلب عام 1920، وقد لحّن الأغنية أحمد الأوبري. كما غنت فيروز الماميش 1926 (هزي محرمتك) و(يا مايلة ع الغصون). ومثل فيروز ماميش هو موشيه إليا، المطرب الأول في نادي اليهود الاجتماعي الرياضي الذي اشتهر بأدائه الموشحات الأندلسية والقدود الحلبية. وقد تابع أداء الطرب الحلبي في نوادي حيفا بعد هجرته. ويعدد محفوظ من الفنانين زكي مراد الشهير بعزف العود والغناء الطربي. ويذكر محفوظ أن زكي مراد هو والد ليلى مراد، وأن ليلى مراد قد عرفت في حلب قبل الهجرة إلى مصر.
كان الكاتب قد خصّ حلب بكتابيه (بيوت الخفاء في حلب الشهباء: خزائن لم تفتح – 2017) و(أعجب العجب في طبائع أهل حلب: لوحات حلبية – 2018) |
لمحفوظ في هذا السياق ملاحظة هامة هي أن المراجع قلما تحدثت عن إبداعات أديب أو شاعر أو رسام أو نحّات أو صحافي أو رياضي من يهود حلب. لكنه – وهو اللاعب الدولي لكرة السلة حتى هجرته إلى الإمارات – يذكر أن فتية يهودًا كُثرًا واكبوا فريق السلة في نادي حلب الأهلي الذي صار نادي الاتحاد، وصولًا إلى بطولة الدوري الممتاز عام 1979.
يرسم إياد جميل محفوظ فضاء حي الجميلية بخاصة والفضاء الحلبي بعامة على نحو شائق، لا يفوّت تفصيلًا ولا مسمّى. وإذا كانت للشارع أو البناية أو الساحة أو الخان أو الكنيس أو... حكاية ما عن الإنشاء أو التوسع أو التبدلات أو الإزالة، فكل ذلك تقدمه العين السينمائية والذاكرة الوقادة، من المؤسسات التعليمية اليهودية (مدرسة السموأل – معهد الإليانس وسواها) إلى نادي اليهود الاجتماعي الرياضي إلى مقهى الجميلية إلى مقهى البلور إلى كنيس الجميلية إلى مخزن ABC إلى الأسواق القديمة وسواها. وكما أوفى المؤلف اليهودي المقيم حقه، كان كذلك مع اليهودي المهاجر، ابتداءً من عام النكبة/ التقسيم 1947 الذي كان له في حي الجميلية كما في حلب كلها أصداؤه المدمرة، من حرق الكنيس سيلفيرا في شارع الجميلية ونادي اليهود الاجتماعي الرياضي، والمنازل والمتاجر... وبالمقابل يفصل المؤلف في حماية معظم المسلمين لأرواح وممتلكات اليهود. ويصف بالقرار العجيب الغريب الذي أصدرته السلطات واشترط إسقاط الجنسية السورية عن اليهودي الذي يهاجر وكذلك قرار التنازل عن الأملاك. وقد كان ذلك زمن الوحدة السورية المصرية (1958 – 1961). وكانت السلطات في مطلع الخمسينيات قد منعت تنقّل اليهود داخل سورية إلا بموافقة مسبقة، كما منعت سفرهم إلى الخارج وشراءهم عقارات جديدة و... ولما ألغت القرار بدأت الأسر الثرية بالهجرة (آل صفرا – آل نحماد – آل سيلفيرا..). وكانت الهجرة غالبًا إلى لبنان ومنها إلى أميركا والبرازيل... ويذكر محفوظ أن يهود حي الجميلية حافظوا على جوازات سفرهم وهوياتهم السورية، ومنهم من دأب على زيارة حلب سنويًا تقريبًا، وعلى الإقامة في بيته الحلبي، ويضيف "وقد انحسرت هذه العادات كثيرًا مع اندلاع الزلزال السوري عام 2011". وبسبب كل ذلك: "فقدت حلب لونًا من ألوان نسيجها الزاهي".
يعزز محفوظ رسالة كتابه في التسامح والتعايش واللحمة الوطنية، بما كان في ذلك من سواه. فمن موسوعة الأسدي ينقل شهادة العلامة الراحل الكبير خير الدين الأسدي، ينقل أن "بعض الأمثال أو المقولات التي يتداولها العوام من أهل المدينة بحق اليهود جائرة في معظمها وفي غير محلها، فقد عشت شطرًا من طفولتي وشبابي في حي الجميلية، واختلطت بالكثير منهم، ولم ألحظ تلك الصفات السيئة التي يلصقونها بهم إلا ما قلّ منها وندر". ومثل ذلك هي أيضًا شهادة الروائي الحلبي فاضل السباعي (1929 – 2020) حين كتب أنه ولد في بيت اشتراه جده من أسرة يهودية، ثم انتقلوا إلى حي الجميلية وسكنوا في بناية كانت أرضها لأسرة عزرا شويكة اليهودية، مقابل بناية لمُرْدُخْ سيلفيرا. ويذكر السباعي أنه كان كنيس مقابل مسكنهم، أحرق عام 1948، وأنه هو حمى الجيران اليهود حين ادعى أن بنايتهم لأهله المسلمين، وفي بيته نامت أسرة مُرْدُخْ، وكان ابنها أبراهام بعمر فاضل، ويدرسان معًا "أنا أكتب فروضي بالعربي وهو بالعبري".
أخيرًا، لكي لا تذهب الظنون مذهبًا، أكدّ كتاب (حكايات يهود الجميلية) مرارًا على التفريق بين الصهيونية وإسرائيل وبين الفسيفساء السورية التي فقدت في حلب "لونًا من ألوان نسيجها الزاهي" كما جاء في الكتاب الثري والمشوّق والموثق أيضًا.