}

الأدباء في البعث السوري

نبيل سليمان 15 أبريل 2022
استعادات الأدباء في البعث السوري
فؤاد أبو عساف، سورية

في الخامس عشر من شباط/ فبراير الماضي، وفي الأول من آذار/ مارس الماضي، نشرتُ في هذا الموقع مقالتين تؤرخان بإيجاز للمثقفين الذين أسسوا حزب البعث في سورية. ومن أولاء من كان له باعٌ في الأدب والنقد تأليفًا و/أو ترجمة. وقد أشرت من ذلك إلى روايتي مطاع صفدي (جيل القدر) و(ثائر محترف)، وإلى سامي الدروبي صاحب (علم النفس والأدب) و(الرواية في الأدب الروسي) وصاحب الترجمة الكبرى للأعمال الكاملة لدوستويفسكي. وكان لبديع الكسم كتاب (الشموع والقناديل في الأدب العربي) ولمصلح سالم رواية (من يصنع الأقدار) ولعبد الله عبد الدائم دراسته (بين الأدب والفلسفة) ولجودت الركابي كتاب (الأدب الأندلسي). أما أنطون مقدسي الذي لم يورِّث كتابًا، فقد ورّث من الدراسات المطولة ما يوازي كتبًا، مثل (مدخل لدراسة الأدب والتكنولوجيا) و(قضايا الأدب وضرورة إنتاجه) و(العقل في الأدب) وسواها.

وكانت لسامي الجندي روايته (سلمان) وترجماته الهامة المميزة: (رامة والشحاذ) لأستورياس و(بيت الأرواح) لإيزابيل الليندي و(سور الصين) لكافكا و(سقوط السنديان) لأندريه مالرو و(مائة عام من العزلة) لماركيز. وإلى هذه الالتفاتة المبكرة للرواية الأميركية اللاتينية ترجم سامي الجندي أيضًا (مجنون إلسا) لأراغون.

بين الرعيل المؤسس ومن تلوهم مباشرة من غادر حزب البعث بعد استيلائه على السلطة عام 1963. ومنهم، من انضموا إلى الحزب بين 1963 و1970، ومن غادروه بعد 1970. وبين أولاء جميعًا من جمع الأدب إلى السياسة، ومنهم من كان الأدب شاغله الأكبر، وصار شاغله الوحيد.

وقد فاتني في المقالتين السابقتين أن أذكر أمجد الطرابلسي (1916 – 2001) الذي حصل على الدكتوراه من فرنسا عام 1945. ولما قامت دولة الوحدة بين سورية ومصر (الجمهورية العربية المتحدة – 1958) صار الطرابلسي وزير التربية والتعليم، حتى إذا استقال الوزراء البعثيون في 24/12/1959 استقال الطرابلسي أيضًا، وقضى بقية عمره في المغرب حتى 1993 ثم في فرنسا حتى وفاته، مخلفًا مجموعة شعرية وعددًا من الكتب منها (النقد واللغة في رسالة الغفران) و(شعر الحماسة والعروبة في بلاد الشام) و(نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس للهجرة).

وبالإضافة إلى ما ذكرت في المقالتين السابقتين أذكر لمطاع صفدي رده على مقالة مفيد الشوباشي (الأدب والاقتصاد) في مجلة الآداب (1956) حيث شدد في منافحته للتيار الفكري الماركسي والشيوعي على أن الأدب ليس أدب طبقة، والحرية ليست حرية طبقة. وبدلًا من دعوى الالتزام الماركسية والشيوعية دعا إلى (الالتزام الحدسي)، مؤسسًا بعض آرائه على بعض آراء (الأب البعثي) زكي الأرسوزي.

وقد كان للتيار القومي (ومنه البعثي) في خمسينيات القرن العشرين رشوحات ماركسية في حمأة السجال والصراع السياسي. ومن أمثلة ذلك مراجعات شاكر مصطفى في مجلة النقاد الأسبوعية، كنقده لرواية سهيل إدريس (الحي اللاتيني)، أو كتابته عن الشعر في سورية آنئذٍ، حيث لقّب سليمان العيسى (البعثي) بالشاعر القومي.

لما قامت دولة الوحدة بين سورية ومصر (1958) صار الطرابلسي وزير التربية والتعليم، حتى إذا استقال الوزراء البعثيون في 24/12/1959 استقال الطرابلسي



أما في كتابه المرجعي (محاضرات عن القصة في سورية حتى الحرب العالمية الثانية (1957 – 1958)) فقد كانت التفسيرات الطبقية جلية في دراسته لروايات الرواد فرنسيس المراش ونعمان القساطلي وميخائيل الصقال وعلي خلقي. ووصف بالقصة الفنية الحديثة قصص ميشيل عفلق وفؤاد الشايب ومظفر سلطان وخليل الهنداوي ونسيب الاختيار.

لقد كانت المراجعات النقدية والسجالات (المعارك) الأدبية معرضًا للفعاليات النقدية والفكرية والسياسية في خمسينات القرن الماضي. ومن ذلك ما كتب جودت الركابي (1913 – 1999) في مجلة (المعلم العربي) سنة 1948 تحت عنوان (مهمة الأدب وحريته)، ودعا في مقالة أخرى في مجلة (النقاد) إلى الأدب الشعبي. وحدد في المجلة نفسها عام 1957 رسالة الأدب العربي الحديث بالاجتماعية الإصلاحية والجمالية الفنية.

وقد ولد الركابي في صيدا ثم نشأ وعاش في سورية ما عدا فترة تدريسه في قسنطينة الجزائرية من عام 1974 حتى 1987. ومن مؤلفاته (الأدب الأندلسي) و(قراءات في الفكر القومي العربي) و(القومية العربية والثقافة). وفي سيرته أنه كان رئيس القسم الأدبي في جريدة البعث عام 1948.

أما صميم الشريف (1927 – 2012) الذي بدأ بالقصة القصيرة (مجموعة أنين الأرض – 1953) وكان الناقد الموسيقي الأول – من مؤلفاته: (السنباطي وجيل العمالقة – 1988) و(الأغنية العربية – 1981)؛ فقد كتب في (النقاد) عام 1952 عن رواية حسيب كيالي (مكاتيب الغرام) أنه ليس من المهم أن يكون الكاتب ملتزمًا أم لا، بل هل نجح فنيًا أم لا، ومعيار النجاح الفني هو مدى (مشاكلة القصة للواقع).

يتصدر صدقي اسماعيل (1924 – 1972) سجل الأدباء في حزب البعث. وقد كان له امتياز السخرية النقّادة للحزب ولرفاقه، مما كرّس له جريدته الساخرة (الكلب) غير الدورية والتي كان يكتبها بخطه ويوزعها باليد، وبوفاته يتابع إصدارها على النهج نفسه غازي أبو عقل.

بدأ صدقي إسماعيل بكتابه (رامبو: قصة شاعر متشرد)، وله الكتاب الفكري المفصلي (العرب وتجربة المأساة – 1972). أما في الأدب فله روايته الرائدة (العصاة –  1964)، كما كتب القصة الطويلة (النوفيلا) مثل (الله والفقر) والمسرح مثل (سلمون) والنقد الأدبي مثل دراسته للمتنبي والمعري وطرفة بن العبد وللوضع النقدي العربي المعاصر. وقد أرخت الوجودية والماركسية ظلالهما على كتابة صدقي اسماعيل الذي ترأس أتحاد الكتاب إثر (الحركة التصحيحية) التي جاءت بحافظ الأسد عام 1970 إلى السلطة. ولعل خير ما يوصف به صدقي اسماعيل هو قول أنطون مقدسي فيه إنه لم يكن ليبراليًا ولا اشتراكياٍ، بل كان إنسانيًا.

وهذا جلال فاروق الشريف (1927 – 1983) يطبق منهج صدقي إسماعيل النقدي في دراسته لحياة وشعر بدر شاكر السياب في كتابه (الشعر العربي الحديث: الأصول الطبقية والتاريخية 1976). وكان جلال فاروق قد عمل في هيئة تحرير جريدة البعث عندما أسسها ميشيل عفلق، وكان من مؤسسي جريدة الثورة بعد استيلاء البعث عن السلطة (1963) ومن مؤسسي جريدة (تشرين) عام 1975.

بدا جلال فاروق الشريف البعثي في الخمسينات مبشرًا ماركسيًا أو شيوعيًا بما يكتب ويترجم، ومن ذلك كتابه (ماياكوفسكي شاعر الثورة الاشتراكية) وكتابه (علم الأدب السوفياتي) من تأليف بنجامين غوريلي، وترجمته لمراسلات غوركي وتشيخوف.. وظل الشريف وفيًا لتلك البدايات، فأصدر عام 1978 كتابه (إن الأدب كان مسؤولا)، والعنوان نفسه كان لكتاب جدانوف الذي ترجمه رئيف خوري عام 1948، حيث ترطن الطبقوية والالتزام والواقعية الاشتراكية. ومن مؤلفات الشريف التي وسمتها الطبقوية - وإن كان بات يرى النقد يفيد من الماركسية والبنيوية والمنهج الفينومينولوجي - نعدد: (بعض قضايا الفكر العربي) و(الشعر العربي الحديث) و(الرومانتيكية في الشعر العربي المعاصر).

يتصدر صدقي اسماعيل سجل الأدباء في حزب البعث. وقد كان له امتياز السخرية النقّادة للحزب ولرفاقه، مما كرّس له جريدته الساخرة (الكلب) غير الدورية والتي كان يكتبها بخطه ويوزعها باليد  



في رأس الشعراء البعثيين يأتي سليمان العيسى (1921 – 2013) وهو من كتب بخطه العدد الأول من جريدة البعث في ست عشرة صفحة، كما تروي زوجته ملكهَ أبيض العيسى (1928 – 2019).. ولسليمان العيسى عدد كبير من الأعمال الشعرية منها ما خصّ به الأطفال، كما كتب المسرحية الشعرية وأعمالًا نثرية شتّى، وهو صاحب نشيد البعث الذي لحنه الياس الرحباني.

وهذا هو الشاعر البعثي عبد الباسط الصوفي (1931 – 1960) الذي عاش حياة تراجيدية تقاذفته من حمص إلى غينيا حيث أصيب بانهيار عصبي وقضى انتحارًا بعد محاولات عديدة. وفي كتاباته النقدية النادرة في مجلة النقاد وصف الصوفي الالتزام بأنه إلزام، ووقف ضد قصيدة النثر، وضد رابطة الكتاب السوريين التي عرفت بيساريتها وبالحضور الشيوعي فيها. ورأى الصوفي أن شعر نزار قباني فقد صفة الإبداعية، بينما امتدح قصص ميشيل عفلق، وبخاصة منها قصة (رأس سعيد أفندي) وقصة (كيف أصبحت رقم X في باريس). ولعبد الباسط الصوفي قرين من حمص ومن البعثيين الأوائل هو الشاعر عبد البرعيون السود (1922 – 1954).

وأذكر من رعيل الشعراء هذا نجم الدين الصالح (1927 – 2010) الذي كان مدرسًا للغة العربية في إعدادية الدريكيش، وكنت من تلامذته في العام الدراسي 1955 -1956، وقد قرأت له في المكتبة الوطنية في اللاذقية، عندما كنت طالبًا في الثانوية الصناعية ديوانيه (الغاب المسحور) و(زنبقة ونجم). وكان يكتب القصيدة العمودية، بينما كان الشاعر البعثي أيضًا صالح درويش (1936 – 1993) يكتب قصيدة النثر، وقد أسرتني مجموعته (أشياء عذبة) التي قرأتها سنة تخرجي من الثانوية، وكانت قد صدرت قبل ذلك بسنة.

بدأ كثيرون من أدباء البعث حياتهم العملية في التدريس والصحافة. ومن هؤلاء صابر فلحوط (1936) الذي ترأس اتحاد الصحافيين ما بين (1970 – 2006)، وسليمان الخش (1926 – 1991)، الذي كان أول رئيس لاتحاد الكتاب العرب في سورية عام 1969، وفي الآن نفسه كان وزيرًا للتربية. وقد ترجم (تاريخ الحروب الصليبية)، وله أيضًا (الفتح العربي الإسلامي في سيرة مالك بن الريب المازني).

تواتر الأدباء البعثيون على رئاسة اتحاد الكتاب منذ تأسيسه حتى اليوم، مثل حافظ الجمالي وعدنان بغجاتي (1934 -1992) الذي ترأس الاتحاد من 1973 إلى 1975، وكان وزير دولة أيضًا. وقد كتب المقالة والشعر، لكن مساهمته الأبرز كانت في ترجمة الشعر، إذ ترجم مختارات من شعر لوركا عام 1963، وترجم (رؤية شرقية، أشعار الهايكو) و(بستان الكرز، أشعار يابانية) ورواية (تحالف الأغبياء). وقد كان نصيب الأسد من رئاسة اتحاد الكتاب لعلي عقله عرسان ما بين (1977 – 2006). وحشد خلال سنواته الثمانية والعشرين حشودًا من أنصاف وأرباع الكتاب في الاتحاد، وأحكم عليه القبضة البعثية، وهذا ما ورثه عنه من خلفوه.

وبالعودة إلى السابقين أذكر إنعام الجندي (1924 – 2015) الذي كان من الرعيل المؤسس لحزب البعث في لبنان. ومن مؤلفاته في الرواية (زمن الرعب – 1961) و(الجرثومة – 2007) وله في السياسة (إلى أين يسير الشيوعيون في العراق)، وقد اشترك مع شقيقه سامي الجندي في ترجمة (مائة عام من العزلة)، وترجم (الديمقراطية بوجه داعر). ومن مؤلفاته أيضًا (المتنبي والثورة) و(دراسات في الفلسفة اليونانية والعربية).

تبرز حميدة نعنع التي بدأت شاعرةً في مجموعة (أناشيد امرأة لا تعرف الفرح) ولها روايتان مميزتان وقد عملت نعنع في الصحافة 



وكان أديب النحوي (1924 – 1998) قد اختط في الرواية والقصة سبيله المميز منذ باكورتيه في المجموعتين القصصيتين (كأس ومصباح – 1948) و(من دم القلب – 1961) إلى روايات (جومبي – 1966) و(عرس فلسطيني – 1970) و(آخر من شبه لهم – 1991). وقد غادر أديب النحوي مثل آخرين حزب البعث بعد الانفصال الذي أنهى الوحدة السورية المصرية (28 أيلول/ سبتمبر 1961) وأسس مع جمال الأتاسي وحسين حلاق وحسن عبد العظيم (الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي) وتولى الوزارة حينًا.

من الملاحظ أن وجود الكاتبات أو الشاعرات قبل 1970 كان نادرًا. وهنا تبرز حميدة نعنع التي بدأت شاعرةً في مجموعة (أناشيد امرأة لا تعرف الفرح) ولها روايتان مميزتان هما: (من يجرؤ على الشوق) و(الوطن في العينين). وقد عملت حميدة نعنع في الصحافة، ومن كتبها السياسية (طارق عزيز.. رجل وقضية)، وكان القيادي البعثي العراقي طارق عزيز هو من درّب حميدة نعنع على العمل الصحافي عندما كان رئيس تحرير جريدة (كفاح العمال الاشتراكي) في دمشق.

تكثر المفاجآت في سيرة الأدباء في البعث السوري، كما في حالات الطأطأة أمام إغراءات المناصب الوزارية أو الحزبية أو النقابية.. إلخ. لكن ما يعنينا هنا من المفاجآت هو ما يتعلق بعبور رموز ثقافية في محطة حزب البعث.

فهذا جورج طرابيشي (1939 – 2016) ابتدأ حياته الثقافية بالمراجعات والمساجلات النقدية التي بدا فيها يساريًا متشددًا في الخمسينيات.. وحسبي أن أضرب مثلًا بنقده في مجلة الآداب عام 1956 لمجموعة ميخائيل نعيمة (أكابر) وحكمه على الكاتب بأنه ليس شعبيًا ولا واقعيًا، حتى إذا تولى البعث السلطة عام 1963 كان عبور طرابيشي بالمحطة البعثية مثل عبور ياسين الحافظ، حيث أسرعا إلى مغادرة المحطة إلى الماركسية التي أوقف لها جورج طرابيشي جلّ جهده في الستينيات، ترجمةً وتأليفًا، لينتقل إلى النقد الأدبي والترجمة من بعد، فإلى الفلسفة أخيرًا.

ومن المفاجآت أيضًا أن بوعلي ياسين (1942 – 2000) عبر بالمحطة العتيدة على يد أستاذه سليمان الخش. وكما كتب، فقد غادر المحطة إثر انقلاب 1966 بينما كانت الماركسية تستميله. وهذا هاني الراهب (1939 – 2000) وحيدر حيدر من أبرز الأدباء الذين خاضوا (التجربة المرة). ولعل المفاجأة الأكبر التي تختم القول، وتتعلق بالطيب تيزيني (1934 – 2019)، هي ما رواه محمد سيد رصاص من أن تيزيني كان لا يزال عضوًا في الحزب الشيوعي عندما عاد من برلين حاملًا شهادة الدكتوراه، وقدم طلبًا للتدريس في جامعة دمشق للعام الدراسي 1969 – 1970، فجوبه الطلب باشتراط ترك الحزب الشيوعي والانتساب إلى حزب البعث، وهكذا صار الطيب تيزيني بعثيًا حتى عام 2000 (موقع إيلاف 22/5/2019)؛ وبذلك يكون آخر المثقفين من المفكرين والأدباء الذين عبروا بالمحطة البعثية، ثم غادروها بسلام إما إلى المنفى أو إلى السجن.

 

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
1 مايو 2024
استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.