}

السردية الشعرية المقدسية في أثناء الاحتلال الصهيوني

نبيل سليمان 16 أغسطس 2022
استعادات السردية الشعرية المقدسية في أثناء الاحتلال الصهيوني
القدس (Getty)

قصَّ تأبط شرًا لقاءه بالغول شعرًا، وقصّ امرؤ القيس شعرًا مغامرته مع عنيزة، أو فاطمة. وما أكثر ما اشتهر من قصص العشق الشعرية لمجنون ليلى، أو مجنون لبنى، أو جميل بثينة، أو... وقد عُني النقد، بمقدار، بالقصة في التراث الشعري. ومن العلامات الفارقة المبكرة لذلك دراسة محمد مفتاح (1942 ـ 2022) لرائية ابن عبدون الأندلسي، وحديثه عن النزعة السردية فيها، وذلك في كتابه "تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص" (1996)، حيث سيمضي النقد من بعد إلى القصيدة السردية ـ كما تفضل فريال جبوري غزول أن تقول ـ أو السردية الشعرية، كما يفضل القول آخرون ـ وأنا منهم ـ، حيث تشتغل الأسئلة عن المحكي، أو السارد، أو الحدث، أو الفضاء، أو الحوار، أو الشخصية.. وباختصار: عن آليات تحليل السرد في درس السردية الشعرية. ومن تجليات ذلك المائزة القصيدة الطويلة لكمال أبو ديب (عذابات المتنبي: سيرة ذاتية مزدوجة)، حيث يسطع التنوع الكلامي، كما يليق بالسردية الروائية، بين المحكي المغنّى (الشفوي) واللغة الواصفة، ولغة الأم، واللغة الدينية، واللغة الفكرية. كذلك هو ديوان أدونيس "مفرد بصيغة الجمع"، ومن عناصر السردية الفعالة فيه: الراوي/ الشاعر، والسيرية. ويلاحظ قطع التشكيل الموجي للقصيدة أحيانًا بالسرد العاري الذي يصف الأشياء، أو يقدم ومضة من حياة الشاعر اليومية. وتتبدى السردية الشعرية في قصيدة إبراهيم نصر الله (فضيحة الثعلب)، عبر وصف الفضاء (نيويورك)، وملاعبة ضميري الغائب والأنا/ الشاعر، والحوار، كما تتبدى في قصيدة سليم بركات (منزل يعبث بالممرات)، وذلك عبر وصف الفضاء (السور ـ الشجر ـ الحديقة ـ الدرج ـ الأشياء ـ الحجيرات...)، وعبر الشخصيات (الصديق ـ النساء ـ الراوي)؛ وليس كل ذلك غير مثال على كثير حاولت درسه في كتابي "فتنة السرد والنقد" (1994).



بالانعطافات الكبرى المتتالية منذ منتصف القرن الماضي، أخذ يتبدل في الشعرية العربية ما يتبدل، وهو ما كان أيضًا في السردية العربية. ومن تلك التبدلات كان التفاعل بين الشعرية والسردية، وبينهما وبين الزلزلة الفلسطينية، مما تتأسس عليه السردية الشعرية المقدسية. ولتكن البداية هنا مع خليل حاوي (1919 ـ 1982) في قصيدة (الأم الحزينة)، التي رسمت القدس فضاء كالحًا وموئسًا، في أعقاب هزيمة 1967:

خليل حاوي (1919 ـ 1982)

ـ ما لبيت القدس، بيت الله
معراج النجوم
ـ ليس في الأفق سوى صمت السؤال
عن حماة القدس
والعار المغنّى خلف آثار النعال.

وبمثل هذه الرسوم هو الفضاء العربي كله:
ـ ليس في الأفق سوى دخنةٍ فحمٍ
من محيطٍ لخليج
إنه الفضاء/ الصحراء/ الرمال/ الغابة/ المغارة/ سدوم/ قبر/ نهر/ خيام.. وأولاء هم العائدون/ الفلسطينيون، والوحوش المتسيدة، وحماة البيت والضحايا، و.. والشخصيتان المركزيتان، الأولى: الأنا/ الذات/ الشاعر:
ـ ما لثقل العار
هل حُمّلته وحدي؟
ـ ما التماع الناب والحربة
في وجهي المدمى
حسرتي، لحمي، دمي.
والشخصية الثانية هي الأم الحزينة التي شيعت ألف مسيح ومسيح، وليس لها غير خُصل تلقيها على طفل ذبيح، كما رسمها الشاعر. وفي كل ذلك لا تفتأ الدرامية تثري تفاعل السردية والشعرية معًا.




وهذه قدس أمين شنار (1933 ـ 2005) في القصيدة التي ربما كانت سرديتها الصريحة والمستبطنة موصولةً بالشاعر الروائي الذي كانهما أمين شنار في آن معًا.
في هذه القدس تؤرخ الأزقةُ المسنّةُ الزمانَ، مثلما تؤرخه المآذن الحزينة:
عملاقة، لكنها طعينة الأحشاء
تطل من مقابر محفورة في مهجة الضياء
وأسوار المدينة:
مرفوعة الهامات في إصرار
مصلوبة مهزومة جريحة الأبواب
تسائل القباب
عن عودة الغيّاب.

وتتلون هذه الأسوار بملحةٍ من مُلَح السرد الشعبي:

تقول، في فجيعة، أقامني سلطان
عالي عظيم الشأن

وتستوي السردية في منتهى القصيدة في الحوار الذي يقوم بين الأم وابنها، فمن تكون ومن يكون في هذا التخليق للعام في الخاص، للقدس في أم بعينها وللفلسطيني في ابن بعينه:
بنيّ، كيف يا بنيّ، يهجر الأحباب
أمًّا تهدهد الظما بدمعها المنساب؟
أمًّا تجوع، تأكل الآهات والأوصاب؟
بنيّ، عدت يا بنيّ، يا وليدي الصغير
أين الصحاب يا بنيّ؟ أين موكبي الكبير؟
أماه، يا أماه، يا مدينة الأقداسْ
مدينة الحداد والمآذن الخرساء والأجراس.

أمل دنقل (1940 ـ 1983)

 





بنى أمل دنقل (1940 ـ 1983) قصيدته (سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس: بكائيات). من سبعة إصحاحات. وبما أن السِّفر في الكتاب المقدس يتكون من إصحاح، أو أكثر، فهل تروم قصيدة أمل دنقل هذه أن تكون سِفرًا؟ وإذا كان الإصحاح يتكون من آيات عدة، فهل تروم الأسطر الشعرية في هذه القصيدة أن تكون آيات؟
لا تتعلق هذه الأسئلة بقصيدة (سرحان ...) وحدها. فلأمل دنقل سواها مما انبنى من أسفار وإصحاحات، كما في قصيدة (سفر التكوين)، التي جاءت في ستة إصحاحات، وقصيدة (سفر الخروج) التي جاءت في خمسة.
تبدأ السردية تتفاعل مع الشعرية في هذه القصيدة، إذًا، ببنائها الذي لا تفتأ الدرامية تتخايل فيه أيضًا. وأول علامات كل ذلك هي الشخصيات، ففي القصيدة أصغر وأجمل الإخوة يوسف (ذو العيون الحزينة) الذي يتقلب في الجب، والأم/ العجوز هي القدس التي يتولاها السارد/ الشاعر، فيصف حركاتها وسكناتها:
تشمّ القميص، فتبيض أعينها بالبكاء
ولا تخلع الثوب حتى يجيء لها نبأ عن فتاها البعيد.

ثم يتولى الشاعر/ السارد السردية الشعرية المقدسية في الإصحاح الأول: أرض كنعان/ فلسطين، من دون يوسف مراع من الشوك يحرسها رب الجنود، وغدها للجبناء، والأرامل لمن سيؤول إليه خراج المدينة.
للذات (الشاعر/ السارد) الإصحاح الثاني في يومها/ يومنا. والإصحاح الثالث لفيروز/ الحرب/ الجنوب اللبناني. ولئن كان الإصحاح الرابع للذات كما في الثاني، فالجديد هنا هو أن الذات تصير الأم/ القدس في نهاية الإصحاح:
ما زلت أرود بلاد اللون الداكن
أبحث عنه بين الأحياء الموتى والموتى الأحياء
حتى يرتد النبض إلى القلب الساكن
لكن.

ويرسم الإصحاح الخامس الفضاءَ عام البكاء، وذلك عبر منظر جانبي لمدينة عمّان، بينما يصير الفدائي هو الشخصية صاحبة هذه التفاصيل:
اشترى في المساء
قهوة، وشطيرة
واشترى شمعتين، وغدارة؛ وذخيرة،
وزجاجة ماء.

وبالرصاص تصير القدس هي الشخصية، عودًا إلى الإصحاح الأول، سوى أن القدس لم تعد عجوز ذلك الإصحاح:
عندما أطلق النار كانت يد القدس فوق الزناد
(ويد الله تخلع عن جسد القدس ثوب الحداد)

ويبدو أن الشاعر وقع في غواية الرقم 7، فجاء الإصحاح السابع يختم بنثرية أسيرة للراهن (كيسنجر). ولأمل دنقل قصيدته: (خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين) يصب فيها جام غضبه على صلاح الدين يأسًا مما هم عليه العرب اليوم. ومن القصيدة:
يا صلاح الدين
يا أيها البطل البدائي الذي تراقص
الموتى
على إيقاعه المجنون
يا قارب الفلين
للعرب الغرقى الذين شتتهم سفن
القراصنة
وأدركتهم لعنة الفراعنة
وسنة.. بعد سنة..
صارت لهم حطين
تميمة الطفل، وإكسير الغد العنين.

محمود درويش  (1941 ـ 2008)

 

ربما كان محمود درويش (1941 ـ 2008) من أكثر الشعراء الذين أبدعوا في السردية الشعرية بعامة. ومن كثيره هذا الذي يتعلق بالقدس من ديوان (لا تعتذر عما فعلت)، ابتداءً باللغة العارية التي سرعان ما تنعطف عن عرائها إلى شعريتها:
في القدس، أعني داخل السور القديم
أسير من زمنٍ إلى زمنٍ بلا ذكرى
تصوبني، فإن الأنبياء هناك يقتسمون
تاريخ المقدس..

ويسرع الشعر إلى الاشتباك في السرد، لنرى الشاعر/ السارد يتحدث عن نومه ومنامه وسيره فوق منحدر... ولا يني الشاعر ينفرد بالمقام، فإذا جرحه وردة إنجيلية، ويداه مثل حمامتين على الصليب، وهو بين التجلي والمعراج والجندية الإسرائيلية.
من نماذج الشعرية السردية الكبرى، وربما ليس فقط في شعر محمود درويش، هي قصيدة (الأرض) من ديوانه (أعراس). وأول ذلك هي الحكاية:
في شهر آذار.. في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض
أسرارها الدموية ـ في شهر آذار مرت أمام
البنفسج والبندقية خمس بنات ـ وقفن على باب
مدرسة ابتدائية، واشتعلن مع الورد والزعتر.

وسرعان ما تصير الحكاية مشهديات، ناظمها وإيقاعها هو البنات الخمس اللاتي يقتحمن جنود المظلات، ويسقطن على باب المدرسة. وللحكاية شخصياتها وأحداثها وحوارها. فالراوي يسرد من سيرته، ومن الشخصيات هو ذا المراهق، له أول حب، والمقاتل له أول سجن. أما الشخصية المحورية فهي خديجة. ومن الحوار السردي:
.. (خديجة):
ـ أين حفيداتك الذاهبات إلى حبهن الجديد
ـ ذهبن ليقطعن بعض الحجارة
قالت خديجة وهي تحث الندى خلفهن.

وفي الحوار أيضًا من المعتقل:
ويستجوبونه: "لماذا تغني؟"
يرد عليهم: "لأنني أغني"!

ومن بداية القصيدة الطويلة إلى منتهاها لا تفتر المخيلة ولا يفتر التخييل، وصولًا إلى الخاتمة التراجيدية:
أيها الذاهبون إلى جبل النار
مروا على جسدي
أيها الذاهبون إلى صخرة القدس
مروا على جسدي
أيها العابرون على جسدي
لن تمروا.

تميم البرغوثي 

 




تزاوج قصيدة تميم البرغوثي (في القدس) بين ما رأينا من السردية الشعرية المقدسية في عمود الشعر، وفي الشعر الحر. فهو يبدأ القصيدة عموديًا بزبدة الحكاية، أو بالخبر المركّز: قانون الأعادي، وسور دار الحبيب (القدس) منعا الراوي/ الشاعر من دخول المدينة، لذلك تراه يعزي نفسه:
فماذا ترى في القدس حين تزورها؟ ترى كل ما لا تستطيع احتماله...
وسرعان ما تتدفق المشهديات المقدسية السردية، مثل بائع الخضرة الجورجي البرِم بزوجته، الشرطي الحبشي يغلق شارعًا، رشاش الشاب المستوطن، القبعة (اليهودية) التي تحيي حائط المبكى، السياح الذين يلوّح وصفهم بالإفرنج إلى الصليبين.. ويوقّع لهذا التدفق عنوان القصيدة (في القدس)، وتطويره إلى (في القدس من في القدس إلا أنت).
يشتقّ الشاعر من التاريخ وكاتبه شخصية تخاطبه ويخاطبها فيما تتوالى المشهديات السردية تتشعرن حينًا، وتتنثرن أحيانًا، كأن نقرأ:
في القدس أبنية حجارتها اقتباسات من الإنجيل والقرآنْ.
أو نقرأ:
في القدس تعريف الجمال مثمّن الأضلاع أزرق
فوقه، يا دام عزّكَ، قبة ذهبية،
تبدو برأيي، مثل مرآةٍ محدبةٍ ترى وجه السماء ملخصًا فيها.

وهكذا تمضي القصيدة من السماء التي (نحملها على أكتافنا حملًا إذا جارت على أقمارها الأزمان) إلى النوافذ التي تعلو المساجد والكنائس،
أمسكت بيد الصباح تريه كيف النقش بالألوان،
وهو يقول: "لا بل هكذا"،
فتقول: "لا بل هكذا".

يتألق اندغام السرد بالشعر وفعل واحدهما بالآخر عندما يؤرخ الشاعر للقدس بالمملوك الذي جيء به من وراء النهر إلى سوق النخاسة، في أصفهان، فبيع إلى تاجر بغدادي مضى به إلى حلب، لكنه خاف من زرقة عين المملوك اليسرى، فأعطاه إلى قافلة مضت به إلى مصر. وبعد سنوات صار المملوك غلّاب الملوك، وفازت القصيدة في التحدي الذي ضرب التاريخ بالشعر والنثرية بالسردية، ولا تفتأ القصيدة تبدع في سرديتها الشعرية المقدسية إلى أن يميل سائق السيارة الصفراء في الختام عن باب المدينة، وإذا بالقدس صارت خلفًا، فبكى الشاعر/ الراوي، ففاجأته بسمة معاتبة بما لعله نبض السردية الشعرية المقدسية بعامة، وليس فقط في شعر تميم البرغوثي:
لا تبك عينك أيها العربي واعلمْ أنه
في القدس من في القدس لكن
لا أرى في القدس إلا أنت.

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
1 مايو 2024
استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.