}

"المخيلة دائما على حق".. عن الأحلام والأدب

تغريد عبد العال 28 أغسطس 2022

"المخيلة دائماً على حق". هذا ما قاله غابرييل غارسيا ماركيز. فهل كان الأدب يومًا طريقًا لأحلامنا؟ هل اختبر قوتها وسحرها؟ كيف ألهمت الأحلام روايات عالمية؟ وكيف تحدث بعضها عن الأحلام؟ ربما تكون الأحلام مادة جاذبة لنصوصنا الشعرية والروائية، وهنالك أيضًا بعض الروايات والقصائد التي تحدثت عن الأحلام. يجعلنا ذلك نسأل سؤالًا ضروريًا: هل ابتعدت تلك الروايات والنصوص عن الواقع؟ أم تناولت معضلاته بطرق مختلفة؟
في كتابه "شاعرية أحلام اليقظة"، يميز الناقد الفرنسي، غاستون باشلار، بين الأحلام والتأملات الشاردة، أي أحلام اليقظة. فهو لا يقلل من أهمية الأحلام الليلية، ويحتفي بالأحلام النهارية. فيزعم أن الأحلام الليلية ما هي إلا تعبير عن مخاوفنا. بينما الأحلام النهارية هي المعبر الحقيقي عن آمالنا الدفينة. ويقترح مصطلحًا للأحلام النهارية هو التأملات الشاردة، تلك التأملات التي تنتابنا بعد أن نستيقظ، ولكنها كما يقول تبلغ حدها الأرقى والأجمل حينما تصبح مقصودة لذاتها. وأما بلوغ درجة الكمال في امتداح هذه التأملات الشاردة فهو وقف على الشعراء، الذين يملكون القدرة على التعبير عن محصلة هذه التجربة الفريدة، فيقول واصفًا الحب والشعر: ما تزال هنالك أرواح قد يجمعها في الحب قصيدتان. قد يجمعها في الحب حلما يقظة معًا.
ورغم أن هنالك كثيرًا من القصائد التي كانت تستلهم الأحلام في كتابتها، علينا ألا ننسى أن الكتابة في النهاية تجربة حياة، والحلم هو جزء منها.




يقول الشاعر الأرجنتيني، روبيرتو خواروث، في إحدى قصائده: كل كلمة نحلم بها، قبل/ أن تصير قصيدة/ حتى تخرج من ساحة العرض/ وسوق الكلمات/ وتقفز خارج خشبة المسرح/ وتستسلم لمنطقة السر/ حيث الهواء قليل هناك.


روايات تولد من حلم






من منطقة السر تلك ولدت بعض الروايات، لا سيما تلك الرواية المهمة التي ألهمت الكاتب الإنكليزي لويس ستيفنسون، وأتت فكرتها من خلال حلم رآه أثناء نومه. إنها رواية الحالة الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد. هي قصة المحامي اللندني غابرييل جون أترسون الذي يقوم بالتحقيق في علاقة شائكة وملتبسة بين صديقه القديم الدكتور جيكل، وشخص شرير يدعى إدوارد هايد، قبل أن يتبين أنهما شخص واحد. هو تصوير بديع للطبيعة البشرية والصراع الأزلي بين الخير والشر. يروي ستيفنسون كيف حلم بفكرة الرواية في مقالة مستفيضة بعنوان "فصل في الأحلام". فيقول: منذ زمن وأنا أحاول أن أكتب عن هذا الموضوع، أن أجد صيغة، أو آلية، تعكس ذلك الإحساس القوي بازدواجية الوجود الإنساني، التي لا بد وأن تطغى على عقل كل كائن مفكر. لمدة يومين وأنا أعصر ذهني بحثًا عن حبكة ما، وفي الليلة الثانية حلمت بمشهد النافذة، أعقبه مشهد مقسوم إلى جزأين يقوم به هايد، الملاحق لسبب ما، بتناول مسحوق ليتغير شكله في حضور مطارديه. وهكذا استيقظت فاني، في أواخر سبتمبر من العام، على صرخات زوجها المذعورة في ساعات الفجر الأولى، معتقدة أنه مر بكابوس، فأيقظته. فما كان منه إلا أن أبدى انزعاجه محتجًا: لماذا أيقظتِني؟ كنت أحلم بحكاية مخيفة رائعة.
وهكذا استلهم ستيفنسون الحبكة والشخصيات من حلمه.
ثمة رواية أخرى كتبتها الروائية الإنكليزية الشابة، ماري شلي، التي كانت في العشرين من عمرها يومها، هي "فرانكشتاين". لا يمكن تجاهل حجم التأثير الذي تركته هذه الرواية في الساحة الأدبية العالمية. وفرانكشتاين تعني الوحش، وهي تروي قصة عالم شاب يحاول أن يضخ الحياة في كائن بشع ومشوه. أتت الفكرة إلى رأس ماري بعد سهرة في منزل الشاعر الإنكليزي بايرون، ورفيقه الشاعر بيرسي شيلي. اقترح بايرون كتابة قصة عن الأشباح، لكن ماري شعرت أن مخيلتها قد جفت. وحين أوت إلى فراشها، رأت حلم يقظة لشاب شاحب الوجه ينحني أمام الشيء الذي ركبه وجمعه، وكان هذا الشيء أقرب إلى شبح قبيح. وهكذا ولدت فكرة فرانكشتاين.


الرواية الحلم



ربما لا ننسى "أليس في بلاد العجائب"، وكيف سارت الرواية في طريق الحلم. فتجلس أليس بجانب أختها على منحدر، تتململ من الضجر، تلقي نظرة على كتاب أختها، فلا تقع عينها على صور ولا حوارات، فلا يثير الكتاب اهتمامها. ولأن الجو حار وخانق، يداهمها النعاس، فتنزلق إلى النوم، ويبدأ الحلم/ الرواية. يمر أرنب يحدث نفسه، فيلومها على التأخير، لا تبدي أليس أي دهشة، وذلك شأن الحالم، إذ تبدو أكثر الأحداث غرابة في المنام طبيعية جدًا. يقول القارئ الشهير ألبيرتو مانغويل عن "أليس في بلاد العجائب": إننا لا نعرف عملًا يقاربه في التوظيف الأمثل لجميع عناصر الحلم بكل كفاءة وإتقان.. وأكد أنه لا يلبي دعوة حتى لو لفنجان قهوة من شخص لا يحب "أليس في بلاد العجائب".


رواية حلم
هنالك في المقابل روايات كانت الأحلام فيها حاضرة، كرواية إميلي برونتي الكلاسيكية "مرتفعات وذرينغ". ففي بداية الرواية يرى السيد ليكوود كابوسا وهو يمضي الليلة في غرفة كاثرين. وفي نهاية الحلم، تأتي اليه كاثرين من خلال النافذة، بينما هو يحاول أن يبقيها في الخارج. تأتي الأحلام في هذه الرواية وكأنها محرض على اكتشاف الحقائق.





ولكن في رواية النمساوي أرتور شنيتسلر "حلم" شيء مختلف عن الأحلام. الرواية صدرت ترجمتها حديثًا عن دار الكرمة في القاهرة، وعلى غلافها الأمامي لوحة العذراء لغوستاف كليمت. وأرتور شنيتسلر هو طبيب وروائي ولد في فيينا، وتعرف إلى أهمية سيغموند فرويد، واستفاد من منجزه في مجال التحليل النفسي في الأدب الذي كتبه. كان مهتمًا جدًا بالحالة النفسية لشخصياته. في هذه النوفيلا التي تدور أحداثها في فيينا، تعترف الزوجة لزوجها بنزوة جنسية عابرة. قادهما ذلك إلى عالمين داخليين خاصين جدًا مليئين بأحلام الانتقام. وكاد ذلك أن يؤدي بهما إلى الانفصال.
يؤجج الأزمة حلم تراه الزوجة، يشعر بعدها زوجها من معانيه القاسية برغبتها الصارخة في الانتقام منه، حتى وإن كان داخل عقلها الباطن وحسب. يقود هذا الحلم الزوج إلى عالم مجنون غارق في الألغاز، ليتمرد على هدوء إيقاع حياته كطبيب صالح.
هنا تبدو الأحلام وكأنها منعطفات نحو عوالم أخرى مختلفة نتساءل فيها ما هي الحقيقة، وما هو الخيال؟


قصص وقصائد أخرى
ولا ننسى هنا الكاتب الأرجنتيني بورخيس، فقد كانت الأحلام جزءًا من تجربته في الكتابة، وقد اعتاد أن يدوّنها كل صباح، ثم أن يقصّها لأمه العجوز، ولزوجته، في ما بعد.
وهنالك أيضًا الشاعر الأميركي، إدغار آلان بو، الذي كان يعول على الكوابيس في كتابة قصائده. وكافكا هو الآخر كان يعتمد على الأحلام، فهو الذي حول غريغور سامسا إلى حشرة ضخمة بعد ليلة مليئة بالأحلام المزعجة. ورأينا الأحلام أيضًا في إلياذة هوميروس، وفي "الحرب والسلم" لتولستوي، و"الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي.




لكن هل ابتعدت هذه الروايات عن الواقع؟
في الحقيقة، كانت تحمل هذه الروايات هموم الواقع بكل مشاكله وصراعاته، ولعلها قدمت رؤية جديدة له. فكما قال الكاتب الفرنسي جيروم فيراري: "أعتقد بأن الخيال لا يناقض الواقع، بل يطهره، بالمعنى الكيميائي، ويجعله واضحًا ومرئيًا". وهكذا تخبرنا الأحلام بما نخاف منه في الواقع، أو ما نتوق إلى رؤيته، فنرى هواجسنا في شخصيات أخرى.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.