}

في الذكرى المئوية لميلاد إيتالو كالفينو: حدائق متشعبة

سناء عبد العزيز 20 أكتوبر 2023
استعادات في الذكرى المئوية لميلاد إيتالو كالفينو: حدائق متشعبة
ولد كالفينو يوم 15 أكتوبر قبل مئة عام (Getty)
إيطاليا تحب مبدعيها. هذا أول ما يتبادر إلى الذهن عند متابعة الأنشطة والفعاليات التي أعدتها على مدار العام احتفالًا بالذكرى المئوية لميلاد إيتالو كالفينو. وشملت عددًا من المؤتمرات لمناقشة أعماله واستشرافها للحظة الراهنة، إلى جانب معارض تضم مجموعة من اللوحات لرسامين إيطاليين وعالميين حاولوا تفسير أجوائه الأسطورية، بينما ركزت أخرى على علاقته الوثيقة بالفنون التصويرية، وهو الذي طالما اعتبر الرواية فنًا بصريًا يسمح بفتح نوافذ للقارئ في الصفحة الصماء.
في السياق نفسه، خصص "مهرجان كامبانيا ليبري للقراءة والاستماع" نسخته الثانية لمناقشة فلسفة "الخفة" عند كالفينو، ما جعل نابولي على موعد جديد مع الكتاب والمثقفين والفلاسفة والصحافيين والناشرين من جميع أنحاء العالم. كما صدرت سيرة ذاتية باللغة الصينية هي الأولى من نوعها بعنوان "العيش على الشجرة: كالفينو"، تقدم لمحة حميمة عن حياته ومساره الأدبي، وتتضمن يوميات ورسائل وأكثر من 300 صورة نادرة من ألبوم العائلة.
وفي لفتة رسمية للإشادة بالكاتب، الذي ألهمت أعماله المسرح والسينما والفنون، وترجمت إلى 56 لغة في 67 دولة و12 أبجدية، أصدرت وزارة المالية الإيطالية عملة فضية لهواة الجمع تحتوي على صورة لكالفينو على وجه منها، ومشهد من "البارون ساكن الأشجار" (1957) على الوجه الآخر. أما المفاجأة الكبرى فهي صدور مجلد كبير من غاليمار يحتوي على معظم مراسلات كالفينو من عام 1940 إلى عام 1985؛ ورواية غير معروفة بعنوان "شباب البو"، لم تنشر من قبل لا في إيطاليا، ولا في أي مكان آخر.

واقعية بلا ضفاف
ولد كالفينو يوم 15 أكتوبر/ تشرين الأول قبل مئة عام في سانتياغو دي لاس فيغاس، إحدى ضواحي هافانا، كوبا، لكن إيطاليا هي البلد التي تبنته منذ أن رحل إليها مع أسرته بعد عامين من ولادته. وعندما احتل الألمان شمال إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية، تهرب من التجنيد الفاشي، وانضم إلى الثوار، مستخدمًا الاسم الحركي "سانتياغو". نتيجة لذلك، احتجز النازيون والديه كرهائن لفترة طويلة. كتب كالفينو عن محنة والدته يقول: "لقد كانت مثالًا للشجاعة والمثابرة، تصرفت بكرامة وحزم أمام قوات الأمن الخاصة والميليشيات الفاشية، وخصوصًا حين تظاهر أصحاب القمصان السوداء ثلاث مرات بإطلاق النار على والدي أمام عينيها. إن الأحداث التاريخية التي تشارك فيها الأمهات تكتسب عظمة الظواهر الطبيعية وسطوتها".




مثلت هذه اللحظة نقطة الحسم في حياة كالفينو الممزقة بين اهتمامات أسرته العلمية وميوله الأدبية الجامحة، فما إن انفضت المعركة، حتى ترك كلية الزراعة إلى غير رجعة، والتحق بالآداب إلى أن تخرج منها بأطروحة عن جوزيف كونراد 1947، وفي العام نفسه صدرت روايته الأولى "الطريق إلى عش العناكب/ Il sentiero dei nidi di ragno".
غير أن اسم كالفينو لم يكتسب ذيوعًا في إيطاليا إلا مع صدور ثلاثية "أسلافنا" ("الفسكونت المشطور" ـ 1952، "البارون ساكن الأشجار" ـ 1957، "فارس بلا وجود" ـ 1959)، والتي كشفت عن نهجه التجريبي المستمد من التراث. ومن خلاله استطاع تشكيل صورة معاصرة لما تمر به الذات من تشرذم وازدواجية لا ينبغي السكوت عليهما. في الرواية الأولى، تتسبب قذيفة في شطر الفسكونت ميداردو إلى نصفين، أحدهما سادي ومتسلط، والآخر على النقيض تمامًا، لكن كلا النصفين يجتمعان على حب امرأة واحدة، ولولا هذا الحب ما حدث الالتئام، حيث تتسع الذات في باحته الغناء لتجمع بين التناقضات كافة، وتوحدهما في كائن بشري هو مزيج من الخير والشر معًا. وفي "البارون ساكن الأشجار"، قام كالفينو بتشكيل حلقات مشوقة من حياة فتى مفتون بالقراءة يختلف مع قيم عائلته الأرستقراطية، فيفر إلى فروع الأشجار، ويتخذها مسكنًا، ما يتيح له لأول مرة مصادقة الحيوانات والفلاحين واللصوص، وتخليق قصص من داخل القصص، بينما يواصل القفز كالقردة حتى يمسك ذات يوم بمنطاد عابر ويختفي في السماء مع تلويح والدته الجنرالة، بالأعلام العسكرية.



تعكس الحكاية تلو الأخرى مدى رغبة كالفينو في الوصول إلى الكمال، وكيف فطن أثناء الرحلة إلى استحالة ذلك في عالم ناقص، فإذا به يتتبع في "فارس بلا وجود"، بدلة فارغة كرمز للفروسية، من دون كيان تحتويه. غير أن كالفينو المحب لتقاليد الحكي الشفاهي دائمًا ما ينهي الصراع بما يرسم البسمة على شفاه القارئ، حيث يعثر الدرع الفارغ على شخص حقيقي يستحق أن يرتديه.

صورة وكتابة
بعد "أسلافنا"، انتقل كالفينو إلى منطقة جديدة لا تتوخى الكمال الملحمي بأفقه الساذج في عصر الذرة، وإنما تستعين بالتلاعب والنقصان في تتبع تشظيات الواقع ورسم وجوه غامضة للإنسان الجديد أحادي البعد في زمن اللايقين. في روايته "حانة الأقدار المتقاطعة" (1969)، استعان بورق التارو ليستنبط منها قصص أبطاله الذين أصيبوا بصدمة غامضة، ولجأوا إلى الصورة لوصف مغامراتهم. وعلى طول الكتاب، تتوزع أوراق التارو مصحوبة بالقصة، حتى يتشكل من مجموعها عالم فضفاض من "عدد محدود من العناصر التي تتضاعف إلى مليارات المليارات". وبرغم دلالة الأوراق على حظوظ البشر، يصف كالفينو كتاب التارو بأنه "الأكثر إعدادًا بين كل ما كتبته. لا شيء فيه متروك للصدفة. لا أعتقد أن الصدفة يمكن أن تلعب دورًا في أدبي".
وفي حين تستحضر "حانة الأقدار" تراث أريوستو وشكسبير، يستوحي كالفينو "مدن غير مرئية" (1972) من كتاب "المليون" لماركو بولو، و"المدينة الفاضلة" لتوماس مور. وهي تبدأ في مدينة ناسها مسحورون، وتنتهي في أخرى ظالمة، تخفي داخل أسوارها مدينة عادلة كلاهما تلتف حول الأخرى بحيث يتعذر فصلهما.




وكما كانت تحكي شهرزاد على مسامع الملك، يحكي ماركو بولو على إمبراطور الصين، كوبلاي خان، قصص الأماكن التي زارها، والرحلات التي خاضها. وكلما توغل في الحكي، وتراكمت المدن فوق بعضها، اتضح للقارئ أنها في مجملها ليست إلا مدينة واحدة غير مرئية، هي البندقية، التي أحبها كالفينو كما أحبته، وأصبحت مسرحًا لأعماله، يعترف بولو: "في كل مرة أصف فيها مدينة ما، أقول شيئًا عن البندقية".
لكن المدهش حقًا في الكتاب، حين يكتشف القارئ أنه حيال راو لا يعرف اللغات الآسيوية، ويتخذ من الصياح والقفز والإشارات وسيلة لتوصيل القصة، إنه ببساطة لا يملك فصاحة شهرزاد. إلا أن وسيلته المبهمة في تبليغ القصة تركت نوافذ للخيال ليملأ الفجوات على قدر جموحه، ما يعزز فكرته عن اللغة كعائق أمام الخيال.
لقد استولت فكرة التلقي على كالفينو، حتى أنه استهل روايته المضادة "لو أن مسافرًا في ليلة شتاء" (1979) بمخاطبة القارئ مباشرة: "أنت على وشك الشروع في قراءة رواية إيتالو كالفينو الجديدة، لو أن مسافرًا في ليلة شتاء. استرخ. ركز. دع العالم من حولك يتلاشى".
لوهلة نتخيل أنها مجرد حيلة لتوريط القارئ، وما إن تنكشف اللعبة، حتى يدرك ذلك القارئ المتردد بين عناوين الكتب، أنه هنا البطل. في البداية، ينتقل إلى المكتبة حيث يختار، بعد فرز مئات الأغلفة، عنوانًا مبتورًا "لو أن مسافرًا في ليلة شتاء" ليكتشف بعد ثلاثين صفحة أن نسخته تم تجميعها من مسودة واحدة، فالصفحات السابقة تتكرر باستمرار. وتمتد رحلة القارئ مع الكتاب لتنتهي على شاكلة رحلة عوليس عند جويس، وقد تقلص القراء إلى قارئين يستلقيان على سرير واحد، بينما تتقلص كل الخيارات في كتابين وقد انتهى أحدهما المعنون بأول جملة الشرط "لو أن مسافرًا في ليلة شتاء" من دون جواب يذكر.

كائن بلا خصال
عبر مشواره التجريبي، كان أكثر ما يخشاه كالفينو أن يكرّر نفسه، كتب يقول "لهذا السبب يكون عليَّ، في كل مرة، أن أبحث عن تحدٍّ جديد كي أواجهه، بدعة غير مسبوقة، شيء يتجاوز إمكاناتي قليلًا". في "السيد بالومار"، آخر رواية نشرت في حياته (1983)، منح بطله الهش اسم مرصد بالومار، في كاليفورنيا، حيث يقبع أضخم تلسكوب في العالم، بوسعه رصد الأجسام في السماء بمقاييس ودرجات سطوع مختلفة.



في المقابل، يقف السيد بالومار بحجمه الضئيل "قصير النظر بعض الشيء، شارد الذهن، ومنطوِ على نفسه". تنعكس هذه الهشاشة بدورها على بنية الرواية، حيث تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وكل منها ثلاثة فروع، ثم إلى ثلاث مقالات صغيرة، ليصبح المجموع 27 مقالًا قصيرًا، فهل تكفي لملء حياة إنسان!
إن ما يفعله كالفينو تحديدًا يشبه إلقاء حصاة في ماء راكد، فإذا بالدوائر تتسع وتتسع لتضيف شيئًا عن بطله حتى يغيب عن مرمى أعيننا. في المشهد الأخير، يقرر السيد بالومار أن يكرس نفسه لوصف كل لحظة من حياته، وعندما يصفها كلها لا يعود يفكر في الموت. وفي تلك اللحظة، تحديدًا، يموت!
خلال صيف 1985، كان كالفينو قد انتهى من كتابة سلسلة من المحاضرات ليلقيها في جامعة هارفارد، غير أن القدر لم يمهله، فما إن حل الخريف حتى أصيب بجلطة دماغية مات إثرها أثناء الليل بين 18 و19 سبتمبر/ أيلول في مستشفى سانتا ماريا ديلا سكالا في سيينا. أما عن المحاضرات فقد نشرت بعد وفاته تحت عنوان "ست وصايا للألفية القادمة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.