}

فلسطين في روايات حليم بركات وأديب نحوي وهاني الراهب

نبيل سليمان 30 نوفمبر 2023
استعادات فلسطين في روايات حليم بركات وأديب نحوي وهاني الراهب
من اليمين: حليم بركات، هاني الراهب، وأديب نحوي

على الرغم من أن الزلزال الفلسطيني الذي تسمّى بالنكبة عام 1948 كان زلزالًا سوريًا بامتياز، فقد تأخر الحضور الفلسطيني في سورية روائيًا قرابة العقدين، دون أن نغفل الالتماعة في رواية (قوس قزح – 1946) لشكيب الجابري (1921 – 1996)، وذلك في مشهد (صهيوني يتكلم). ومثل ذلك ما جاء في رواية (جيل القدر – 1961) لمطاع صفدي (1929 – 2016). أما تأخر هذا الحضور الفلسطيني فيتعلق بالاشتغال الروائي بخاصة بالوجود والماركسية والقومية العربية... حتى إذا كان الزلزال الذي تسمى بالنكسة عام 1967، أخذ الحضور الفلسطيني روائيًا يتواتر في سورية. وتبرز هنا رواية (عودة الطائر إلى البحر – 1969) لحليم بركات (1933 – 2023). وكانت باكورة الكاتب (ستة أيام) قد صدرت عام 1961، وساد اعتبارها نبوءة بحرب الأيام الستة عام 1967، على الرغم من أن الكاتب نفى عنها ذلك مرارًا.

تتمحور الرواية الثانية حول شخصية رمزي الصفدي الذي يعود إلى عمّان من الخارج بعد هزيمة 1967، ويصعقه تدفق اللاجئين ملء الشوارع والمخيمات. وبينما تضيق الرواية بالمبالغات عن المعارك في أريحا أو القدس، وبنتوء الخطاب الأيديولوجي، تنير مشاعر رمزي كلمة (الفدائي) وتعيد له اعتزازه بعروبته. فالفدائي بحسبه شقّ ليل الهزيمة، والفدائي هو جسر العبور العربي الوحيد إلى المستقبل، والفدائي "يقتنص الحياة من خلال موته". وتحدّث سلمى رمزي عن أم الفدائي التي ترفض أن تتلقى العزاء، بل تطلب التهنئة باستشهاد ابنها، وهي "ترى في موته عرسه".

بعد سنة، أي في عام 1970، تظهر رواية (عرس فلسطيني) لأديب نحوي (1920 – 1998). وليس هذا العرس سوى عرس الفدائي فهد البصاوي الذي مضى إلى قبر والد عروسه فاطمة خلف الحدود ليطلب يد الابنة من أبيها الشهيد، كما ذهبت فاطمة إلى قبر أمها للغاية نفسها. وقد عاد العريس على أكتاف رفاقه شهيدًا، وكانت لنا هذه الرواية القصيرة التي تنبض بالملحمية وبالتراجيدية وهي ترسم البطولة الفردية، والجماعية، والطبيعة (السيل).

ولأديب نحوي روايته الأخيرة (آخر من شبه لهم – 1991) التي تتقد فلسطينيتها، باللغة التي أبدعها الكاتب لجميع رواياته، حيث النفحة الشعبية والحكائية. وقد أوقف الكاتب ثلثي روايته الأخيرة على العملية الفدائية التي نفذها خالد محمد أكر ورفاقه في 25/ 11/ 1987 بالطيران الشراعي، وأعلنت عنها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة. وفي هذا الشطر الأكبر من الرواية، والذي يطيل في تقديم الجنرال آمنون شاحاك (رئيس الأركان الإسرائيلي فيما بعد)، تصور الرواية تنفيذ العملية الفدائية، والبحث الإسرائيلي المحموم عن فدائي، فآخر، فآخر... وكلٌّ يظهر ثم يختفي، كما في الحكايات. لكنها الحكايات الحقائق، كما نرى في ثلث الرواية الأخير، في زمن الانتفاضة، حيث ملاحقة الفدائيين في إصبع الجليل، والكلاب التي تقصّ الأثر، والمجهول الذي يظهر في الخليل، ويخطب في الخليليين مطلقًا الشرارة التي تجعلهم يحررون مدينتهم. ومن بعد يظهر الفدائي المجهول في جامع الشجاعية في غزة، وفي الكنيسة الارثوذكسية في رام الله، وفي مخيم جباليا في أربعين الشهيد أبو جهاد... وتبلغ الرواية ختامها بالقناص الإسرائيلي الذي يطلق الرصاص على آخر من شبه له أنه الفدائي المختفي.

ومن الملحوظ أن الشخصيات الروائية، من شاحاك إلى الفدائي، شكت من يباسها، وهو ما يبدو بجلاء لدى المقارنة بين الفدائيين فهد البصاوي ومحمد خالد أكر.


هاني الراهب المسكون بفلسطين

من روايته الأولى (المهزومون – 1961) إلى (شرخ في تاريخ طويل) ومن بعدها إلى رواية (ألف ليلة وليلتان – 1977) يواصل هاني الراهب النزوع الحداثي في البناء الروائي واللغة الروائية، ليرسم شخصيات شبابية بخاصة، مهجوسة بالجنس والوجودية والتمركس والقومية في إهابها البعثي بخاصة.
حضرت فلسطين في العديد من روايات هاني الراهب (1939 – 2000). ففي رواية (شرخ في تاريخ طويل – 1970) يقيم أسيان – الشخصية المحورية - علاقة مع الفلسطينية لبنى (26 سنة) والمتزوجة من ضابط، وتدرس في الجامعة حيث حملت لقب (شجرة الزنا) بسبب تعدد علاقاتها. وحين غاب زوجها في مهمة عسكرية في موسكو صارت تلتقي أسيان يوميًا، وقررت الانفصال عن زوجها. ولكن حين عاد الزوج عاد الوئام بينهما. ويربط الكاتب بحساسية بالغة ورهافة، في نهاية الرواية، بين لبنى المرأة ولبنى الفلسطينية التي تتطلع إلى مربع الطفولة: يافا. أما مجد شقيقها فهو طالب جامعي يكتب الشعر، وعاشق لتركية التي يشبّهها بفلسطينه التي انتزعها اليهود منه. ولفلسطين مجد عشاق كثر، وليس بوسعها أن تكون له، وهو الذي يضطرم تعلقه بها كلما تضاعف عشاقها. وقد تزوج مجد من بعد بطبيبة الفقراء شجن التي تناقض تركية في كل شيء. لكن مجد يخفق أيضًا مع شجن، ويقرر الهجرة إلى غينيا طلبًا للبدائية وفرارًا من الحضارة، وثمة، في مهجره ينتحر. أما أسيان فيقيم علاقة مع شخصية فلسطينية ثانية هي مرام. وبعد بتر العلاقة تقضي بالسم منتحرة، أو أن شقيقها سمّمها عقابًا على ما هو نشوزها بحسبانه.

في رواية (بلد واحد هو العالم – 1985) يتألق هاني الراهب في بناء شخصية روائية بالغة التألق، هي (أم عبودة) الفلسطينية الصفدية التي قضى من قضى من ذويها بين سنتي 1947 – 1948، فلجأت إلى دمشق، واضطرت إلى العمل خادمة، تتجرع الثقة العمياء بالراديو الذي سيعلن نبأ استرداد البلاد. لكن زوجها قتل عام 1970، وابنها عبودة قضى عام 1977، والراديو لم يعلن نبأ العودة.

في الدار الكبيرة التي تتوزعها أسر عديدة، تلتقي أم عبودة بالشخصيتين المحوريتين علوان وزوجته نازك. وستكون الدار مسرح صراعات على طرد المستأجرين وتشييد البديل الذي يضاعف ثروة أم اللولو – رايدة تعمل كيوبيتز، كما تقول أم عبودة – ومن يقع في الشبكة واجهة لها: علوان. لكن أم عبودة بالمرصاد، وبخاصة بعدما أطلق علوان الرصاص ليبعد الأولاد (الأشقياء).

بعد هزيمة 1967 تقول أم عبودة لنازك إن أسرًا كثيرة نازحة – والنازحون هو لقب من نزحوا من الجولان بعد احتلال إسرائيل له – حلمت بالعودة السريعة، ولكن "يا حسرة مثل رجعتنا". وعندما سال الدم دفعت أم عبودة بالخرقة المدماة إلى وجه علوان، وصاحت: "الصهاينة لطخوا أيديهم بدمنا. خذ أنت لطّخ وجهك"، وهدرت: "يمكن إحنا مكتوب علينا يجري دمنا، لكن لا بد ما نجري دم عدوّينا. خد بالك. مش كل مرة نقبل نصير لاجئين. هالوكيت، يا الموت يا الدار. وأوتيلات وسياحة على جثثنا ما فيش". أما علوان الذي أنجز انسلاخه الطبقي والفكري، وتبرأ من ماضيه، فيخاطب أم عبودة، هو كممثل لجمهرة من علية القوم، وهي كممثلة للفلسطينيين، بعدما تحولت صفة (الفلسطينية) من الوطن إلى المنفى: "تعالوا اركبوا علينا لأنكم لاجئون. صارت فلسطين قميص عثمان، وهات يا تجارة. عندكم أصحاب ملايين أكثر من أي بلد في العالم". وبينما يتحد الرعاع والفلسطينيون ضده وضد سيدته أم اللولو، يتابع "خلّي هالأولاد يشتغلوا فدائيين بدل هالانحطاط والحيونة". وقد انتصر وسيدته بانتزاعهم من البلدية قرار الهدم، فخرجت أم عبودة من الدار مع من خرج، وسُمع صوت سعدون معرّضًا بزلزال 1967: هذه نكسة لا هزيمة.

حاضرة على الدوام هي فلسطين في عالم هاني الراهب. ويتجلى ذلك في رواية (ألف ليلة وليلتان) عبر أسرة أم خلف التي لجأت إلى دمشق بعد (النكبة) مخلفة زوجها الشهيد، ومسكونةً بالذكريات، وبما آلت إليه الأحوال من أخبار الفدائيين، إلى الغارات الإسرائيلية قبيل حرب 1967... ويشكل ابنها محمود النحات وعامل المطبعة والمثقف، مع السوري العامل إمام - وأم إمام فلسطينية أيضًا – البديل الثوري العمالي الذي ترسمه الرواية لما بعد الهزيمة/ النكسة/ الزلزال (1967).

وإذا كان محمود يعامل أمه كالخادمة فهو الذي يجلجل "نريد شعبًا من الديناميت الآن وليس غدًا". وهو يرى الكادحين العرب مخصيين. وقد التحق مع إمام وآخرين بدورة للعمل الفدائي بعد الهزيمة، لكنه يقتل في البيان التدريبي في نهاية الدورة. وفي تشخيص محمود للوضع السوري عشية الهزيمة ما لعله يرسم ما هي عليه سورية اليوم: "عجيب أمر هذا البلد. الإنسان فيها غير قادر على الفعل، ولا حتى على التحريض. كل شيء يبدو مهجنًا ومدجّنًا. الناس يعرفون كل شيء، ويفهمون في كل شيء، ولكنهم لا يملكون شيئًا سوى أرواحهم القلقة".

بدأت جماليات الرواية عند هاني الراهب تنعطف مع رواية (الوباء – 1981)، وسواء بحفريتها التاريخية أم بالاشتغال على الأسرة أم بمغادرة هاجس الجنس والوجودية... فما هو هذا الوباء الروائي الذي ضرب في سورية، وأصاب فلسطين؟

يشكل (الميراث) بؤرة الصراع وذروته بين الورثة، يتصدرهم العميد عبسي. ويتطلب الميراث العودة إلى الكنية المضيعة، ورفع يد الدولة عن الأرض/ الكنز الموعود. وفي غمرة ذلك يظهر الأخ الغائب المنسيّ كنعان – لاحظ الاسم – وهو الذي اختفى مع الجيش الإنكليزي، ثم أقام في فلسطين، وحمل الهوية الإسرائيلية زمنًا قبل أن يرميها ويلتحق بالفدائيين. وها هو كنعان يظهر في حمأة الصراع على الميراث، بلا هوية، فيخفيه عبسي في بيته ريثما ينجز معاملات الميراث التي جرى فيها توثيق موت كنعان. وعندما تسلل السوري الفلسطيني كنعان إلى بيت قريبه الفارّ، داهمت المخابرات البيت واعتقلت هذا الذي تنكّر له شقيقه عبسي، بينما صار كنعان صيدًا ثمينًا: عميل إسرائيلي. ولحديث الحضور الفلسطيني روائيًا في سورية، صلة.  

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
1 مايو 2024
استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.