ابنة أمّها
في شتاء عام 1923، رزق زوجان يونانيان يعيشان في مدينة نيويورك بطفلة سيعرفها العالم كلّه لاحقًا باسم ماريَّا كالاس. كانت الأم مهووسة بالموسيقى، فسارعت بعد أن لاحظت موهبة ماريا، إلى شراء بيانو، ثم جهاز غراموفون. وعندما بلغت ماريا السابعة من عمرها كانت تتلقى دروسًا خاصّةً على البيانو. وبعد فترةٍ وجيزة، بدأت موهبة ماريا بالتكشّف، فأدهشت الأسرة والجيران، وتركت انطباعًا مبهرًا لدى جميع أعضاء لجان التحكيم في المسابقات التي شاركت فيها.
ولأنّ الأب كان صيدلانيًا، ويكسب مالًا وفيرًا، فإنّ الدروس الخاصة لم تكن في بداية الأمر تشكّل مشكلة للأسرة. ولكن مع اشتداد الأزمة الاقتصادية التي ضربت أميركا، تغيّرت الأمور، وساءت أحوال الأسرة المادية، التي استمرّت رغم ذلك بتسديد تكاليف دروس الموسيقى للابنة الموهوبة. أفلس الوالد، وأصبحت الحياة في أميركا لا تطاق، فقررت الأم الرحيل مع ابنتيها إلى اليونان، ليبقى الأب وحيدًا في نيويورك.
في اليونان، لفتت ماريا انتباه مغنية الأوبرا الإسبانية، ألفيرا دي هيدالغو، التي أعجبت بالفتاة لدرجة جعلتها تسعى لمنحها تعليمًا مجانيًا. وضعت الفنانة الاسبانية ماريا تحت رعايتها، وأقنعتها بأنّ الموسيقى يجب أن تكون متعةً في حدّ ذاتها، وليس حملًا يثقل كاهل محبّيها. توثقت عرى صداقة حقيقية بين المغنية الإسبانية والصبية ماريا كالاس، واستطاعت ألفيرا أن تصنع من الفتاة المترددة "أعجوبة عالم الأوبرا"، التي سيعرفها العالم كلّه.
مع وصول الحرب إلى اليونان، انقطعت العلاقة مع أميركا، ولم تعد الأمّ تحصل على النفقة الشهرية التي كان يرسلها طليقها من هناك، فعانت الأم مع ابنتيها الفقر المدقع. تمكنت ماريا من خلال أحاديثها مع الجنود الإيطاليين من تعلّم اللغة الإيطالية خلال ثلاثة أشهر، وراحت تغني لهم مقابل حصولها على بعض المواد التموينية لأسرتها.
لاحقًا، استطاعت ألفيرا تأمين إقامة لماريا في أثينا، حيث بدأت من هناك مسيرتها الفنية الحقيقية كمغنية أوبرا تكسب نقودًا، وإن كانت قليلة في البداية.
البحث عن الحبّ
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عادت ماريا ثانيةً إلى أميركا. كانت واثقة كلّ الثقة بأنّها ستقهر نيويورك، وأميركا، وهي بلاد الإمكانيات والفرص. ولكن مفاجآت كثيرة كانت في انتظارها على الجانب الآخر من الأطلسي، كان أولّها أنّ الوالد كان على علمٍ مسبق بقدوم ابنته (من خلال صحيفة تصدر في نيويورك، وتنشر أسماء الركاب القادمين من اليونان). كان الكساد العظيم قد انتهى، وعاد الوالد إلى العمل في صيدليته. وبذلك، لم يعد هنالك ما يهدد ابنته. أصبح في إمكان ماريا اليوم، وبعد سنواتٍ من الفقر والحرمان، أن تمضي أوقاتها بطمأنينة وأمان، وأن ترتدي ملابس لائقة. قالت ماريا وهي تتذكّر تلك الأوقات: "عندما عدت إلى أميركا، كنت جائعة مثل أولئك المحرومين من الطعام لفترةٍ طويلة. كنت آكل وآكل من دون توقف".
في عام 1945، غنّت ماريا أمام مغني الأوبرا الإيطالي المشهور جيوفاني مارتينيللي، ومن ثمّ أمام نيقولا موسكونا، مغني (الباص) الأوبرالي، الذي كان يومًا ما مشهورًا في الأوبرا الوطنية، لكن على الرغم من عمله في أوبرا متروبوليتان نيويورك لم يستطع مساعدة ماريا. وبعد أن سُدّت الأبواب أمام ماريا، قررت الفتاة أن تعتمد على نفسها.
كانت بداية انطلاقة ماريا كالاس الفنية في أميركا من خلال حفلة موسيقية خيرية أدّت فيها الدور الرئيس، فحازت على إعجاب الجمهور. عادت ماريا إلى أوروبا في عام 1947 من جديد، على متن سفينة تجارية تعجّ بالجرذان. وفي اليوم التالي لوصولها، تعرّفت في أحد المقاهي على جيوفاني مينغيني، وهو رجل أعمال ثري كان يبلغ 52 عامًا من عمره وقتها، ويعشق الأوبرا. بعد بضعة أيامٍ، انتقلت ماريا إلى شقته، وأصبح مينغيني مدير أعمالها وزوجها.
المحطة الغرامية التالية لماريا كالاس كانت مع الملياردير اليوناني أوناسيس، الذي راح يوليها كلّ اهتمامه، ويهديها هدايا نفيسة. دعاها أوناسيس إلى رحلة عبر البحر المتوسط على متن يخته الفاخر. كان في الرحلة كثير من الضيوف، ومن ضمنهم زوجة الملياردير تينا، وكذلك ونستون تشرشل. بعد غرامٍ عاصف، طلّق أوناسيس زوجته، وحصلت ماريا أخيرًا على الطلاق من زوجها مينغيني. لكنْ، بمرور الوقت، تغيّرت معاملة أوناسيس لعشيقته ماريا، فراح يهينها علانيةً، ليجعل حياتها جحيمًا لا يطاق. لم تعرف ماريا حقيقة سريرة أوناسيس إلا بعد أن عايشته، فاكتشفت كم كان متوحشًا، ولتدرك أنّه لم يعد يبالي بها. عرفت ماريا أيضًا أنّ الملياردير كان يزور بانتظام أماكن الدعارة في باريس. تدهورت حالتها النفسية، وكان أوناسيس يزودها بالمهدئات، ويهينها علنًا بتفاخره أمامها بعلاقاته الغرامية الأُخرى، التي كان في عدادها علاقته الغرامية مع الأخت الصغرى لجاكلين كينيدي (التي ستصبح هي الأُخرى عشيقته لاحقًا). في نهاية الأمر، ترك أوناسيس ماريا، وفي عام 1968 تزوج جاكلين كينيدي، أرملة الرئيس الأميركي جون كينيدي.
أدت علاقة ماريا كالاس مع أوناسيس إلى تدهور مسيرتها الفنية، وبدأ صوتها نفسه يخونها. وبعد وفاة أوناسيس توقفت ماريا بالتدريج عن الظهور أمام الجمهور، لتعيش سنوات من العزلة.
وفي 16 سبتمبر/ أيلول من عام 1977، فارقت ماريا كالاس الحياة في عمر 53 عامًا، في شقتها، وحيدةً تمامًا، من دون أن تعرف الحب الحقيقي في كنف أمّها، وحيث لم تجد الحبّ الحقيقي لدى رجلٍ واحد من أولئك الذي التقتهم.
مسيرة مظفرة ومأساة كبيرة
بدأت مسيرة ماريا كالاس الفنية في فبراير/ شباط عام 1941 بمقطعٍ صغير بدور لعبته، وهو بياتريشيا، عشيقة دانتي، في أوبريت Boccaccio للموسيقار النمساوي فرانز فون سوب (1819 ـ 1895). وجاء اعتراف الجمهور اليوناني بموهبة ماريا بعد مرور عامٍ، عندما أدت الدور الرئيس على مسرح أولمبيا في أوبرا Tosca للإيطالي بوتشيني، وأوبرا "الوادي/ Tiefland" للموسيقار يوجين ألبير. حينها، قال النقاد: "إنّ السوبرانو الذي تؤديه هو صوتٌ حرٌّ بلا حدود".
حتى مغادرتها اليونان إلى أميركا، أدت كالاس أدوارًا في عدد من عروض الأوبرا، قبل أن تتجاوز 22 من عمرها. وفي نيويورك، عرض المخرج إدوارد جونسون على المغنية أحد الأدوار الرئيسة في أوبرا Madama Butterfly، وأوبرا Fidelio (الأوبرا الوحيدة التي ألّفها بيتهوفن)، الأمر الذي رفضته ماريا بصورةٍ هستيرية. قالت ماريا إنّها رأت نفسها سمينةً للغاية لمثل هذه الأدوار، كما أنّها لم تستحب فكرة تنفيذ الأوبرا باللغة الإنكليزية.
تعرفت كالاس على المخرج توليو سيرافين من خلال أدائها عام 1947 لأوبرا "الجوكوندا" للموسيقار پونكييلي، فكان هو بالذات من عرّف العالم على موهبتها، وخاصة بعد ظهورها في أوبرا "توراندو"، للموسيقار بوتشيني، وأوبرا Tristan & Isolde للموسيقار فاغنر. أمّا النجاح الحقيقي فحققته عام 1949، عندما غنّت، خلال أسبوعٍ واحد، على مسرح لا فينيس في مدينة فينيسيا الإيطالية دورين مختلفين: بونغيلدا من أوبرا "فالكيري" لفاغنر، ودور ألفيرا في أوبرا Puritans للموسيقار بيلليني. خلال هذا الأسبوع، كان الجمهور شاهدًا على ظاهرةٍ فنية غريبة "أربعة أصواتٍ في حنجرة واحدة".
في عام 1951، دُعيت كالاس للمشاركة في فرقة مسرح "لاسكالا دي ميلانو"، حيث افتتحت المواسم ست مراتٍ من خلال أدائها فقراتٍ في أوبرا "أمسية صقلية" عام 1951، "ماكبث" (1952)، "فيستالكا" (1954)، "نورما" (1954)، "بال ماسكاراد" (1957)، "بوليفيكت" (1960).
واعتبارًا من عام 1952، بدأ تعاون طويل ومثمر بين ماريا كالاس ومسرح Covent Garden كوفنت ـ غاردن اللندني. وعلى الرغم من النجاح، كان النقاد يسخرون باستمرار من "وزنها الزائد"، لدرجةٍ أنّ أحدهم قال: "سيقانها مثل سيقان الفيل"، مما جعل المغنية تبدأ على الفور حميةً قاسية، لتخسر قرابة 36 كغم من وزنها خلال 18 شهرًا، فوصفها قائد الأوركسترا ريشينيه بأنّها "أجمل سيّدة على خشبة المسرح". لكن كثيرين رأوا أن فقدان الوزن بهذه السرعة، كان سببًا في فقدان صوتها مبكرًا. على كل حال، أصبحت ماريا كالاس أكثر ثقةٍ بنفسها، وأكثر مرونة وأنثوية، حتى قال عنها قائد الأوركسترا ليونارد برشتاين: "لقد جنّ الجمهور. كانت كالاس مثل الكهرباء". وبالفعل نجحت المغنية العظيمة في جعل مسرح كوفنت غاردن مشهورًا. وفي عام 1956، عادت كالاس معزّزة إلى مسرح ميتروبوليتان في نيويورك، لتلعب في أوبرا "Norma/ نورما" للموسيقار بيلليني، وأوبرا "عايدة" للموسيقار فيردي، وأوبرا "Tosca" للموسيقار بوتشيني.
بالإضافة إلى الصوت المدهش، كانت كالاس تتمتّع بموهبة أداءٍ درامية عظيمة، فكانت الجماهير تحضر عروضها ليس فقط للاستماع إلى سوبرانو الأسطورة، ولكن أيضًا للتمتع بأدائها التمثيلي الفريد. ولكنّ التوتر والكآبة الدائمة، التي كانت تعاني منها، أدّت إلى تكرار إلغاء مشاركاتها في الحفلات. ووصلت بها هذه الحالة ذات مرّة إلى مغادرة خشبة المسرح بذريعة المرض المفاجئ. كان الرئيس الإيطالي حينها من ضمن الحاضرين، مما ألحق ضررًا بالغًا بسمعة النجمة، فاختفت عن المسرح فترةً طويلة جدًا.
دخلت كالاس تاريخ الأوبرا العالمية من أوسع أبوابها بفضل غنائها الأسطوري، وما زالت أسطواناتها تحتل حتى اليوم أعلى المبيعات على قائمة مبيعات شركة Warner Classics. في عام 2007، منحت جائزة "غرامي" تقديرًا لإنجازاتها في الموسيقى. وتحولت قصة حياة ماريا كالاس موضوعًا لعدد من الأفلام: "كالاس إلى الأبد" (2002)، مسلسل "كالاس وأوناسيس" (2005)، وكذلك فيلم السيرة الذاتية "ماريا"، حيث لعبت الدور الرئيس الممثلة أنجيلا جولي (سيعرض عام 2024).
في عام 2017، أسس في باريس صندوق ماريا كالاس، وبمناسبة مرور مئة عامٍ على ولادة المغنية الأسطورة، افتتح في أثينا متحف يحمل اسمها.
آه! يا أبي العزيز... للمؤلف بوتشيني
بصوت ماريا كالاس