}

مشكلة "القارئ الأخير" في رواية "يقظة فينيغان" لجيمس جويس

سناء عبد العزيز 6 ديسمبر 2023

 

قبل موته بفترة وجيزة، وصف الكاتب الأيرلندي جيمس جويس القارئ النموذجي لروايته "يقظة فينيغان" بـ"المؤرق المثالي"، معربًا عن نوع من الطموحٍ يكاد يتجاوز خيال أي مبدع سبقه أو تلاه: "إن ما أطلبه من القارئ هو أن يكرس حياته بأكملها لـ قراءة أعمالي". مات جويس بعد نشر هذا النص المعقد بعامين، من دون أن يشارك العالم أفكاره عنه أو يلقي بإضاءات على تلميحاته وموارباته التي تراوحت من السياسة الأيرلندية إلى الأدب الفرنسي إلى أغاني السُكر في الحانات الشعبية وحتى كتاب الموتى عند قدماء المصريين. أضف إلى ذلك جملة من المشكلات الناجمة عن تجاربه المرهقة في النحت والاشتقاق اللغوي. آنذاك أدرك قارئ جويس أن موت الكاتب في تلك الحالة تحديدا، يعني احتمالية انغلاق العمل على نفسه، ولما باءت كل محاولاته في تحديه بالفشل الذريع، برزت فكرة المؤازرة الجماعية.

استعن بصديق!

على صفحات الغارديان البريطانية، ينصح سام سلوت، الباحث في "اللغز الجويسي" في كلية ترينيتي في دبلن، ومحرر كتاب "كيف كتب جويس يقظة فينيغان"، بأن "عليك تقبل حقيقة أن لا شخص بمفرده بوسعه قراءتها، وهنا يمكن لفكرة القراءة الجماعية أن تمارس دورها". لأجل هذا نشأت الأندية المخصصة لقراءة نص واحد بالتعاضد، حتى وصلت إلى حوالي 60 ناديًا، منها مجموعة ويك في زيوريخ التي تأسست عام 1984، وعلى مدار 40 عامًا تمكنت من قراءة النص ثلاث مرات وهي الآن في دورتها الرابعة.  

مع اقتراب نهاية 2023، أعلن أعضاء منتدى "فينس - ويك" بعد رحلة استغرقت 28 عامًا، عن وصولهم إلى الصفحة الأخيرة من الرواية الممتدة على 628 صفحة، لكن الصفحات ليست بعددها، يقول جيري فيالكا مخرج الأفلام التجريبية ومؤسس النادي "نقرأ صفحة واحدة ثم نظل نناقشها مدة ساعتين، لهذا السبب استغرقنا 28 عامًا". وهي الفترة التي اعتبرها سلوت "رقمًا قياسيًا"؛ فمع قراءة ممنهجة، استغرقت مجموعته "ويك الأسبوعية"، التي تتكون من حوالي اثني عشر من باحثي جويس، 15 عامًا في قراءة سريعة!

في اليوم الموعود، يوم الثلاثاء 3 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، افتتح فيالكا اجتماعه على زووم بـهذه العبارة "بداية كونية"، وطلب من المشاركين "أخذ نفس عميق" لشحذ طاقتهم قبل أن يرددوا قصيدة لورانس فيرلينجيتي "المسهدون" ثم شرع الأعضاء في قراءة سطرين من النص بالتناوب، إلى أن تمت المهمة التي استغرقت من كاتبها 17 عامًا، وبهذا يكون الكاتب قد تفوق على قرائه في إنجاز النص، وهو ما يفجر مفارقة بين زمن الخلق وزمن استيعابه. لكن الأمر لا يقتصر أبدًا على ذلك، إذ يبدو أن جعبة جويس لا تنفد من المفاجآت المهلكة للقارئ.

الراسل والمرسل إليه

بدأ جويس كتابة "اليقظة" عقب صدور "عوليس" مباشرة تحت عنوان مؤقت "عمل مضطرد" (لاحظ معنى الاضطراد)، وعلى عادته راح ينشر فصولًا منه في الدوريات المختلفة قبل أن يصدر في كتاب كامل. لكن الجدل الذي أثير بشأنه اضطر ناشره إلى الإسراع بطباعته قبل صدور قانون رسمي يحظره في بلده، لا يتناسب مع ما أثاره النص الجديد من جدل واسع، حتى أن أشياع جويس الأشد انغواء به، انقلبوا عليه. في هذا الوقت تحديدًا كان الرجل المشاكس يمر بمتاعب لا قبل له بها، سواء على مستوى صحته وشعوره بعماه الوشيك بعد إجراء الكثير من الجراحات دون جدوى، يقال بلغت 18 جراحة، وما أعقبه من تدهور حالة ابنته ودخولها مصحة عقلية. ومع ارتفاع وتيرة الهجوم، أحس المحارب العنيد بأنه جعل من نفسه "قذى في أعين العالم"، وربما راودته أفكار بشأن قيمة ما أفنى عمره لأجله.

مسودتان من رواية "يقظة فينيغان"


يقع النص المعقد في 628 صفحة، مقسمة إلى سبعة عشر فصلًا، وموزعة على أربعة أجزاء أو كتب. يحتوي الجزء الأول على ثمانية فصول، وكل من الجزء الثاني والثالث على أربعة، والجزء الرابع عبارة عن فصل واحد قصير؛ مونولوج لامرأة يذكرنا بملحمته "عوليس" التي تنتهي بأجرأ مونولوج كتب في تاريخ الرواية حتى يومنا هذا، حيث نتعرف على موللي، زوجة بلوم، عبر سلسلة من التداعيات تدور في رأسها المستلقي على الوسادة. لكن الخدر الذي يسبق النوم، تبدده الأفكار اللاهثة والكلمات الجارحة والرغبات المفضوحة مؤرقة أي سكون محتمل لليل.

رغم كل ما قيل وعيد عن صعوبة "عوليس"، فهي من النصوص التي تسلم لك قيادها شرط أن تقع في غرامها، أو بالأحرى تقع أسيرها، كمن يغوص في نهر عميق ويسحبه المد رويدًا رويدًا. أما "يقظة فينيغان" فهي تواجهك بحائط سد منذ البداية؛ جويس يستهل الحكي بجملة ناقصة، وما يجعل نقص الجملة مربكا، موضعه في البداية، قبل أن يبدأ الحكي، أو لنقل قبل ولادة العالم، سيما مع ورود اسم آدم وحواء على نهر جار.

في "عوليس" أنت تقضي 18 ساعة على مدار 18 فصلًا مع بلوم وأصدقائه في شوارع دبلن ومكاتبها وحوانيتها بمعالمها المعروفة التي مهما شطح خياله في التجول بهم بعيدًا، يأتي المكان ليردك إلى أرض الواقع. أما "يقظة فينيغان" فلا أمل في الخروج منها بقصة واضحة المعالم. ربما لهذا شكك الباحثون في شرعية البحث عن قصة من الأساس، لكن الجاذبية الدائمة للرواية تحرض على الاستكشاف، وتأسر القراء والعلماء على حد سواء. وقد أثارت طبيعتها الغامضة تحليلاً ونقاشًا نقديًا واسع النطاق، مما جعلها موضوعًا لسحر دائم داخل الأوساط الأدبية.

يقال إن جويس أخبر صديقًا بأنها عن الزعيم الأيرلندي فين ماكول "وهو يرقد على فراش الموت بجوار نهر ليفاي بينما تاريخ أيرلندا والعالم من حولها يضطرب في ذهنه". وهذا معناه أنه كما استجلب ضجة الحياة خلال يوم واحد في "عوليس"، أراد هنا أن يستجلب منطق النوم والأحلام. بالتالي لا نتوقع الخروج من النص بشخوص أو أحداث واضحة.

لهذا يصف بيتر كوجان، أحد أعضاء نادي فيلكا، تجربته في قراءة جويس على مدار الربع قرن بأنها "مغامرة أدبية" مستأنفا "يقول العديد من الدارسين إن نية جويس لم تكن إعطاء القراء تجربة مباشرة، أو إخبارهم بقصة واضحة، ولكن منحهم تجربة الشعور بنوع من الخسارة، مثلما تفعل الشخصيات عندما تكون في حلم وهذا يعني أنه غير مفهوم لأننا نختبر الحياة والأحلام على أنها غير مفهومة". "إنها فسيفساء"، على حد قول كوجان الذي يضيف: "أنت تدرس الأنماط وتكتشف الأجزاء التي لا بد من تجميعها لتوصيلها إلى غيرك لأنك تشعر أن هذا الشيء يجب أن يتم توصيله إلى أشخاص آخرين".



صندوق الدنيا

من الأفضل قراءة "يقظة فينيغان" بصوت مرتفع، نظرًا إلى أن سرد جويس صوتي ويتخذ من الموسيقى وسيلة للتعبير: و"كأنك تقرأ قصيدة - في الأساس قصيدة متعددة اللغات ومتعددة المرجعيات - مع العديد من الأشخاص المختلفين". وهذا بالضبط ما فعلته مجموعة فيالكا التي تضم عددا من الأشخاص تتراوح أعمارهم بين 12 عامًا إلى 95 عامًا. بدأوا في الاجتماع منذ عام 1991، بمعدل مرة كل أسبوع يقرأون صفحة أو صفحتين ثم يجرون حوارا بينهم لإضاءة النص. يقول فيالكا "عندما تقرأ مع مجموعة من الأشخاص بصوت عالٍ، تصبح أكثر وعيًا بما تفعله الكلمات بك، وليس المحتوى".

كتب جويس روايته بمزيج من الكلمات المبتكرة، والتورية والتلميحات، مع إشارات إلى ما يقرب من 80 لغة مختلفة. فضلًا عن اختراعه تسع كلمات مكونة من 100 حرف وكلمة واحدة مكونة من 101 حرف، تلك واحدة منها:

bababadalgharaghtakamminarronnkonnbronntonnerronntuonnthunntrovarrhounawnskawntoohoohoordenenthurnuk! والتي من المفترض أن تعني السقوط. إنها كما يقول فيالكا: "مثل اللغة السرية التي تخترعها مع أخيك أو أختك وأنت طفل أو مع أصدقائك. حتى لا يستطيع والداك فهم ما تقولونه".

في نفس الصدد، يصف دنكان إيكلسون، عضو النادي البالغ من العمر 78 عامًا، الكتاب بأنه "عدسة كونية، تجبرنا على إلقاء نظرة عميقة على اللغة والعلاقات والتاريخ والدين". ولكن هل معنى هذا أن لا أمل في قراءة "يقظة فينيغان" إلا بخطة طويلة الأمد قد تستغرق ثلث العمر؟ أو نصفه أو حتى العمر كله؟ يبشرنا فيالكا، الذي باستغراقه ربع قرن في قراءة الرواية يمكن اعتباره راهبا لجويس، بأنه من الصعب أن تقضي 28 عامًا في مثل هذه التجربة حتى تفهم موضوعه الجوهري الذي استطاع بحكم الخبرة أن يلخصه في كلمة واحدة "الضحك"، وكتب يقول "هذه هي الطريقة التي نقل بها جويس ماهية التجربة الإنسانية. الحالة الإنسانية هي أنك تسقط ثم تنهض من جديد. تضحك، ثم تبكي".

تنتهي ملحمة جويس "عوليس" بأجرأ مونولوج كتب في تاريخ الرواية حتى يومنا هذا (Getty)


من الممكن القول دون مبالغة إن جويس لا يكف عن تفجير الكوميديا في كل صفحة. أنت تضحك بصوت عال أينما كنت حتى تكاد تفقد اتزانك وتحدق حولك بحثا عن شخص ما تشاركه التجربة المدهشة التي مررت بها للتو.

انضم بيتر كوادرينو، البالغ من العمر 38 عامًا، إلى مجموعة فيالكا في عام 2008 أو 2009 تقريبًا. كان يقود سيارته لمدة ثلاث ساعات من سان دييغو، لحضور ورشة القراءة. "إذا شغفت حقًا بـيقظة فينيغان، من الصعب جدًا أن تعثر على أشخاص تتحدث معك عنها".

وحين انتقل كوادرينو إلى أوستن، تكساس، في عام 2011، دفعته رغبته الشديدة في مواصلة القراءة إلى توزيع منشورات في جميع أنحاء المدينة، ونشر بعض الإعلانات في الصحف، وأخيرا أنشأ مجموعة تكساس. وهم الآن في منتصف الطريق، قطعوا 12 عاما وأمامهم المثل تقريبا. ويعتقد كوادرينو أن جويس تنبأ بالقنبلة الذرية ورئاسة دونالد ترامب في الولايات المتحدة، كما يعتقد أن قراءة هذا الكتاب هي "الشيء الأكثر إرضاءً في حياتي".

أثناء دراسته الفن الحديث ونظرية السينما في جامعة ميشيغان في أوائل السبعينيات، انخرط فيالكا في أعمال الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان. وبعد انتقاله إلى كاليفورنيا عام 1980 للعمل كمساعد إنتاج، واصل دراسة الفلسفة، وهو ما قاده إلى أعمال جويس. إنها التجربة التي دخلها في سن الأربعين، وخرج منها في عامه السبعين، لكن المدهش أن فيالكا يكذب بانفعال كل ما نشرته وسائل الإعلام ودار هذا المقال عنه بشأن انتهاء ناديه من قراءة "يقظة فينيغان": "أبدًا لم ننته! هذه معلومات خاطئة، الجملة الأخيرة من الكتاب ناقصة عند منتصفها، إنها تعود وتلتحم بالبداية. إنها دورية. لا تنتهي أبدًا".

عود أبدي إذًا. لمن يا ترى؟ للقارئ؟ أم للقصة الغامضة الواقعة بين بداية لا نعرفها، ونهاية لا سبيل للوصول إليها؟ أيا ما كان الأمر، سيكون على أعضاء نادي "فينس - ويك" بدءًا من العام الجديد أن يعيدوا الكرة، "وهذا هو جمال الأمر"، كما يقر فيالكا: "إنها مطبوعة لموسيقى الروك أند رول"، لا تنتهي.
ترى هل عثر جويس الآن على قارئه المثالي الذي طلب منه شيئًا وحيدا، هو أن يكرس حياته بأكملها لقراءة أعماله؟

 

مراجع ومصادر:

  • جون جروس، جيمس جويس، ت: مجاهد عبد المنعم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1975.
  • جيمس جويس، عوليس، ت: دكتور طه محمود طه، الدار العربية للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 1994.
  • لويز بيكيت، "ما لا ينتهي أبدًا": نادي الكتاب الذي قضى 28 عامًا في قراءة يقظة فينيغان، الغارديان البريطانية، 12 نوفمبر 2023.
  • بي إن إن " BNN CORRESPONDENTS، "رحلة مدتها 28 عامًا"، 12 نوفمبر 2023.
  • واشنطن بوست، "انتهت للتو"، كايل ميلنك، 16 نوفمبر 2023. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.