}

خوليا دي بورغوس: محاولة الحياة الأعذب

أمل فارس 19 مارس 2023
استعادات خوليا دي بورغوس: محاولة الحياة الأعذب
"المحاربات" لياسمين إرنانديز: دي بورغوس ممسكة بيد فريدا كالو

احتفاءً بالشاعرة البورتوريكيّة خوليا دي بورغوس صمّمت الرسّامة المكسيكيّة ياسمين إرنانديز جدارية في الحي اللاتيني هارلم في منهاتن بعنوان Soldaderas (المحاربات) تظهر دي بورغوس ممسكة بيد الرسامة المكسيكية فريدا كالو، في إشارة منها إلى أوجه التشابه التي تجمع هاتين المبدعتين كنسويّتين استخدمتا الفن للتعبير عن أنفسهنّ وما عانتاه من الظلم الشخصيّ والعام في حقبةٍ كان فيها غالبية الفنانين من الرجال وكان حديث المرأة عن ذاتها وما يخصها أمرًا نادرًا، وليس هذا فحسب بل ودعمتا ثورات بلديهما التحرريّة بشكلٍ علنيٍّ وتحملتا التبعات الكاملة لذلك. افتتحت إرنانديز عملها يوم السادس من تموز/ يوليو وهو اليوم الذي وُلدت فيه الفنانة المكسيكية كالو وتاريخ وفاة خوليا دي بورغوس، التي اعتبرها كثير من النقّاد أبرز شاعرة بورتوريكيّة.

تعرّفت حديثًا على الشاعرة البورتوريكيّة دي بورغوس، حين قرأت قصيدة لها في إحدى المجلات دفعتني لأكتب عنها اليوم لنتعرّف عليها سويًا.

بورغوس وُجِدَت فاقدةً للوعي على إحدى نواصي حيّها اللاتيني في منهاتن لتفارق الحياة وتدفن مجهولة الهوية لكن ما الذي أوصلها إلى هذا؟ هنا أستعرض معكم محطات من حياة شاعرة الجزيرة التي رحلت في عمر مبكر لكنّها تركت نتاجًا شعريًا لاقى احتفاءً وحصد الاعتراف والتكريم.

نشأتها

خوليا كونستانزا بورغوس غارسيا، معلّمة وناشطة ونسويّة وشاعرة، وُلِدَت في 17 شباط/ فبراير 1914 في حي سانتا كروز في مدينة كارولينا بورتوريكو لعائلة فقيرة، والدها المزارع فرانسيسكو بورغوس هانز، ووالدتها بولا غارسيا دي بورغوس. وهي الكبرى من بين ثلاثة عشر طفلًا. كان الموت والشدائد ثوابت في حياتها إذ شهدت موت ستة من إخوتها خلال طفولتها.

حصلت بورغوس على منحةٍ دراسيّةٍ عام 1928 مكّنتها من الالتحاق بجامعة بورتوريكو الخاصة حيث ازدهرت مهاراتها الأدبيّة والأيديولوجيّة وحازت شهادة مُدرّسة بين عامي (1931ـ1933). ثم انخرطت في الحياة السياسية لتنضم إلى حزب "بنات الحرية" وهو الفرع النسائيّ للحزب الوطني البورتوريكي، وفي عام 1936 ألقت خطابها الأوّل "المرأة في ظل آلام وطنها" ودَعت إلى إطلاق سراح رئيس الحزب الوطني البورتوريكي السياسي والمعارض البارز بيدرو ألبيزو كامبوس الذي أدين بتهمة محاولة الإطاحة بحكومة الولايات المتحدة في بورتوريكو عام 1932.

ما تثبته سيرة خوليا دي بورغوس أنّ أحداث حياتها الشخصيّة قد أثّرت بشكلٍ رئيسيٍّ على مسيرتها الأدبيّة


هجرتها

غادرت خوليا موطنها إلى الولايات المتحدة عام 1940 بعد فشل زواجها الأول، وكانت في السابعة والثلاثين من العمر، وحاولت إيجاد التوازن في حياتها من جديد وبناء سيرة أدبيّة وصوت شعري خاص في المهجر، وهذا ما أثبتته لاحقًا إذ مثّلت دي بورغوس رمزًا أدبيًا شهيرًا للأميركتين، حيث ساعدت موضوعاتها المتعلقة بالقوميّة والنسويّة والعدالة في ولادة الحركة النيوـ يوركيّة (Nuyorriqueño) في الستينيات، التي ضمّت شعراء وكتّابا وفنانين مهاجرين من أصول بورتوريكية ولاتينيّة وصلوا إلى الولايات المتّحدة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، واستقروا في نيويورك ومحيطها. على أنّ التاريخ الثقافي البورتوريكي في القسم الشرقي الأدنى والمعروف باسم  لويسايدا ممتدٌ إلى بدايات القرن الماضي مع بداية الهجرة من الجزيرة تحديدًا عام 1910 عقب انتقال حكم الجزيرة من التاج الإسباني، الذي استمرّ منذ بدايات القرن الرابع عشر وحتى أواخر القرن التاسع عشر، إلى الولايات المتحدة، وفرض الحكومة الأميركية الجنسية الأميركية على الشعب البورتوريكي، كما اتبعت سياسة اقتصادية كانت نتيجتها هجرة شريحة واسعة من المزارعين من الجزيرة، عقب فرض إنتاج قصب السكر كمحصول وحيد، ليستقروا في القسم الشرقي الأدنى وسان خوان ونيويورك وليخلقوا هوية ثقافية جديدة في المهجر الأميركي.

ما تثبته سيرتها أنّ أحداث حياتها الشخصيّة قد أثّرت بشكلٍ رئيسيٍّ على مسيرتها الأدبيّة وكانت سببًا غير مباشر في وفاتها إذ أنّها وبعد تجربة الانفصال الأولى عام 1939 تعثّرت في تجربتها العاطفيّة التي جمعتها بالزعيم السياسي الدومينيكي خوان غرولون، حفيد رئيس جمهورية الدومينيكان الأسبق، وذلك لمعارضة عائلته فكرة الزواج لعدة اعتبارات كان من الصعب تجاوزها في ثلاثينيات القرن الماضي المحافظة من بينها أصول خوليا الأفريقية وشخصيتها الحرّة المتقلبة ونزعتها النسوية وكذلك شائعات طالتها حول إدمانها للكحول، لتتحول قصة الحب إلى هجر وتشتّت، وثم جاء انفصالها الثاني 1954عن الموسيقي أرماندو مارين بعد عام واحد من الزواج لتدخل في حالة من اليأس قادتها إلى الاكتئاب والإيغال في إدمانها للكحول.

لكن هناك من يحمل وجهة نظر مختلفة تماما عن حياة الأديبة القصيرة، إذ يؤكد البروفيسور والباحث والمترجم الكوبي أوسكار مونتيرو في كتابه الذي عنونه (في أثر دي بورغوس) على المكانة الأدبية التي شغلتها دي بورغوس وعلى أنها تشكل جزءًا من اللاوعي الجماعي للبورتوريكيين في الجزيرة وفي نيويورك. وينطلق في بحثه لاستكشاف تعقيدات خوليا الشاعرة والمفكّرة متعدّدة الأوجه محاولًا دحض الصورة النمطيّة التي قولبتها في العديد من المقالات والأعمال الأدبية المرئيّة والمكتوبة بصفتها المرأة المبدعة المنقادة وراء أهوائها وحصرتها في مأساة الضحية، ضحية تميزها في زمن خاطئ. وكذلك يشير إلى ما جاء في مقدمة الكاتبة ماريا سولا لمختارات جمعتها من أعمال دي بورغوس ونشرتها بعد وفاتها في 1986 بعنوان "أنا نفسي كنت الطريق" تبين فيها أنه وبعد انتهاء علاقتها بالزعيم السياسي الدومينيكاني غرولون في عام 1942، حاولت بورغوس إعادة تنظيم حياتها فتقول: "لم تغرق في اليأس، بل على العكس، نهضت مرارًا وتكرارًا، على الرغم من اندفاعها الفاشل". وهذا ما يعكسه قيام خوليا بتغيير اسم عائلتها في خطوة خارجة عن المألوف في زمنها، إذ لم تعد إلى استخدام اسم عائلتها بعد الانفصال، بل استبدلته بلقب "دي بورغوس" كما ذكرت بيريز روساريو في كتابها "خوليا دي بورغوس: أيقونة الإبداع"، ومن المعروف أن "دي"- أي يخص- هي صفة انتماء وتبعية للزوج تمنح تلقائيًا وقانونيًّا للمرأة في عموم أميركا الجنوبيّة عند الزواج، وتشير إلى الملكية وبهذا الفعل أرادت خوليا أن تستحوذ على نفسها رمزيًّا كتعبير عن رفض التبعية البطريركية بإظهار رغبة للانتماء إلى نفسها أولًا وأخيرًا.

دافعت دي بورغوس عن القوميّة والهوية البورتوريكية وأضاءت في أعمالها على قضايا مثل الماضي الاستعماري للجزيرة، وإرث العبودية، والإمبريالية الأميركية

وفاتها وتكريمها

كانت السنوات الأخيرة من حياتها صعبة للغاية، إذ عانت من الاكتئاب وفقًا لما أكدته ابنة أختها ماريا كونسويلو سايز بورغوس وأمضت فترات طويلة داخل وخارج المستشفى بسبب تشخيصها بتليف الكبد، لكنها "لم تتوقف عن كونها نفسها" واستمرّت في المشاركة في الأحداث الثقافيّة والسياسيّة. أمّا الساعات الأخيرة من حياتها فقد أحاط بها الغموض حيث وجدها بعض رجال الشرطة في الشارع فاقدةً للوعي، في الساعات الأولى من يوم 5 يوليو/ تموز 1953. ليتمّ إدخالها إلى مستشفى هارلم التابع لجامعة كولومبيا في منهاتن نيويورك، حيث توفيت بعد ساعات نتيجة التهاب رئوي حاد. واستمرت أسرتها بالبحث عنها ليكتشفوا بعد أسابيع أنّها قد دفنت في مقبرة جماعية في جزيرة هارت، ليتمّ استخراج رفاتها لاحقًا ونقلها إلى بورتوريكو. هكذا انتهت حياة من وصفت نفسها في إحدى قصائدها بأنها مجرد "محاولةٍ للحياة".

دافعت دي بورغوس عن القوميّة والهوية البورتوريكية وأضاءت في أعمالها على قضايا مثل الماضي الاستعماري للجزيرة، وإرث العبودية، والإمبريالية الأميركية. ويظهر هذا جليًّا في أولى قصائدها "نهر لويسا العظيم" إذ تعالج فيها، إلى جانب ذكريات طفولتها الأولى وارتباطها العميق بجذورها، الألم والعنف اللذين عاناهما سكان الجزيرة الأصليون والعبيد الأفارقة الذين عاشوا على مقربة من نهر بورتوريكو.

وقد ألهمت نساء زمنها من خلال نتاجها الأدبيّ ومشاركتها الفعّالة في الاحتجاجات وساهمت في التغيير الأيديولوجي للوعي الأدبي النسوي في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات ما بعد الحرب في المجتمع البورتوريكي إذ استطاعت أن تجد صوتها الفريد. وتأثّرت بشعراء عظماء أمثال لويس توريس وبابلو نيرودا. يقتصر نتاجها الشعري على ثلاث مجموعات شعرية. وهي "قصيدة في عشرين أخدودًا" و"أغنية الحقيقة البسيطة" و"أنت والبحر" وتم نشر مجموعتين منها فقط خلال حياتها.

في 19 شباط/ فبراير 1987، كرّمها القسم الإسباني في حرم جامعة بورتوريكو في مدينة هوماكاو بمنحها درجة الدكتوراه الفخرية في الآداب والعلوم الإنسانية. وأطلق اسمها على أحد المنازل الذي يحمي الناجيات من العنف المنزلي، وعلى متحف العلوم والفنون في العاصمة سان خوان. وفي عام 2010، احتفلت دائرة بريد الولايات المتحدة بإرثها الثقافي بتخصيص طابع يحمل صورتها في شهر التراث الإسباني. وفي نيويورك، في مانهاتن، تم إنشاء مركز خوليا دي بورغوس الثقافي.

تمثال خوليا دي بورغوس في سان دييغو بأميركا


هنا ترجمة لقصيدتيها "حب" و"أغنية مريرة":


أغنية مريرة

لا شيء يقلقني، ولكنّي حزينة

شيءٌ من الظل، بطيءٌ، يصفعني

رغم أني خلفَ هذا الاحتضار

 أوشكتُ أن ألامس النجوم

 

لعله عناقُ اللاجدوى

الحزنُ اللامتناهي لكينونة الشّاعر

الغناءُ المتواصل، دون انقطاعٍ

لمأساةِ الوجود التي لا مثيل لها

 

أن نوجد، رافضين الوجود... هذا هو الفصام

المعركةُ التي تستنفد كلّ صبر

أن نكتشف، بينما الروح تحتضر

أن قوةً ما زالت هناك في الجسدِ البائس 

 

أوه! اغفر لي يا حبّي إن لم أذكر اسمك

 أنا جناحٌ جافٌ خارج أغنيتك

انا والموتُ ننامُ سويًا

وحده غنائي لك، يوقظني


حـب

شعلةُ الرّب الوحيدة المتبقيّة لي

في الدرب اليقين لـِ اللايقين

هنا

يائسةً،

أتأمّل الحياة من حفرة الوقت

 

متقطعًا، يمرّ

مسار الضوء الذي تراءى في نعاسي

 

أي زرقة للصباح التي فارقت الحياة

وظلّت تطفو في الفضاء

 

أي نسيج المداعباتٍ التي تشرق مبعثرة،

حالما يستيقظ الجسد

 

أيّ رغبةً بالابتعاد عن خطواتي التائهة

تلك التي تتضاعف في الصدى

 

هنا، في هذا الانجذاب المستمرّ إلى العدم

ما أكثر ما هاجم الصّمت القاحل روحي!

 

أملي رحلةٌ عائمةٌ داخل نفسها

ظلٌ غامضٌ بدون مرساة وبدون عودة

 

*كاتبة سورية/ نيويورك.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.