}

هل أتاك حديث التربية الجنسية؟

نبيل سليمان 15 أبريل 2023

يتواتر حضور التربية الجنسية عربيًا. وقد كانت البداية في تونس منذ بداية 2018، عندما تقدمت يمينة الزغلاوي، عضوة البرلمان التونسي عن حزب النهضة، إلى وزارة التربية باقتراح إدراج مادة تعنى بالثقافة الجنسية في المدارس، وهو ما سبق أن نادت به جمعيات عديدة في المجتمع المدني. وفي السنة التالية، قامت وزارة التربية بالخطوة الأولى عربيًا، إذْ أدرجت التربية الجنسية في مواد اللغة العربية، والتربية الإسلامية، وفي الأنشطة المدرسية، لما بين 5 ـ 15 سنة، مع مراعاة القيم الدينية والأخلاقية. وبالطبع، انبرى من رأى في الخطوة تعليم الأجيال القادمة الانحطاط الأخلاقي، وترويجًا للأفكار الغربية بعد الثورة بخاصة. ودرءًا للتخوفات، كانت يمينة الزغلاوي قد اقترحت اسم التربية الصحية بدلًا من التربية الجنسية.
في مصر، قررت وزارة التربية والتعليم دمج مفاهيم التربية الجنسية والتحرش الجنسي والانحرافات السلوكية والعنف الجسدي في مناهج التعليم الأساسي (الابتدائي والإعدادي). وكان القرار قد جاء بتوصية من وزارة الداخلية، بعد قرار إغلاق منصة ديزني، بدعوى تخصيصها معظم برامجها للترويج للمثليين. واستتبع قرار وزارة التربية والتعليم مراجعة المفاهيم. وقد صبّ من وصفوا بالسلفيين جام غضبهم على الوزارة بدعوى أنها تحرك غرائز الأطفال والمراهقين، وتدفعهم إلى الانحراف الجنسي.
وثمة من ادّعى أن الإسلام يحرم المقاربة الجنسية التي سوف تفتن الصغار، وبين أولاء من وُصِفوا بشيوخ الفتاوى الجنسية، ومن يتغنون بمزايا الختان، والزواج المبكّر، وتعدد الزوجات.
أما في سورية، فقد نقل تلفزيون سورية في 15/ 12/ 2022 أن إلهام محمد، رئيسة البحوث في مديرية التربية في دمشق، أعلنت عن البدء بإدخال محتوى خاص بالمفاهيم الجنسية إلى المدارس. وكان قد سبق ذلك بسنة إضافة مقرر تعليمي جديد هو (التعليم الوجداني العاطفي)، يبتغي دمج التلميذ والطالب من الابتدائي إلى الثانوي في ممارسات سلوكية إيجابية وآمنة وتقي الصحة. وهنا ينبق السؤال عما يتصل بهذا التعليم من التربية القيمية والوجدانية والعاطفية، بينما تُتجاهل مشاعر الحب، أو الميل العاطفي، أو الجنسي، بين الطرفين؟ هل المشاعر هي فقط الصداقة، أو الأمومة، أو حب الوطن؟ وهل الصحة هي صحة الجسد والروح ما عدا الصحة الجنسية؟




تشظى التعليم وتشظّت التربية في سورية بتشظية البلاد بين مناهج وكتب وأساليب الإدارة الذاتية، في الشرق والشمال، حيث تسيطر قسد، وفي الشمال والغرب، حيث تسيطر جبهة النصرة، والحكومة المؤقتة، وتركيا، وبين سورية (المفيدة). وبصدد التربية الجنسية قرأت لمدير تربية إدلب أنه لا يمانع اعتماد هذه التربية، مشترطًا ألا تتعارض مع الدين، ومع ثقافة المجتمع، فضلًا عن أن الوقت الآن غير مناسب، وينبغي أن يُهيّأ المجتمع نفسيًا لذلك.
مهما يكن، عليّ أن أعترف أن ما دفعني إلى كتابة هذه المقالة عن التربية الجنسية هو أن السطور السابقة أعادتني خمسًا وأربعين سنة إلى عام 1978، عندما نشرت وزارة الثقافة لي كتاب "النسوية في الكتاب المدرسي السوري".

"النسوية في الكتاب المدرسي السوري"
عملتُ معلّمًا في المرحلة الابتدائية ثلاث سنوات في قرية البودي من ريف جبلة، أثناء دراستي الجامعية، ثم عملتُ مدرسًا للغة العربية سنةً في إعدادية الجزائر في قرية القطيلبية من ريف جبلة، وأسبوعًا في إعدادية بلدة السبخة من ريف الرقة، وبعدها طوّحتُ في تدريس العربية من ثانويات مدينة الرّقة، إلى ثانويات حلب، ودار المعلّمين فيها، حيث وضعت كتاب "النسوية في الكتاب المدرسي السوري"، وأخيرًا إلى اللاذقية، حيث عملت في دار المعلمات سنة، استقلت بعدها اعتراضًا على قرار "تبعيث التعليم"، إذ كان ابتدأ تطبيق شرط أن يكون المدرّس، أو المعلّم، بعثيًا، في دُوْر المعلمين والمعلمات. ولما لم أكن بعثيًا، جرت إعادتي إلى التعليم الثانوي في ثانوية (أسامة بن زيد)، فعملتُ أسبوعًا، ثم قلت وداعًا للمهنة التي كانت عزيزة جدًا عليّ. وفي الوقت نفسه (1/ 10/ 1979) جرى أيضًا نقل إلياس مرقص من دار المعلمين في اللاذقية إلى ثانوية جول جمال، فداوم أسابيع، ثم قال للمهنة إياها: وداعًا.
أما كتاب "النسوية في الكتاب المدرسي السوري" فيقوم على ما للكتاب المدرسي من دور راجح في العملية التربوية، فهذا الكتاب وحده يوزع بعشرات أو مئات الآلاف من النسخ، ولأنه يُعمّر فقد تبلغ نسخه الملايين في بلد صغير. والكتاب المدرسي هو القناة الكبرى لبثّ الأيديولوجية المهيمنة، مع التذكير باعتبار جان بوفييه للمدرسة (طفل الدولة)، الذي يرضع من لبان العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. والكتاب المدرسي هو أيضًا أداة الحفاظ على الأيديولوجية السائدة، أيديولوجية الطبقة، أو الطبقات الحالمة. وعلى الرّغم مما للكتاب المدرسي من شأن، ظلّ في منأى عن النقد والدرس، وحين صدر كتابي المذكور، صدر في السنة نفسها (1978) كتاب نجلاء نصير بشور "القضية الفلسطينية والوحدة العربية في مناهج التعليم في الأردن وسوريا ولبنان". وهذا الكتاب الصغير يحلل مواد الاجتماعيات في الكتب المدرسية في البلدان الثلاثة. وإلى ذلك كان نبيل أيوب بدران قد أصدر عام 1969 الجزء الأول من كتابه "التعليم والتحديث في المجتمع الفلسطيني"، وفي عام 1979 أصدر الجزء الثاني.
لكتابي بشور وبدران، ولكتابي المذكور، صفة الريادة في دراسة الكتب المدرسية من زوايا متعددة. ولئن كان كتابي قد أجّل دراسة النسوية في كتب التربية الدينية إلى مشروع آخر في درس الكتاب المدرسي، فقد كانت جميع الكتب الأخرى هي مادته في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية. وقد ثمّن أنطون مقدسي ـ مدير التأليف والترجمة والنشر في وزارة الثقافة آنئذٍ ـ الكتاب عاليًا، وكان إلياس مرقص أكبر إعجابًا به، وبخاصة أنه تناول لأول مرة التربية الجنسية في فصله الأخير.
أما الفصول الأربعة الأخرى فقد تناولت كل ما يتصل بالمرأة في المناهج، وفي الكتب المدرسية السورية، آنئذٍ: الأسرة، الأمومة، الزواج، السياسة، العمل غير المنزلي، العمل المنزلي.

التربية الجنسية
بدأ تناول كتاب "النسوية في الكتاب المدرسي السوري" لهذه القضية بالتعريف بها، وبالمربي الجنسي، ثم عالج السؤال المعقد: كيف نربي الطفل جنسيًا منذ ما قبل المدرسة إلى المرحلة الابتدائية؟ وتابع الكتاب إلى الأسئلة الجنسية للطفل قبل أن يفصل القول في التربية الجنسية في كتب الأدب واللغة والتاريخ والعلوم الطبيعية والتدبير المنزلي. ومن ذلك مضى الكتاب إلى الفصل والاختلاط في المراحل جميعًا، إلى التكاثر الجنسي تشريحيًا ووظيفيًا، وإلى المشاكل المدرسية الجنسية (التحرش ـ المثلية ـ التجريب...)، فإلى الغزل والحب، وتحديد النسل. وأستعيد هنا ما أشرت إليه في كتاب "النسوية في الكتاب المدرسي السوري" مما سبقه، وهو ما كتبه تحت عنوان "التربية الجنسية" رؤوف جبري في مجلة (المعلم العربي)، وما كتبه فاخر عاقل في جريدة الثورة تحت العنوان نفسه، وكذلك الندوة التي أقامتها جريدة الثورة حول التعليم المختلط عام 1975، حيث برزت مطالبة صريحة من قبل عدد من مسؤولي التربية بإدراج مادة التربية الجنسية في المدارس.
في عام 1988، صدرتْ الطبعة الثانية من كتابي حاملًا عنوانًا مختلفًا سيلازمه في الطبعات التالية، وهو "أيديولوجية السلطة: بحث في الكتاب المدرسي". وقد علّلت تبديل العنوان بالتركيز على بؤرة الكتاب، وهي كشف الأيديولوجيا الرسمية السائدة، متكئًا على ما أرسل جوران ثربرون في كتابه "أيديولوجية السلطة وسلطة الأيديولوجيا"، الذي ترجمه إلياس مرقص ونشره عام 1982. وعندما فاتحت إلياس مرقص بما انتويت من تبديل العنوان بالعنوان الجديد، وبترددي، كان له الفضل في حسم الأمر.
عندما رأى "النسوية في الكتاب المدرسي السوري" النور، غازلت حلمين: الأول تخصيص كتب التربية الدينية بكتاب، والثاني متابعة النظر في الكتاب المدرسي في أكثر من بلد عربي. ومن أجل ذلك جمعت كتبًا مدرسية من المغرب واليمن ومصر، ما زالت تحتل أحد رفوف مكتبتي، لكن كتابة الرواية والنقد أخذاني بعيدًا عن ذينك الحلمين البعيدين، وعن سواهما.

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
1 مايو 2024
استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.