}

ذكرى رحيل غونتر غراس: عصاه لا تزال تقرع الطبل

سناء عبد العزيز 22 أبريل 2023
استعادات ذكرى رحيل غونتر غراس: عصاه لا تزال تقرع الطبل
حصل غراس على جائزة نوبل 1999 (Getty)
يطلق على الكاتب الألماني غونتر غراس ضمير ألمانيا بعد الحرب، على الرغم من اعترافه المتأخر في سيرته الذاتية "تقشير البصلة" بوقوعه في فخ النازية، وإيمانه المتحمس بانتصار هتلر في فترة مراهقته، بيد أن أهوال الحرب العالمية الثانية التي خاض غمارها ضمن فريق صُنِّف لاحقًا بين مجرمي الحرب، وما أسبغته عليه تجربة الأسر لدى القوات الأميركية، ثم احتكاكه المباشر بمختلف التوجهات السياسية خلال الفترة التي قضاها في العمل في المناجم، كشفت له عن مدى زيف عقائدنا المبكرة. وجاءت روايته الأولى "الطبل الصفيح" لتصفعنا بتلك الحقيقة، وتحقق له الشهرة والذيوع، وتؤهله في ما بعد للحصول على نوبل في عام 1999.

طفولة بين الروح القدس وهتلر
ظهرت الرواية الشطارية في إسبانيا في القرن السادس عشر، ومنها انتقلت إلى جميع أنحاء أوروبا، متخذة من حياة بطلها البيكارو/Picaro، بمعنى الشاطر، أو المغامر والصعلوك والمهمش كذلك، متنًا للسرد بطريقة هجائية ساخرة. وقد أشار غراس مرارًا إلى تأثره بكتاب عصر الباروك الذين تأثروا بأساليب السرد الشائعة في إسبانيا آنذاك، واستعار شخصية البطل المتشرد المشاكس بغرض تجديد الأنواع الكلاسيكية، مثل رواية التشكيل، والبيكاريسك، والحكاية الخيالية، لافتًا الانتباه إلى تأثير سيرفانتس، وفلوبير، ومونتين، جنبًا إلى جنب مع جان بول، وفونتان. كان غراس نهمًا في قراءة الترجمات، وهو الذي احتوت مكتبة والدته على كلاسيكيات روسية لتولستوي ودوستويفسكي، إلى جانب الرومانسيات التاريخية الشهيرة.
بطل روايته أوسكار ماتزراث، هو الراوي بدوره، ولكنه راوٍ غير موثوق فيه. فهو أولًا يكتب القصة في أثناء احتجازه في مشفى للأمراض العقلية في رزمة من خمسمئة ورقة "بريئة"، على حد قوله، وثانيًا، يتمنى لذاكرته أن تكون دقيقة، فمتى كانت الذاكرة دقيقة! ومن أين عليه أن يبدأ؟
يقرر الطفل المعجزة القادر بصوته فحسب على تهشيم الزجاج فضلًا عن فرض إرادته على جسده بإيقاف نموه عند سن الثالثة، بأن يبدأ من مسافة بعيدة، "إذ لا يجوز لأحد أن يسرد وقائع حياته من دون التحلي بالصبر، فيذكر على الأقل نصف أجداده قبل أن يؤرخ لوجوده الشخصي. وأقدم إليكم، أنتم الذين توجب عليهم أن يعيشوا حياة مضطربة خارج المصحة التي أرقد فيها الآن، أنتم أيها الأصدقاء والزوار الأسبوعيين الذين لا علم لهم بمخزون ورقي، إليكم كلكم، أقدم جدة أوسكار من ناحية الأم" (طبل الصفيح، ص 20، ت: حسين الموزاني).



غير أن هذه البداية تتفق مع أهداف الكاتب نفسه في تقليب تراث والدته الكاشوبي، الذي تعرض للقمع والتهميش، وذلك برسم صور حية للشخصيات التي تمثل الأقليات، أو التي لديها هويات مختلطة مثله، فأوسكار القزم الهجين ثمرة زواج بين ألماني وبولندية، وليس هذا فحسب، فهو يعتقد باشتراك رجلين في بذر نطفته وتغذيتها؛ أبوه الألماني، وقريبه البولندي. وبصرف النظر عن مدى صحة ظنونه من عدمها، ما دمنا في النهاية حيال نزيل مصحة للأمراض العقلية، فإن غراس نفسه ولد في مدينة دانتسيغ الحرة في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 1927. والده فيلهلم غراس لوثري بروتستانتي من أصل ألماني، وأمه هيلين غراس كاثوليكية رومانية من أصل كاشوبي بولندي. وكان لوالديه، مثل بطله تمامًا، محل بقالة يتوليان إدارته، والبيت الذي يعيشون فيه كان صغيرًا وضيقًا، وفي وسط كاثوليكي. يقول كاتب سيرة غراس، ميشائيل يورغس، عن هذه الفترة: "إنها طفولة بين الروح القدس وهتلر".

أوسكار الشاطر المغامر الصعلوك
وكما تغطي الرواية شؤون الحب، تغطي الحرب والمراحل الفاصلة في بلده، مثل غزو الجيش الأحمر لدانتسيغ في عام 1945، وطرد السكان الألمان منها، ومن أجزاء أخرى من أوروبا الشرقية. كانت والدة غراس، التي اغتصبها الجنود الروس، واحدة من هؤلاء اللاجئين، وكان تهجين أوسكار بمثابة انعكاس للوضع الشائك للأقلية الحائرة بين الثقافة البولندية والألمانية، وظهور "مساحة ثالثة"، داخلها لا يمكن أن يسمح أوسكار القزم لجسمه أن ينمو على نحو طبيعي، وهو ما أسهم في توعية العالم بمعاناة الأقلية الكاشوبية، كثقافة باهتة مرتبطة بالأرض والتقاليد والأساطير.
نحن، إذًا، حيال شخصية مكتملة روحيًا ترفض اتخاذ الشكل الملائم لمرحلتها العمرية اعتراضًا على تقرير والديه لمصيره في عيده ميلاده الثالث بأن يصبح بقالًا مثلهما، ويتخذ من الطبلة التي أهديت إليه رفيقًا روحيًا، ومن صوته الجهوري وسيلة لردع كل من يحاول انتزاعها منه، وفي أحد المشاهد الطريفة، يبرجل أوسكار مسيرة نازية بقرع إيقاع موسيقى الفالس النمساوي، ولا تستطيع الفرقة مقاومته. رأى النقاد الأوائل في ألمانيا في رواية غراس الأولى انفصالًا جذريًا عن أعراف كتابة ما بعد الحرب، والتي كانت "أعراضًا لانتقال اجتماعي وثقافي وشيك على نطاق أوسع"، ولكنها استقبلت عالميا كجزء من التقاليد الأوروبية القديمة للبيكاريسك.
يقول حسين الموزاني في مقدمة ترجمته المميزة لـ"طبل الصفيح" الصادرة في 2014 عن منشورات الجمل، "انطوت الرواية على معالم محلية متعددة، منها مسقط رأسه في موطن الكاشوبيين، بحيث استطاع أن ينقذ بعضًا من لغة هذا الشعب الصغير الذي تنحدر منه والدته، وهي لغة مطعمة بالمفردات المستعارة من اللغتين الألمانية والبولندية، وبذل جهدًا في إحيائها من خلال الألمانية لغة الأب، لكن هذه اللغة التي استخدمها غراس لم تكن عادية تقليدية ومألوفة، إنما لغة خاصة به وحده، أوجدها لنفسه، أو أعاد صياغتها، فصار ينحت ويشتق منها كما يشاء. ولم يكتف بذلك، إنما وضع لها لحنًا مميزًا يتناغم مع إيقاع الجملة طولًا وقصرًا، مولدًا أنغامًا وإيقاعات موسيقية، وصرخات بشرية، وأناشيد جماعية، وغير ذلك من الأصوات التي يشهدها المرء في الحرب والسلم". ويبدو أننا حيال تجربة تطهيرية يكفر بطلها متوسلًا بالاعتراف عن ذنوب اقترفها شعب بأكمله، وهو الكتاب الذي كان ينتظره جيل ما بعد الحرب ليغسل يديه من الدماء التي تورط فيها، ويعلن عن النذالة الألمانية كبداية للتصالح.

مواجهة ماضٍ لا يمضي
اتجه غراس مبكرًا إلى دراسة الرسم والنحت، وتولع بطبل الجاز، فاشتغل عازفًا. نشر أول ديوان شعر عام 1955، ثم رحل إلى باريس، وهناك أنجز عمله الملحمي "طبل الصفيح"، الذي كان أشبه بعصف ذهني تطلب منه الانزواء لفترة كي يتعافى في منزل ريفي مستأجر في جزيرة مون الدنماركية، أو في الشقة الواقعة على ساحل الغارف البرتغالي، أو الخلود إلى مرسمه حيث يمكنه النحت والرسم في موطنه شمال ألمانيا. ثم أتبعها بـ"القط والفأر" (1961)، و"سنوات الكلاب" (1963)، لتكتمل بذلك "ثلاثية دانتسيغ"، وتؤكد بصمته في الكتابة، ودوره في إثراء الأدب العالمي، ومدى "استهتاره الإبداعي"، و"روحه التدميرية المبهجة" التي أشادت بها اللجنة المانحة لنوبل.



لكن شهرة غراس على المستوى العربي تعود إلى مواقفه السياسية المناصرة لحقوق الإنسان، والداعمة للعالم الثالث، على حد قول سمير جريس في كتابه الصادر عن دار الكتب خان في القاهرة "غونتر غراس ومواجهة ماضٍ لا يمضي". ويستطرد جريس: "بالرغم من ترجمة عدد من أعماله إلى العربية، أظنُ أنه لم يُقرأ على نطاق واسع. وأعتقد أن ابتعاد القراء العرب عن أعمال غراس يرجع، من ناحية، إلى ضخامتها، وتعقد بنيتها، والتصاقها بالتاريخ الألماني، واحتشادها بالتفاصيل، كما يعود إلى نوعية الترجمات العربية. ويتضح قلة الاهتمام بغراس عربيًا في عدم وجود كتب تتناول حياته، أو أعماله، فهذا ـ على حد علمي ـ أول كتاب يصدر بالعربية عن صاحب ثلاثية دانتسيغ".

ما ينبغي أن يقال
احتقر غراس سياسات جيل 1968 المناهض لفييتنام، وحث جيل الآباء على مواجهة ماضيهم النازي بأعين مفتوحة، وتعلم فضيلة الاعتراف بالذنب، لكن ذنبًا عظيمًا مثل الهولوكوست لم يمنعه من مهاجمة إسرائيل في قصيدته الشهيرة "ما ينبغي أن يُقال"، واتهامها بتهديد السلام العالمي، على اقتناع منه بأننا نواجه نازية جديدة، ما جعل إسرائيل تصدر قرارًا يحظر دخول غراس إليها. وتشن عليه وسائل الإعلام الألمانية حملة تتهمه بمعاداة السامية، مذكِّرةً إيانا بأنه خدم في شبابه في قوات "إس إس" الموصومة بتهمة "مجرمي حرب". كذلك أطلق المجلس المركزي لليهود في ألمانيا على القصيدة "كتيب إثارة عنيف"، وذكر هنريك برودر، أبرز كاتب يهودي، بأن غراس كان دائمًا لديه مشكلة مع اليهود، لكنه لم يفصح عنها أبدًا بوضوح كما هي الحال في هذه القصيدة.




في عدد خاص من أكسفورد للدراسات الألمانية هو نتاج مؤتمر عُقد في جامعة سوانسي 2017 للاحتفال بعيد ميلاد غراس التسعين، يجادل جوليان بريس بأن مقالة سارتر المؤثرة "معاداة السامية واليهود" شكلت على الرغم من ذلك تصوير الشخصيات اليهودية في رواياته، وأن إنكار غراس لسارتر "كان جزءًا من استراتيجية تحديد المواقع الذاتية في المجال العام للسياسة الفكرية لألمانيا الغربية". وخلال مسيرته الطويلة في الكتابة، تذرع غراس مرارًا وتكرارًا بأعمال ألبير كامو، الذي قرأه لأول مرة عندما كان طالبًا في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وتأثر بالمبادئ العصرية للوجودية. ويستكشف كريستوف باري في العدد نفسه هذا التأثير المتغير لإرث كامو، والذي كان أكثر وضوحًا في أعمال منتصف حياته المهنية، ولكنه ظل مبدأ إرشاديًا حتى آخر أعماله، مستشهدًا بروايتي "الطاعون" لكامو، و"الفئران" لغراس، اللتين تشتركان في التركيز على التجارب الكارثية التي تؤثر على البشر على المستوى البيولوجي والسياسي، وتلقي عليهم بالمسؤولية في تعريض كوكب الأرض للخطر.
في 13 أبريل/ نيسان 2015، توفي الحائز على نوبل، والمدخن الشره للغليون، بعدوى رئوية في مستشفى لوبيك عن عمر يناهز 87 عامًا. ودفن في بهليندورف، على بعد 15 ميلًا جنوب لوبيك، حيث عاش طويلًا. قبل وفاته، لم ينس أن يحذرنا من نوع جديد من الحرب: "نسمع في الفترة الأخيرة تحذيرات متكررة من حرب عالمية ثالثة، أتساءل أحيانًا ما إذا لم تكن بدأت بالفعل بطريقة مختلفة تمامًا عما عهدناه في الحربين العالميتين الأولى والثانية".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.