}

"شوارع" الماغوط و"أرصفته" في حواريَّة تقليب دلاليّ

مازن أكثم سليمان مازن أكثم سليمان 25 يوليه 2023

من المُفيد دائمًا إعادة قراءة الآثار الأدبية والإبداعية في كل فترة، وبعين تغيّرات الحياة والواقع، وهذا أمر يُغنِي تلك الآثار ومعانيها من جهة أُولى، ويُفيد أيضًا، من جهة ثانية، في فهم أعمق للتحولات الراهنة باستمرار، حيث إن الأعمال الإبداعية الكبيرة قادرة دائمًا على تقبُّل تأويلات جديدة، وهذه التأويلات تساهم بدورها في إعادة تفسير المستجدات التي تُحدِق بالمجتمع والسياسة والعصر عند كل مرحلة.  

في هذا الإطار، تنتمي بعضُ نصوص أو بعضُ عبارات الشاعر السوري محمد الماغوط إلى الأعمال الفنية الأدبية والشعرية القادرة على استفزاز مخيلاتنا وتصوراتنا في كثير من الأحيان، إذ يستطيع المطلع أن يتلمس طبقاتٍ ورُؤى مُركبة ومُتراكِبة في نسبة لا بأس فيها من كتابات الماغوط، بعكس الحكم السائد بسهولة انقياد نصوصه إلى فهمٍ دلالي أحادي ومباشر. وهذا الاعتقادُ هو برسم التفسير والتأويل الجدلي، أكثر منهُ برسم التلقي الجَمالي وأحكام الذائقة الفنية والإبداعية، لكنَّهُ، أيضًا، اعتقادٌ يظلُّ ها هُنا ذا، في إطار الآليَّات الإجرائيَّة أكثر منهُ كيفيَّات فصْلٍ حدِّيٍّ حاسِمٍ بينَ هذيْن المُستوييْن.  

لعل العودة إلى معجم الماغوط الشعري والأدبي في كل ما كتب، من شأنها أن تضع مفردتَي (الشّارع) و(الرَّصيف) في موقع محوري من رؤيته الشعرية للحياة والعالم، حيث يتأسس مستوى عريض من موقفه السياسي والاجتماعي وكذلكَ من موقفه الوجودي، على معانٍ حمَّلها لهُما على نحوٍ خاص، وجعل منهما (علامة/ رسالة) تشير إلى ما تريد أن تخاطب به ذاتُه الآخرين من أبناء وطنه، مُشبِعًا دلالة تلك الشوارع والأرصفة بالهموم والآلام والأوجاع والمُصارَعات التي واجهها جيل كامل في سورية والوطن العربي.

"الشّارعُ" في المعجم العربي هو الطّريق الذي يسلكهُ الناس في المدن، و"الرّصيفُ" معجميًا هو المكان المرتفع قليلًا والمبني على جانبي الطريق للمشاة.

بجمع الدلالتين معًا نكونُ أمام معاني السير والمشي والتَّقدُّم والحركة والانفتاح باتّجاه أفق ما... ولا سيما إذا أشرنا، معجميًا أيضًا، إلى أن دلالة "الشّارعُ في الشّيء" هيَ: البادئُ فيهِ؛ والبادِئُ في الفكر الفلسفي (كما عند ريكور مثلًا) هوَ "المُبادِرُ" و"الفاعِلُ"، وهذا ما يحمل طبقة أخرى من الدلالة إذا تذكرنا أن "رجُل الشّارع" في المعجم الحديث (عربيًا وعالميًا) هو: المُواطِن العادي العامّي.  

لعلّ هذا التمحيص اللغوي الأوّلي يمثل مدخلًا جيدًا لفهم توظيف الماغوط للمفردتين في قصائده، ذلك أن الشارع والرصيف لديه هما الفضاء الحر المفتوح في مقابل جميع أشكال القيود الاجتماعية والسياسية والثقافية المُغلقة.  

فالانتماء إلى الشارع وإلى أرصفته عنده يعني الانتماء إلى التمرد والثورة والحرية والرفض. بمعنى أنهما تعويذة الموقف المضاد للواقع السياسي والاجتماعي القائم، ليعبّر الماغوط عبر هذا النابض الدلالي عن أحاسيس البرجوازية السورية الصغيرة ومواقفها بوصفها مَنْ كان يُفترَض أن تكون الحامل الأساسي للتقدم في مختلف المشاريع الوطنية والقومية والنهضوية الحضارية، فإذا بها تصاب بالصدمة تلو الصدمة، والإخفاق تلو الإخفاق.

قالَ الماغوط في أحد المَقاطِع الشعرية من قصيدته "رجُل على الرَّصيف":

"أيُها الشّارعُ الذي أعرفُهُ ثديًا ثديًا، وغيمةً غيمة

يا أشجارَ الأكاسيا البيضاء

ليتني مطرٌ ذهبيٌّ

يتساقطُ على كُلِّ رصيفٍ وقبضةِ سوط

أو نسيمٌ مُقبِلٌ من غابةٍ بعيدة

لأُلملِمَ عطرَ حبيبتي المُضطجعةِ على سَريرِها

كطيرٍ استوائيٍّ حنون

ليتني أستطيعُ التَّجوُّلَ

في حاراتٍ أكثرَ قذارة وضجَّة

أنْ أرتعشَ وحيدًا فوقَ الغُيوم" (ديوان محمَّد الماغوط: دار العودة، بيروت-  لبنان، ط2، 1981، ص 42 – 43).

إن الماغوط (يعرفُ) في هذا المقطع (شارعَهُ) حقَّ المعرفة، ويطابقُهُ إلى أقصى الحدود، "أيُها الشّارعُ الذي أعرفُهُ ثديًا ثديًا، وغيمةً غيمة"؛ فالأثداء رمز صريح للمبالَغة في (استحضار/ أو إحضار) الجسد والحب والجنس والإنسان العاطفي والشهواني الشّبِق، في حين أن الغيوم هي رمز للماء والخصب والارتواء والجمال بلا قيود والحرية بلا حدود.

إنهما معًا، وبما يَسوقُهُ بعدَهُما قائلًا: "ليتني مطرٌ ذهبيُّ يتساقطُ على كُلِّ رصيفٍ وقبضةِ سوط"، يؤكِّدُ حيازتَهُ عبرهما، وعبر السَّيطرة والتحكُّم بهما، مُطابَقةَ (لوغوس) الموقف المضاد لدلالات القيود والتقاليد والسجون بجميع أشكالها؛ أو بقولٍ ثانٍ: هوَ يُفتِّتُ الواقع الخانق بإحضارهِ معرفيًا، وطيِّهِ رمزيًا على (شارع الأثداء والغيوم والمطر)؛ أي: شارع الحرية والارتواء والجمال.


لكنَّ طبقات المعنى لا تقفُ هُنا عند هذا الحد، فالماغوط وهو يتحول إلى مطر ذهبي، يتمنى أن يسقطَ أيضًا على كل "قبضة سوط"، ولديه رغبة كذلك في "التَّجوُّل في حاراتٍ أكثر قذارة..."، وهذا "السوط" وتلكَ "القذارة" يُعلِّقان الحُكم الحاسم بمُطابَقة دلالات الحرية والخصوبة والجمال وحدها فقط، ويستدعيان دلالات (التَّشتُّت والاختلاف) المُفارِقة في فَجْوَةِ التفاتٍ مُعقَّدٍ قالَ فيهِا: "أنْ أرتعشَ وحيدًا فوقَ الغُيوم".

 لنُلاحظ، في سياق هذهِ (الالتفاتة) المُغايِرَة، تضافُر معاني "الارتعاش = القلق والذعر والتردد" و"الوحدة = العزلة والغربة والانفصال أو القطيعة" و"الغيوم = البعد والتعالي والظمأ"...

ألَا يبدو أن هناك فيما يبدو حاضرًا وواضحًا ومُباشَرًا في هذا المقطع الشعري مستوىً دلاليًا غائبًا وغامضًا ومُلتبسًا؟

لنُجرِّب أن نذهبَ أبعد في الحركة الدورية للفهم، ولنُقلِّب مكرَ العلامات في لعبة حفر تجريبية:

أرى، من جهتي، أن توظيف الماغوط لمُفردتَي الشارع والرصيف لا يتم بمعزل عن سياق معجمي كامل يدل في النسق الظاهري على الرفض من جانب أوّل، لكنَّهُ ينطوي في النسق المضمَر على الاغتراب من جانب ثان، فالرافض لواقعه هو شخص مغترب إلى حد بعيد، وهذهِ بُؤرة دلاليّة حاسِمة لديه، ذلك أنَّ استخدامَهُ للمُفردتين في نصوصه لا يكتمل مطلقًا، ولا ينفصل أبدًا، عن مفردات مثل التسكع والتشرد والحطام والتسول والفقر والبطالة والمقاهي والشعور الحاد بالهامشية والتصعلك، وهوَ ما يجذّرُ الدّلالة المُتمرِّدة والثّائِرة في قلب معمعة أزمة الذّات المُغتربة وُجوديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا عن نفسِها وعن المُحيط . 

لعلّ مستوى الاغتراب في دلالات الشارع والرصيف عند الماغوط ينهض على طبقتين نفسيتين ووجوديتين:

الطبقة الأولى: بقدرِ ما يكونُ "رجُلُ الشّارع" ذلكَ الفرد المُنتمي إلى هموم الشّعب والجماهير، وإلى قضايا النّاس البُسطاء والفقراء والمهمشين والمقهورين؛ أي: إلى الكينونة الجمعية... غير أنه، في الوقتِ عينِهِ (هذا الرَّجُل الشّارعيٌّ إذا صحَّ التَّعبير = الشاعر نفسه هنا) رجُلٌ مُغتربٌ ومَأزومٌ ومُنفصِلٌ (بالمعنى الوجودي) إلى حدود القطيعة حتّى عمَّن يُدافعُ عن قضاياهُم، وقد قالَ الماغوط في أحدِ الحوارات معه: "أحبُّ الجماهير شريطة أن تبقى بعيدةً عنِّي"، ولعلَّنا نتذكَّرُ في هذا السِّياق مَقولةَ سارتر الشَّهيرة: "الآخَرون همُ الجحيم".

الطبقة الثانية: بقدرِ ما يكونُ الشاعر هنا محتفيًا عبر المبالغات المجازيّة والاستعارية بالخصوبة والشبقية والشهوانية والجنسانية (الثدي والغيمة والمطر)، هو (بالمعنى النفسي) إنسانٌ يُكابد الكبت والجوع العاطفي والحرمان الجنسي، وهذا يعزز فكرة تجذُّر البعد الاغترابي بما هو فجوة تفتُّت وتشتُّت واختلاف (أنوي/ ذاتي) في صلب ما يُموِّه مركزية (الذات الجمعية) المنتمية إلى قضايا الناس. 

وهكذا، أعتقدُ أن تصعلك الماغوط الوفي لتقاليد صعاليك العرب في الجاهلية هو تصعلك يحوّل الشّوارع والأرصفة إلى عالم جامح ومتوتِّر ومفتوح لإعلاء شأن ثلاثة مواقف وجودية وكيانية ونفسية في آنٍ معًا، هيَ:

1- الموقف العبثي.

2- الموقف العدمي.

3- الموقف البوهيمي.

ولهذا يتحرك هذا التصعلك في شوارعَ وفوقَ أرصفةٍ تبدو رومانسية حينًا، وواقعية أحيانًا، ووُجوديَّة قلِقة دائِمًا... فهيَ تشكّل ما يشبه متراسَهُ الصلب العميق لتحطيم الأبواب والنوافذ والسجون المقفلة وأسوار القمع القاسي، من ناحيةٍ أُولى، وما يشبه، أيضًا، سلاحَهُ المَسكوت عنهُ، أو رُبَّما غير المُفكَّر فيه، من ناحيةٍ ثانية، لتأكيد عبثيَّتِهِ وعدميَّتِهِ وبوهيميَّتِهِ.

وهذا ما يجعَلُ دلالة "الشّارع" و"الرّصيف" مُركَّبَةً ومُعقَّدةً لديهِ بحيثُ يبدو مَعنى (الالتزام) بهُموم النّاس والعوامّ والشّعب عبرَ هذا الانتماء للخارِج المَفتوح، قابِلًا في اللَّحظة التّأويليّة ذاتِها للنَّسْف والمَحو باعتماد دلالة الاغتراب والنُّفور من الآخَرين (أو دلالة رفض الوجود الزّائف أو وُجود الثّرثرة مع الآخرين بلُغة هايدغر) واختيار مبدأ الانسحاب والعزلة واللّامُبالاة والعبث والعدم والبوهيمية، وهي العناصر المحمولة دلاليًا على جُملة ثيمات تحتفي بالحرية والتبغ والأوحال والأزقة والأسمال والحزن والوَحدة والوَحشة والضياع، على أنه من الضروري أن نتذكّر مدى نفض الماغوط ليديه ولوعيه في مرحلة مُتقدِّمة من تجربته من جميع أشكال الأيديولوجيا بألوانها الخطابية والشعاراتية والحزبية والسياسية والاجتماعية. 

أخيرًا، وليسَ آخِرًا... أودُّ أن أفتح كوّة تأويلية عبر الزمن، وأن أتفحص الكيفيات الافتراضية لتموضع دلالات شوارع الماغوط وأرصفته في هذهِ الحقبة، وهوَ ما أظنّ أنهُ مُفيد ومُكمِّل نوعًا ما لهذهِ المُقارَبة:

تحدّث الماغوط في أواخر أيامه عن كونه ابن الإرهاب النبيل الذي ترك له هامشًا كافيًا ليثور ويتمرد وينتمي إلى حالة الرفض، كأنه كانَ يرى أن الإرهاب والاستبداد في سنوات حياته الأخيرة (على الأقل في آخر عقدين من عمره) هو إرهاب إبادة مُتطوِّر جدًّا لا يسمح بأيَّةِ مساحة من مساحات الحرية مهما كانت ضيقة ومحدودة ومبتسرة.

فلو قمنا على سبيل المثال، بتخيّل وجود الماغوط حيًّا الآن في بلادنا العربيّة... هل كان يستطيع أن يمنح الشوارعَ والأرصفة تلك المعاني القديمة التي منحها لها في نصوصه؟

أظنُّ أنَّ الجواب يتعيَّنُ، نسبيًا، في مقولةِ النَّفي...!!

لا تبدو الشوارع والأرصفة في أيامنا هذهِ فضاءات تسكع وتمرد وإعلان موقف مضاد لما خلف الجدران والعقول والقلوب المُغلقة؛ إنَّما هي جزء من سجن كبير لم يترك فرصة لأحد حتى كي يتنفس أو يلهث أو يبكي قليلًا على أطلال زمن الأحلام الكبيرة وطموح بناء دول عصرية متقدّمة.

الشّوارع والأرصفة الآن هي جزء من موقف تحلُّل عامّ وانكسار شامل وقمع مُرعب، فلو خيِّرَ أي إنسان بين أن يخرج إلى الشوارع، وينتمي إلى حياة الأرصفة والتسكع والتشرد والحرية، أو أن يبقى منعزلًا في منزله الأخرس الكئيب، لفضّل البقاء حتى داخل جدران مرحاض بيته على أن يخرج ويختلط بهذا العصاب الجمعي القاهر والمقهور، لكنَّ هذا الخيار مُستحيل طبعًا لمَنْ كُتِبَتْ عليه الهرولة واللُّهاث كالمسعور خلفَ لُقمة عيشهِ وعيشِ أولاده.

رحم الله الماغوط، ورحم الله شوارعَهُ وأرصفتَهُ المَوؤودة، بانتظار أن يأتي زمن آخر وأجيال جديدة تمسح الدموع والدماء والغبار عن شوارعَ يمكنُ أن تصرخَ بكاملِ صفائِها من جديد، وعن أرصفةٍ يمكنُ أنْ تحملَ على ظُهورِها الجامحة نداءاتٍ ملؤها الرفض والتمرد والحرية وأحلام الخلاص والتَّغيير.

* شاعر وناقد سوريّ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.