}

صناعة القيامة في غزة: دماء الخرافة الثيوسياسية

محمد هديب محمد هديب 2 يناير 2024

وافق عام 2009 اختيار القدس عاصمة الثقافة العربية، وكان أستاذ الأدب المقارن حسام الخطيب (1932-2022) المشرف العام لمركز الترجمة في وزارة الثقافة القطرية، حين عرّفتُه إلى منير العكش أستاذ الإنسانيات واللغات الحديثة في جامعة سفوك الأميركية.

في تلك الأيام رحّب الخطيب بمحبة غامرة بالمخطوط الذي اكتمل على يد العكش بعنوان "صناعة القيامة"، وهو الكتاب الذي سيصدر سريعًا، إذ دائمًا لا تحمّل كتب العكش أعباء على المراجعين والمنفذين الفنيين، بسبب دقته الكتابية، وخبرته في هذه الصناعة.

غير أن الخطيب في زيارتي المُوالية إلى مكتبه أخبرني بأن ثمة مقترحًا لتغيير العنوان من "صناعة القيامة" إلى "عروق القدس النازفة" لسببين أولهما حساسية القارئ المحلي من فكرة أن القيامة تُصنع، والثاني أن القدس التي نحتفل بها عاصمة ثقافية تمثل وحدها نصف الكتاب.

وافق العكش بأريحية على العنوان الجديد "عروق القدس النازفة" وضم الكتاب إلى جانبه، إسهامات من إسرائيل شاحاك وكارين أرمسترونغ ونصير عاروري ورشيد الخالدي وسارة روجرز وفؤاد مغربي وعيسى بلّاطة وجبرا إبراهيم جبرا، (مقالة كتبها عن القدس بالإنكليزية عام 1965) ولين روجرزك وهذر سبيرز.

غلاف القيامة

تذكرتُ تغيير العنوان قبل 14 عامًا حين كان أحمد دراوشة، مراسل التلفزيون العربي، على البث المباشر بعد أسبوع من بدء حرب الإبادة على غزة يشير إلى الفكرة ذاتها.

وأورد في متابعته أن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في زيارة خاطفة إلى جنوده حول كيبوتس بئيري ضمن مناطق ما يسمونه "غلاف غزة"، قال إن إسرائيل ستغير اسم الغلاف إلى آخر جديد هو "منطقة القيامة".

من جانب يبدو اسم غزة غير لطيف على مستوى شائع في المجتمع، لأنها منذ التاريخ النضالي الفلسطيني كانت الأكثر عنادًا والمبادِرة أكثر من غيرها في المقاومة العنيفة.

ومن جانب آخر فإن علم نفس الفرد وعلم نفس الجماعة قد يلمَحان التقاءً ما في اللحظة التي تسبق الهستيريا الدموية، بأن تطلق مسمّيات لا تشير إلى الوجود الطبيعي للبشر والجغرافيا.

شارع غزة

يسميها كثير من الإسرائيليين النقب الغربي، والمفارقة التي يوردها مراسل التلفزيون العربي أن نتنياهو ذاته يسكن في "شارع غزة" بالقدس، ولن تعدم مواقع التواصل وجود حملات لاحقة تطالب بتغيير اسم الشارع، وهو ضمن أسماء عربية أخرى مثل شارع يافا وشارع نابلس، استولى عليها الصهاينة، وكانت مع تبلور المشروع الاستعماري تلفظ بما يناسب معجمهم الثيوسياسي فتحل "عزّة" بدل "غزّة".

لكن الحضور العالمي للمجزرة جعل اسم غزة مكتوبًا بالأشلاء، والدماء، والأطفال الهائمين على وجوههم والمشاهد المؤلمة لأحياء يدفنون على عجل أحباءهم، وآخرين يدفنون جثثًا تحللت لم تعرف هويتها الشخصية. كل هذا يقع في غزة، مثلما تقع فيها مقاومة باسلة.

تُستولد الأيديولوجيا العنصرية الصهيونية من الميتافيزيقا. يحلو لها ذلك، على طريقة التجربة الأم، فما هي أميركا سوى حاصل جمع مستوطنات استعمارية محفوفة بالوعود السماوية.

المفارقة التي يوردها مراسل التلفزيون العربي أن نتنياهو ذاته يسكن في "شارع غزة" بالقدس


مكابيون في الشجاعية

تمسي حتى تسمية "عزة" مشيرةً إلى فلسطينيين ينخرطون في فعل مقاوم ضد آخِر استعمار استيطاني، ولكنهم في خطابات نتنياهو خارجون من نصوص قديمة ينبغي قتلهم بالسيوف الحديدية، أثناء خوض "معارك صعبة في جباليا والشجاعية وخان يونس وأماكن أخرى" حيث "سقط المكابيون في عصرنا في القتال ضد عدو يريد تدميرنا".

وهي في كل شوارع العالم وفي الأروقة المؤسسية التي تناصر فلسطين أو تحشد الدعم للدولة الوظيفية أصبحت أمام حقيقة واحدة عنوانها غزة وفيها حرب إبادة واضحة.

لم يخرج مرسوم إسرائيلي باعتماد "منطقة القيامة" اسمًا لغزة. وقد كان ينقصنا هذا المرسوم بالفعل ونتوقعه ضمن فصول التهريج التي أطاحت بصورة متفوقة مفبركة في محيط بدائي.

رضع الصهاينة من ناب الأفعى ذاته الذي رضعه أحد الآباء الاستعماريين، جون ونستون تشرشل الذي قال إن الفلسطينيين لا يملكون من فلسطين أكثر مما يملك الكلاب من الحظائر التي يعيشون فيها، كما يورد العكش من شواهد مفزعة في الكتاب.

انتقام سماوي

وفي بيانهم الطويل على هذه الصورة العنصرية النمطية، كانت الفوضى العارمة التي وقعوا تحتها منذ السابع من أكتوبر، تدفعهم لاستدعاء فوري للسردية القيامية، في أسوأ أداء سياسي كشف حقيقتهم المزوّرة التي بنوا فيها عمارة خلّبية أمام الإبراهيميين العرب كما تُبنى خمّارة على زبيبة.

والسماء التي أعطتهم أعطية شعب الله المختار هي التي تنتقم بأيديهم من خلال تفوق سلاح الطيران، وإلقاء كل ما لديهم من قنابل وصواريخ على أي مكان داخل هذه البقعة المنكوبة. ولتبرير ذلك تسابقوا ميدانيًا في إطلاق النعوت التي تحط من قدر الفلسطيني، كأن يصوروه حيوانًا بشريًا أو داعشيًا أو طفلًا إذا كبر سيصبح أشد تطرفًا من سابقيه.

هذا يتزامن بالحرف مع قول الرئيس الأميركي جو بايدن في أثناء زيارته التضامنية إلى تل أبيب إنه لو لم تكن هناك إسرائيل "لعملنا على إقامتها"، وأعاد في عيد الأنوار اليهودي "حانوكا" قبل أسبوعين ما قاله قبل 35 عامًا "أنا صهيوني".

بعد أسابيع من اندفاعة نتنياهو في الميدان حين أرادها منطقة قيامة، واصل في خطاباته ومنشوراته في منصة "إكس" (تويتر سابقًا) القول "هذه هي الحرب بين أبناء النور وأبناء الظُلمة"، مستندًا إلى سفر أشعيا، ومن سفر التثنية قال "تقول لنا التوراة اذكر ما فعله بك عماليق".

دولتان قياميتان

لا تبدو إسرائيل في دور الأزعر أو "كلب الحراسة" تحت رعاية قوى استعمارية كبرى. إنها بما تعرّيه غزة، النموذج المعاد إنتاجه لصناعة دولتين قياميتين في كنعان الحقيقة وسابقتها كنعان المجاز الأميركية.

عتبة دراسة منير العكش كانت مقولة لجيمس شلزنغر وزير الدفاع الأميركي بين عامي 1973 و1975، قبيل غزو العراق عام 2003 وفيها "ثمة من قال إن الحرب جحيم، والسلام جنة، لكننا نعرف أن العكس هو الصحيح: الحرب هي الجنة، والسلام جحيم".

لكن الحرب في غزة كشفت بجلاء هذه العقلية التي قال عنها العكش إن شعب الله الأميركي الذي أطلق المراكب إلى الفضاء يتعامل مع فلسفة التاريخ بعقلية إنسان جاوة، وإن حداثته وآلة موته الجهنمية حين تذكر أورشليم وإسرائيل تعوم فوق محيط هائل من الخرافة.

يتحدث عن قادة دمويين مهووسين بفكرتين قياميتين: فكرة إسرائيل التي لن تنزل "أورشليم السماوية" دون تحقيقها، وفكرة الإمبراطورية الكونية قدر أميركا المتجلي الذي رسمه الله بيديه وأوكل تحقيقه للأمة الأميركية.




يد الله

ويذهب إلى أن فكرة أميركا المستعارة من فكرة إسرائيل التاريخية تؤكد على أن المصير الذي لقيه سكان أميركا الأصليون في "كنعان الإنكليزية الجديدة" ينتظر كثيرًا من أمم الأرض، ومن أولى به أكثر من كنعان اللحم الدم: العرب الفلسطينيين؟

وإذا يقول إن جميع الرؤساء الأميركيين آمنوا بأنهم يد الله التي ستبني أورشليم على أنقاض القدس، نجد في مختبر غزة ما يدفعنا إلى ما هو أبعد مما يبدو أنه بازار منحطّ لسياسيين، إلى بنية كاملة من الحداثة التي ترى أنك داعشي وإرهابي ومن خارج العصر، لأن مركزيتها الداروينية تملك الحق الحصري في ممارسة ما لا يحق لأحد ممارسته كونه في التصنيف الطبيعي وفي الأصل أقل شأنًا.

بدءًا بجورج واشنطن في خطبة الوداع عام 1796، كانت الإشارة إلى يد الله وأورشليم، وصولًا إلى رونالد ريغان الذي ينام ويصحو على الاعتقاد بأنه ينتمي إلى جيل سيشهد حرب مجدو القيامية، ويعتقد بأن العالم ينطلق بسرعة إلى هذه النهاية، إلى جورج بوش الابن الذي قاله إنه "موسى العصر"، وأن الله كلمه وأمرَه بإنقاذ شعبه الأميركي، كما أنقذ موسى شعب الله الإسرائيلي من فرعون، ثم بيل كلينتون وقد شبّه نفسه في خطابه المسكوني عام 1998 وقد كان في أوج فضائحه الشبقية بالملك سليمان وشبه الأميركيين بشعب الله المختار.

بين استدعاء نتنياهو المكابيين من الرقاع الجلدية القديمة لحربه الانتقامية الجديدة وبين عالم الفيزياء والرياضيات اسحاق نيوتن 500 سنة.

فيزياء عبرانية

إلى جانب نيوتن المشهور دائمًا عند أطفال المستقبل بقصة التفاحة والجاذبية الأرضية هناك شخص قيامي عجيب اسمه وليم وستون، أطلق ما سمّاها "نظرية جديد للأرض" برهن بها على التطابق بين العالم الذي خلقه العبرانيون وبين مبادئ نيوتن، داعيًا إلى تجاوز الصورة المرعبة لهذه النهاية المأساوية للعالم والتطلع بفرح إلى "مملكة الله" ونزول أورشليم السماوية.

يفيدنا العكش بأن الغريب هو في العالم نيوتن الذي سُرّ بنجابة صديقه ومريده ستون، وأعجب بتفسير الدراما الكونية على ضوء فيزيائه، فرشّحه خلفًا له على كرسي الرياضيات في كامبردج.

في ذلك الوقت كانت شهية الاستعماريين للقتل والنهب تتحول بالتدريج إلى شركات تخلط الميتافيزيقي بالأرضي، ليصبح نموذجها البكر الاستعمار الاستيطاني فيما سيمسي الولايات المتحدة.

حتى أن العكش لم يكن يوسعه سوى أن يوافق هنري كاريغن مدير تحرير Trinity Press International، بأن في الولايات المتحدة دينًا متميزًا منبتًا عن كل المذاهب المسيحية منذ القرن الثامن عشر والبروتستانتية تبتعد عن أشكالها المؤسساتي إلى أشكال جديدة ترضي النزعة الفردية، ثم تعيد صياغتها لتناسب مجتمعات لا تعبد إلا السوق، وأن الظاهرة الدينية في أميركا لا يمكن فهمها بمعزل عن "ثروة الأمم" (كتاب آدم سميث). فالمضارب الأكبر في الوول ستريت هو الذي يحتل العرش الأعلى في البانثيون الأميركي.

حِجاج القيامة

يقودنا هذا إلى خلاصة أخرى توردها الدراسة عن ستيفن أوليري مؤلف كتاب "حِجاج القيامة: نظرية الخطاب القيامي" عام 1994 والتي تفيد بأن الخطر لا يكمن في جماعات دينية فنتازية معزولة، بل في أن غالبية الأميركيين ومعهم كبار المسؤولين السياسيين لا يختلفون عن طائفة "بوابة السماء" التي انتحرت جماعيًا وما يسمى جماعات الصهيونية المسيحية إلا في درجة التوتر وطريقة التعبير عن هذا التوتر.

التاريخ حاصل جمع مؤامرات، وهذا يختلف عن تهمة التفكير التآمري بما فيها من عيوب. إلا أن غزة استطاعت بمساحتها الصغيرة الموهوبة استقطاب جيل عالمي شاب يحتج وهو يطرح أسئلة مزعجة، وإزعاجها يكمن في بساطتها.

إنهم يكتشفون أن دعشنة الآخر وتصويره على أنه كائن مشوه في الخلقة هو صناعة مختبرات وأروقة استعمارية، وأن محكمة القيم والأخلاق والعدل لا تقبل الظلم المزمن ونجاة الظالم إلى الأبد.

  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.