كتب نيتشه مرةً: "في زاوية قصيّة من الكون، كان هناك كوكب تمكنت الحيوانات الذكيّة التي تقطنه من اختراع المعرفة وقد كانت تلك أشدّ لحظات التاريخ الإنسانيّ غطرسةً وزيفًا". تختصر هذه العبارة الكثير مما يريد هذا المقال أن يفسره؛ فما دامت المعرفة اختراعًا فمن البديهي أن يكون تاريخها مكتوبًا من قبل الأقوى وخاضعًا للنزوع الذاتي تارة والأيديولوجي تارةً أخرى. لكن الشك في أسسها يأتي غالبًا عقب هزّات عنيفة، وبالنسبة للعالم الأوروبيّ فقد تمّ ذلك بوضوح عقب الحروب التي طاولت الركائز التي قام عليها العقل الغربي؛ الذي انقلب على التنوير وحلّ "العقل الذرائعي"، بدلًا من "العقل الكانطي" ثم "عقل الآلة". وتحول شكّ ديكارت المنهجيّ إلى عدميّة شوبنهور اللاّمنهجيّة.
وقد أتاحت هذه التحولات سحبَ رؤية ما بعد الحداثة من المعرفة إلى الأدب، وهي طريقة جديدة في التفكير وأسلوب جديد في رؤية العالم. لم تكن انقلابًا وحسب على الحداثة بل ومراجعة صارمة لتاريخ المعرفة والفنون. إنّ مفترق الطرق بين الحداثة وما بعد الحداثة، لا يخضع بنظر البعض للنديّة بل يعتبره البعض تمردًا ويرى آخرون فيه "نزوعًا للمغالاة قد يفضي إلى اللاّشيء"، وهذا يعكس انهيار الثقة بعالم الأفكار ما جعل كونديرا "يذهب إلى أن قارئ نهاية هذا القرن سيتعرّض لتشكيك مخيف على مستوى الأفكار والرؤى ويودع مرحلة طويلة آمنت بالأفكار وبقدرتها على تغيير العالم".
لقد تحول اللايقين لمحور ارتكاز لعبيّ في رؤية ما بعد الحداثة، فلا ثبات ولا خطيّة ولا نمطيّة ولا نمذجة، يمكن الركون إليها في قراءة النص. إننا أمام قراءة متحرّكة مستفزّة لكل ثبات ولكل اطمئنان كان وليدًا لخطابات معرفية وأدبية، سواء عبر الشك بالحقيقة أو اللغة والتاريخ.
لعلّ أول سمات السرد ما بعد الحداثي، انفتاح النص على المشهديّة السينمائيّة أو الصورة، والتوق لرؤية التابوهات تتحطم عبر شطحات الخيال ونزوعه الذاتي، ينتصر فيها النص للإيهام والخديعة الفنيّة واللّعب والتشتيت؛ انطلاقًا من فكرة نسبيّة الحقيقة التي تتشظى بين وجهات نظر متضاربة لا تكون الغلبة لأي منها. وانتفت فكرة النقاء وأصبح النص مزيجًا من إحالات واقتباسات وتناصّات من كتب تراثية وأعمال روائيّة وشخصّيات واقعيّة أو متخيّلة أو مستمدّة من نصوص أخرى.
ولم ينجُ الزمن من التحطيم والتقطيع، إذ يمكن للحظاته أن تتجاور وعبر الفوضى الزمانية. تم كسر الزمن الذي ينمو بشكل خطيّ. أما الحقيقة فهي لم تتشظ وحسب بل – وكالميت الذي يمثل بجثته- أدخل عليها الايهام عبر (التخيلات المشوشة، الخداع، الهدم والبناء) وهي تعكس الرغبة في التحطيم. والملفت أن نزعة ما بعد الحداثة تبدو كتسليم بالأمر الواقع، "فهي، وبرأي كثيرين، لا تبدي أي مقاومة تجاهه".
هنا يبرز السؤال عن الرواية العربية، وكيف وظّفت تقنيات ما بعد الحداثة لمراجعة ماضيها ومدّ جسور الشك مع تراثها وتاريخها؟ وهذا بدوره يطرح سؤالًا: هل يمكن أن يصبح اللايقين في الرواية العربية ميلًا مبالغًا فيه للتحطيم دون هدف آخر؟
يبدو أن الرواية العربية وظّفت تقنيات ما بعد الحداثة لمراجعة وتفكيك تراثها وتاريخها. وبدا ذلك واضحًا في خروجها عن مفهوم الرواية بمعناها المغلق كسرد حكائي إلى السرد المفتوح/ أو المنفتح على أجناس معرفية مجاورة، وعلى فنون أخرى من سينما ورسم وتشكيل؛ حيث تنحاز إلى المغيب والمهمش والقابع في الظل. وتتجه لما هو مركزي بالتساؤل والشك. وهذا انعكس في تقويض الفضاء الروائي المنطقي بتضييق الفجوة بين الواقعي والمتخيل، والميل إلى العجائبي. إذ تكون المعمار الروائي من قصاصات ونصوص أخرى وكأنها رواية عن روايات أخرى، وهي أشبه بالمونتاج يرغب الكاتب بأن يقول من خلالها شيئًا، وهي تختبر قدرة القارئ على فك الرموز التي تستحضرها في بنيانها بشكل هندسي. كما تغيّر مفهوم الحكاية بل لم تعد الأخيرة ضرورية، حدّ أن أمبرتو إيكو تساءل مرة: "إذا كانت هناك نصوص تمتلك حكايات ولا تمتلك حبكة، فهل من الممكن أن تكون هناك نصوص لها فقط حبكة بدون حكاية".
وتلعب السخريّة دورًا مهمًا في مقاومة سردية المركز بالكشف عن تناقضات الخطاب من داخله، فالتقويض يطاول الشخصية التي تتحول لإشارة أو علامة ويمتد للمؤلف في علاقته بالراوي والأخير في علاقته بالشخصية، فيتعمّد المؤلف هدم ما يبنيه الراوي مرة وتكذيبه مرة أخرى؛ ما يجعل من الصعب على القارئ أن يضع الحقائق في جهة والتخيّلات في جهة أخرى. فالأسبقية للفوضى على النظام والمتغير على الثابت؛ في أسلوب أقرب للعب، تستنفر فيه النصوص مكوناتها من شخصيات وزمن ومعرفة وشذرات وتأويلات، للدخول في مواجهة مستمرة ومفتوحة مع الحقيقة على تنوعها: الميتافيزيقية والوجوديّة والمعرفيّة والسلطويّة؛ لا يتوقف هذا العبث على الشكل بل يمتد للموضوع.
فالموضوعات التي تتناولها ما بعد الحداثة هي ذاتها موضوعات الحداثة. لكنها تقوم بقطيعة مع معناها المألوف أو السائد أو تغيير العدسة ونقلها من مكان لآخر متوارٍ. ويعتبر الهامش وكل ما هو مغيّب من القضايا الأساسيّة في السرد ما بعد الحداثي (قضايا الأقليّات والجماعات المهمشة، البدون، أو الزنوجة، قضايا المرأة، والفئات المحرومة من حقوقها)، كما يدخل في هذا الإطار المثليون وازدواجية الجنس، "إن الثنائية أو التقسيمة المعتادة بين الحداثة التي تتسم بالفكر الثنائي ذكر أنثى يقابلها في ما بعد الحداثة الخنثوية"؛ أي أنها تهتم بالأطياف المتعدّدة بعيدًا عن الثنائية والتقسيم المعتاد للفكر الحداثي.
إن الاختلافات بين الحداثة وما بعد الحداثة هي في الرؤية أو النظرة وموضوعات كالمثلي-العاهرة- المومس- والتي نوقشت في الرواية العربية الكلاسيكية لكنها كانت تلعب دور الضحية والمتمرد أو التائه، لكنها وفي سرد ما بعد الحداثة أصبحت علامة ومؤشرًا إلى نظام ثقافي وسياسي وفرصة لتفكيك خطاب المركز.
ولم تكن مسألة الهوية غائبة عن الحداثة، كمرادف للانتماء الفكري والثقافي. ومن الروايات التي تناولتها، رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للروائي السوداني الطيب صالح، حيث توضع الهوية متمثلة في بطله مصطفى سعيد إزاء الآخر الغربي. لكن رواية "الرجل الخراب" للروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن هي رواية ما بعد حداثية شكلًا، من حيث تعدّد الرواة والإيهام والزمن، ومضمونًا حيث نقلت هذا المفهوم إلى أفق جديد. تناولت الهوية الحدودية على التخوم أو (البين بين) أو الهوية المتشظية والقلقة والتي هي محل خطابات متعدّدة لتفكك في النهاية القيم الغربية كالاندماج والانفتاح، وتعكس وضعيّة الإنسان ليس بوصفه ذاتًا مستقلة تتمتع بالبطولة كما في الفهم التقليدي، لكن بوصفه أسيرًا لظروفه محرومًا من الإرادة والحرية وعاجزًا عن فهم مصيره.
كما تحوّل الاهتمام في الرواية الجديدة من الحالة النفسية والسيكولوجية للشخصية إلى تسليط الضوء على الشخصية التي تشير إلى نمط ثقافي أو اجتماعي؛ أي باعتبارها سطحًا أو علامة. ما يؤدي لتقويض فكرة البطولة التي ترى الإنسان صانعًا لقدره ويخلق البطل الشكاك العنيف الرافض لقيم المجتمع الذي يهتك اللغة ويدخل لها فوضى الواقع، ويحطم المعنى المألوف لكل قيمة وثقافة، وتزامن ذلك فنيًا مع وجود نص يتيح إشراك المتلقي عبر العلاقة بين الراوي والمؤلف، واستخدام الضمير الذاتي بحيث تكثر الاحالات للهامش ويصبح السرد خطاطة ذهنية ونعثر على أبطال ينتصرون للخرق والفرح والهجاء، كما في عمل كمال الرياحي "عشيقات النذل" وعمله الآخر "المشرط"، وفي "سلالم ترولار" لسمير قسيمي، أو "الجنون"، كما تمثل الأمر في أعمال أيمن الدبوسي "في أخبار الزازي" و"انتصاب اسود"، ولم يعد الهدف تغيير العالم بقدر الميل لخرق منظومة الأفكار التي تحيط بالبطل والتي تحتاج قارئًا قادرًا على استيعاب التخييل وسد الثغرات. وفي بعض الأعمال نعثر على حبكة بدون بطل، فلقد تلاشى دوره من النص.
ويعتبر الجسد ثيمة مهمة في السرد ما بعد الحداثي فتحريره بدأ مع ثورة الستينيات، فالجسد علامة ثقافية ورمز يمكن إحراقه للاحتجاج والغضب والكتابة عليه، أو التعرّي، للإشارة إلى فكرة التمرد والرفض. إن ما بعد الحداثة تنزع عن الجسد قداسته عبر إرجاعه إلى ماديته إذ يمكن بتفكيكه تفكيك الثقافة بحسب تأويل فوكو أو أن نكشف عن آليات تسليعه عند ميشيلا مارازانو، حتى تيري إيغلتون الذي رأى "أن الرجوع إلى الجسد قد نتج جزئيًا عن عداء البنيويين للوعي، فهو يمثل الطرد النهائي للأشباح من الآلة".
إن وعي ما بعد الحداثة وعي تقويضي، ينزع عن كل قيمة الهالة التي تحيط بها، وينفر من كل سردية كبيرة، ويحفر في جذور كل حكاية ليقشر عنها زيفها، وهو قراءة للماضي وفق شروط الحاضر. وهذا ما سنراه في أعمال كثيرة تناولت التراث وفق رؤية تفكيكية مثل أعمال عبد الفتاح كيليطو، أو انحازت للشفاهي واليومي للكشف عن تمركز السلطة مثل "سيدات القمر" لجوخة الحارثي، وغيرها من الأمثلة الكثيرة التي تقدّمها الرواية العربية، ليعكس السرد الجديد افتراقه عن السرد التقليدي ليس في البناء الفني فقط بل في وجهة النظر التي لا ينفصل فيها الشكل عن مضمونه.
*كاتبة سورية.
إحالات:
- إيهاب، حسن – تحولات الخطاب النقدي لما بعد الحداثة، ت: السيد إمام، العراق، دار شهريار.
- خلدون الشمعة، مقال، أفول عصر التنوير: صعود ما بعد الحداثة في الأدب العربي، جريدة العرب اللندنية، 2016/2/28، العدد: 10199.
- بيتر كاري، "الذوات العجيبة"، من كتاب مالكوم برادبوري ودي جيه بالمر "الأدب الأميركي المعاصر" (1987) مقدمة قصيرة.
-ميشيلا، مارازانو. فلسفة الجسد، ت: نبيل أبو صعب. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
- تيري إيغلتون- أوهام ما بعد الحداثة، ترجمة: منى عبد السلام.