}

هل نحن واعون لتناقضاتنا؟

فدوى العبود فدوى العبود 31 أغسطس 2024
آراء هل نحن واعون لتناقضاتنا؟
نؤمنُ بقناعاتٍ متناقضةٍ إلى أن يأتيَ النكوصُ ليكشفَ التخبطَ(Getty)
في القرنِ الخامسِ قبلَ الميلادِ، لم يكتفِ سقراطُ بالسيرِ واستفزازِ الذين يحاورُهم؛ بل تباهى بأنَّه كوالدتِه التي تعملُ قابلةً، فهي تولِّدُ الأرواحَ بينما يولِّدُ العقولَ. ومن خلالِ التهكُّمِ والسخريةِ كان يوقعُ مُحاوِرَه في أشدِّ أشكالِ التخبُّطِ؛ ليكشفَ الأخيرُ بنفسِه تناقضَ أحكامِه وقصورَ وعيِه.
ولم يكن أحدٌ ينجو من فخاخِه، لا الذين يسلِّمونَ بما يقالُ ولا من يعارضونَها؛ ما جعلَ سمَّ الشوكرانِ الذي تجرَّعَه وعبارةَ "اعرف نفسَك بنفسِك" ليس أهمَّ حدثينِ في التاريخِ فحسب، بل بمثابة درس قاس لمن تسوِّلُ له نفسُه المسَّ بتناقضاتِ الآخرينَ. وفي كلِّ حالٍ فإنَّ معرفةَ الذاتِ أضحت موضعَ اهتمامِ الفلسفةِ والأدبِ بحيثُ يحومانِ حولَها كالنحلِ.
أستعيدُ هذا، حين أتأملُ في النقاشاتِ التي تُثارُ بين المثقفينَ، إزاءَ أيِّ حدثٍ إشكاليٍّ، فما إن تتدحرجَ واقعةٌ على أرضيةِ الملعبِ، حتى تتقاذفَها الآراءُ. يصطفُّ الفرقاءُ فيتآلفُ المتشابهونَ ويتنابذُ المختلفونَ وتتورطُ اللغةُ. إلى أن تبرزَ واقعةٌ جديدةٌ فينقلبَ الإناءُ على من يحملُه. وكأنَّ الحياةَ تختبرُ هشاشةَ الحكمِ الإنسانيِّ عبرَ أشدِّ طرقِها مكرًا.
وكي لا يبقى الكلامُ عائمًا، أستعيدُ البلبلةَ التي رافقت أولمبيادَ باريس 2024 ومواقفَ المثقفينَ والكتَّابِ، بين من هاجموا هذا الكيتش الانتقاميَّ ومن انتقدوا المنتقدينَ انطلاقًا من حريةِ الرأيِ، وضرورةِ إنزالِ المقدَّسِ وقصِّ جناحيه؛ لكنَّ التاريخَ وهو -أشجعُ الرواةِ- يُظهرُ أنَّ أيَّ جدالٍ كفيلٌ لا بإنزالِ المقدسِ/ المتنازعِ حولَه من عليائِه بل بتحويلِه إلى مهزلةٍ. إذ انتهى الصراعُ على القداسةِ - من عدمِها- إلى تبادلِ صورٍ مقرَّبةٍ لأجسادِ اللاعبينَ ليبتَّ الجمهورُ في هويتِهم الجنسيةِ.
وفي كلِّ حالٍ، فالمواقفُ التي تفرزُها النزاعاتُ تبعثُ على العجبِ، والأخيرُ إذا جازَ لنا استخدامُ تعبيرِ إيهاب حسن "يُربكُ العقلَ ويوسِّعُ العينينِ"، فمن دافعَ بضراوةٍ عن فكرةٍ قد يرفضُها تاليًا لو تغيَّرت بعضُ المعطياتِ. ضعْ مثلًا رمزًا يخصُّه- وليكن جدَّه- سيعتبرُه انتهاكًا. فأحكامُنا هادئةٌ طالما طوطمُنا لم يُمسَّ، إنَّنا منفتحونَ حين يتعلقُ الأمرُ بالقضايا البعيدةِ، ولكن تنقلبُ الأمورُ حين تهبُّ الريحُ حولَ كوخِ قناعاتِنا الهشِّ.
لا زلتُ أتذكرُ ما قرأتُه في المرحلةِ الثانويةِ، بخصوصِ الآلياتِ الدفاعيةِ التي يلوذُ بها الوعيُ وأتذكرُ منها الإسقاطَ، وفي مرحلةٍ متقدمةٍ تعرفتُ إلى مثالٍ عنها في كتابِ "الوجودِ والعدمِ" للفيلسوفِ الفرنسيِّ جان بول سارتر (*)، الذي أرادَ شرحَ آليةِ الإسقاطِ عبرَ حكايةِ الثعلبِ والعنبِ، والتي تلتقي مع مثلٍ كانت تردِّدُه جدَّتي حين تصفُ سلوكَ أحدِهم: "اللي ما يطولُ العنبَ يقولُ عنه حامضٌ".
فالوعيُ الذي يرغبُ في نكرانِ إخفاقِه، يلقي بالصفاتِ السلبيةِ على المرغوبِ به. وإذا كان هذا مقبولًا ومفهومًا في سياقِ حمايةِ الإنسانِ لذاتِه من التمزقِ والهزيمةِ أمامَ خيباتِ العالمِ الخارجيِّ المعنويةِ والماديةِ؛ فإنَّ ثمةَ أنواعًا من خداعِ الذاتِ وهذا النوعُ ليس الذي يعرِّفُه قاموسُ لاروس الفرنسيُّ بأنَّه "توجيهُ سلوكِ شخصٍ معينٍ، أو مجموعةٍ من الأشخاصِ نحو الاتجاهِ الذي نرغبُ فيه دون أن يشعروا بذلك"؛ إنَّه خداعٌ قادمٌ من الداخلِ وحَقيقةً: أسوأُ ما قد يستهدفُ المرءُ يَومًا هو أن يتعرضَ له.




يطلقُ بعضُهم عليه الازدواجيةَ، وبالنسبةِ لعلمِ النفسِ التحليليِّ فهو مُبرَّرٌ وطبيعيٌّ؛ على اعتبارِ أنَّ الإنسانَ أسيرٌ بيدِ القوى اللاشعوريةِ. وبهذا فالتناقضُ قدرُ الوجدانِ البشريِّ ولا فكاكَ منه.
في المقابلِ فإنَّ لفظةَ اللاشعورِ بالنسبةِ لـسارتر مجردُ تمويهٍ وزيفٍ. إذ ميَّزَ بين الكذبِ الذي هو خداعٌ للآخرينَ، وبين سوءِ النيةِ وهي كذبٌ على الذاتِ.
في هذه الحالِ فالإنسانُ يمارسُ نوعًا من التضليلِ أو التشويشِ من خلالِ تبريرِ تناقضاتِه؛ لكنَّ الأحداثَ تكشفُ عن أنَّ مواقفَه في صميمِها عاطفيةٌ بل ومبنيةٌ على تحيُّزاتٍ. فأنا في (الكذبِ) أعرفُ الحقيقةَ وأخفيها عن الغيرِ. لكن في سوءِ النيةِ، فإنَّ الأمرَ لا يتعلقُ بإخفاءِ الحقيقةِ بل بتبني خلافِها. ويصفُ "بيتر. ج. دمس" ذلك بقولِه إنَّ "سوءَ الطويةِ من صياغةِ مفاهيمَ متناقضةٍ، من أولئكَ الذين يربطونَ في أنفسِهم بين الفكرةِ ونقيضِها". إذ نؤمنُ بقناعاتٍ متناقضةٍ في الوقتِ ذاتِه إلى أن يأتيَ النكوصُ ليكشفَ هذا التخبطَ. فننقلبُ من اتجاهٍ لآخرَ؛ لا لنضجٍ في الفكرِ ولا تماشيًا مع قانونِ التغيُّرِ بل لسهولةِ إطلاقِ الأحكامِ التي لا تخضعُ لضرورةٍ أخلاقيةٍ ولا مبدئيةٍ بل مصلحيةٍ أو آنيةٍ.
إنَّ هذا يعقِّدُ من وضعيتِنا كقضاةٍ على رأسِ الهرمِ الكونيِّ إلى أن يأتيَ من يثبتُ العكسَ، ويجعلُ من العدالةِ فكرةً مثاليةً، ومن المعرفةِ بؤرةً صالحةً لتكاثرِ بكتيريا الزيفِ. وربما يكونُ لجدَّاتِنا البسيطاتِ أسبقيةٌ أخلاقيةٌ في هذا الخصوصِ؛ لأنهنَّ كنَّ واضحاتٍ في تحيُّزاتِهنَّ (بوعيٍ أو بدونِه). وكنَّ يقلبنَ شفاهَهنَّ دلالةً على الرفضِ.
في كتابِها "اختباراتُ التعاطفِ"، تقولُ الروائيةُ والكاتبةُ الأميركيةُ ليزلي جاميسون "إنَّ التعاطفَ مثلُ التخيُّلِ، كلاهما يتطلبُ جهلَك المسبقَ بموضوعِه. حيثُ لا قيمةَ لمخيلةٍ متحيزةٍ أو تعاطفٍ مشروطٍ". فتقييمُنا للأمورِ نابعٌ من جهلِنا وتحيُّزاتِنا والحكمُ الموضوعيُّ يتضمنُ في داخلِه الشكَّ في وجودِه. لأنَّه أساسًا ناجمٌ عن وعيِ المتناقضاتِ في أعماقِنا، وأن ينظِّرَ أحدُهم عن التسامحِ والتواصلِ ثم يؤيدُ المعتديَ يطرحُ سؤالًا: كيف سيتصرفُ إزاءَ عدوٍّ يهدمُ بيتَه، أو يقتلُ عائلتَه؟
يعتقدُ البشرُ أنَّ تطورَهم الثقافيَّ والعقليَّ وتجاوزَهم الواعيَ للقبليةِ العاطفيةِ وتاريخَهم الذي يقومُ على جماجمِ الأسلافِ يؤهلُهم ليحددوا اتجاهَ البوصلةِ. لكنَّ الواقعَ كما يظهرُ يقومُ على الضدِّ من ذلك. سنجد من يزعم أنَّه تجاوز قضية الذكورة وأنَّه ناشط فاعل في حقوق المرأة، -نتحدَّث هنا على المستوى الفردي جدًّا- ينادي أحدهم: أنَّ الجميع أخوة كما يحدث عادة في المسائل الوطنية أو العرقية أو الإثنية لكن هل حقًّا نحن كذلك! هل نتمكَّن من تجاوز العقلية التي تجعلنا مقيَّدين إلى تناقضاتنا. وهل يكفي وعيها لكي نمحوها من سجلِّنا الإنساني الحافل بالمفارقات المخزية؟ ربَّما يكون نفي شيء ما توكيدًا له. والأمر هنا يتعلَّق بمقاومة من طراز خاص. ليست في تحدِّيات خشبية للسلطة وتمثُّلاتها الثقافية والسياسية بل لأعمق نقطة في داخلنا، حيث تقبع تحيُّزاتنا جنبًا إلى جنب مع جُبننا. في نقاش خضناه منذ فترة في مقرِّ المجلس العربي للعلوم الاجتماعية في بيروت دار الحوار حول توجُّهين في البحث العلمي أحدهما يشترط على الباحث أن يضمِّن تحيُّزاته في مقدِّمة بحثه، ويخبر قارئه أنَّه منحاز لهذا الأمر دون إرادة منه. بينما يرى اتِّجاه آخر استحالة ذلك عمليًّا وإنسانيًّا. لأنَّه يتطلَّب درجة عالية من الوعي بالذات حتى يستطيع أحدنا أن يقول أنا متحيِّز لكذا وسأجرِّب أن أصدم قناعاتي لأرى ما ينتج. وهذا لا يحتاج للتعاطف فحسب بل لأعلى درجات الذكاء العاطفي حيث "الجمع بين ثقافتي العقل والقلب" الثقة أساس الخِداع، وما دمنا خلف الشاشات فإنَّنا ككائنات مشدودة إلى كرسي يغرينا إطلاق الأحكام. والقول: إنَّ أفضل من يعرف الحريَّة هو الذي قيَّدته السلاسل لا الكراسي؛ لا يعتبر مثاليًّا في حالتنا. فالوعي بالذات أساسه الحريَّة التي تعني أكثر من قول لا. أحيانًا نكون أحرارًا حين نقول نعم. لا شك، أنَّ هناك شخصيات قليلة ونادرة استطاعت فعل ذلك. وهي لم تسعَ يومًا لتأكيد نقائها ولا لممارسة ألاعيب اللغة. لقد كانوا منارات؛ لكونهم أدركوا أنَّ الشجاعة الحقيقيَّة ليست نفيًا على الدوام. ربَّما يكون هذا بداية لتغيير طريقة تواصلنا ولقبول أن يكون أحدنا يساريًّا في الصباح ويمينيًّا في المساء


*
كاتبة سورية.

(*) جان بول سارتر، الوجود والعدم، ترجمة عبد الرحمن بدوي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.