}

قصص جبرا إبراهيم جبرا "عرق": الحياة في حالاتها القصوى

راسم المدهون 18 مارس 2024
استعادات قصص جبرا إبراهيم جبرا "عرق": الحياة في حالاتها القصوى
جبرا إبراهيم جبرا ومجموعته القصصية "عرق"

تاريخ صدور مجموعة جبرا إبراهيم جبرا "عرق" عام 1956 يعني زمنيًا أنها أتت في ذروة النشاط الإبداعي القصصي لكاتبين هما في قمة القصة الفلسطينية، سميرة عزام، وغسان كنفاني. ذلك يشير إلى التجاور بين الكتاب الثلاثة، ولكنه يشير أيضًا إلى المغايرة التي مثلها جبرا، خصوصًا في القصة القصيرة، والتي جاءت من زوايا مختلفة في الموضوعات والأمكنة واللغة، لكن في الأهم والأجدر بالملاحظة في المخيلة بالذات، المخيلة التي منحت جبرا عوالم واقعية لها مذاقها الخاص، بغرائبيته، وتفرده، وبانفتاحه على موضوعات وحكايا وأحداث لا نقرأ سطورها إلا عنده.
في "عرق"، ينحاز جبرا إبراهيم جبرا لقصص تنهل من حدقة المخيلة التي تستعيد صور الواقع وأحداثه، أو لنقل تستعيد تلك الصور التي تراها المخيلة في كيفيات أخرى، خصوصًا في علاقاتها بالأشياء اليومية والوقائع الصغيرة، وحتى الأفكار، بما هي رؤى، ووجهات نظر، وحتى اجتهادات. هي رؤية أخرى لأدب القصة القصيرة، وحتى لكيفيات تمظهرها وتجنيسها على نحو "ينفلت" من "انضباطية" السرد لشروط النقد المعروفة وتوغله خارج تلك الشروط، مقترحًا بدلًا من ذلك سلوكًا إبداعيًا مغايرًا يقوم على ترك القصص ذاتها تقترح لنفسها (وبالطبع لشكلها ومضمونها معًا) ما تراه ممكنًا من أساليب السرد القصصي، وما يقترحه على مبدعه من حلول فنية.
هي تجربة لا يكفي أن نشير إلى اختلافها (وهي عادة جبرا على كل حال) فالأهم هنا الإشارة إلى العوالم بالغة الخصوصية التي نهلت منها قصص جبرا، والتي رغم صلاتها العميقة بالواقع اليومي للناس حملت رؤى من زوايا نظر غير مألوفة في القصة العربية عمومًا: جبرا يقدم أبطاله القصصيين بما هم أيضًا حالات، وهو خلال ذلك ينتقي جزئيات وتفاصيل فيها في كثير من الأحيان انتماؤها للغرابة، وما يثير الدهشة ويدفع لإثارة الأسئلة العميقة التي تتصل بأولئك الأبطال القصصيين، وتشكل ملامحهم وردود أفعالهم، فالكاتب بموهبته ومخيلته يبني عوالمه الفنية على نحو يحمل كثيرًا من الرغبة في اكتشاف ما وراء الأحداث العابرة والتصرفات العفوية، أو شبه العفوية، متكئًا في الوقت ذاته على تصعيد ميزة التشويق والإثارة إلى حدود قصوى تشد القارئ لا للقراءة وحسب، ولكن أيضًا للتفاعل مع أجواء جبرا التي تنجح في خلق مناخ قصصي غني، غزير التفاصيل ويستحق المتابعة والتأمل.





لافت في قصص جبرا هذه ولع الكاتب، بل وولع الكتابة بالحوار: أبطال جبرا وشخصيات قصصه يعلنون في كل سطر من سطور قصصه انتماءهم للثقافة والمثقفين، وهو ككاتب يطلقهم في دروب القصص بقلقهم وجدالاتهم العقيمة مرة وحواراتهم العميقة مرات كثيرة حتى يغيب وصف العالم من حولهم، أو يكاد، ويأخذ الحوار دور البطولة ونقطة الضوء الأهم. أعتقد أن قصص جبرا إبراهيم جبرا في مجموعته "عرق" ترسم بانوراما فصول متعددة من حياة وطبيعة المثقف العربي الذي يأخذ مكانه في قلب لوحاته القصصية وتحيط به الأحداث والوقائع، باعتباره المركز، واللاعب الأساس. سأضيف إلى ذلك رمزية "العرق" بوجهيها، عرق الكؤوس البيضاء التي تأخذهم نحو الإسترسال والإفاضة، ولكن أيضًا عرق الأجساد الذي يسيل من الجبين والصدغين، بل من كل أنحاء الجسم تعبيرًا عن الصيف الخانق والمترع بأجواء الحانات وبيوت المتعة. مهم في قصص جبرا هذا التصوير البارع للأماكن، وما تحمله من مفردات العيش القاسي، وما يتركه من تأثيرات كبرى تكاد تتحكم في رسم تكوين المثقف العربي وهمومه، وبالأخص اهتماماته. جبرا يذهب نحو تلك الاهتمامات، وبالذات الشخصية ـ الفردية التي تكاد تختصر حياة أولئك الأبطال، بل التي تمنح صورهم وتصرفاتهم حيوية السرد وامتلاكه جاذبية آسرة تحتفل بما في الحياة من متعة لا يقلل منها أنها تقع ـ غالبًا ـ في الزمان والمكان الخطأ.
في "عرق"، أيضًا، قصص أقرب إلى الحكايات الطويلة. وأعتقد أن الأساس في هذه البنائية الفنية ينطلق من رغبة الكاتب في مفارقة القصة ـ اللقطة، أو تلك القصة التي تنبني على مشهد واحد، ويختار بدلًا منها القصة "الحكاية" التي تقارب الرواية، ولو من بعيد، فتستعير من الرواية زمنها أولًا، ولكن أيضًا وأساسًا امتلاكها لتفاصيل الحدث وسيرورته على مدارات أكبر، وفوق ذلك اتساعها لتصوير المكان وعلاقته بأبطاله، وكذلك حضور الحياة في سياقات تمنح القصة نسيجًا متصلًا فيه كثير من التفاصيل والجزئيات التي لا تتوفر في القصة ـ اللقطة بمشهدها الوحيد وبتكثيفها البالغ. أبطال القصص في "عرق" هم الرجال المأزومون في حالات مواجهاتهم اليومية مع واقعهم المحيط، وما يحمله المثقف من تكوينات القوة والضعف في زمن عربي يثقل كاهل بشره، ويضع المثقفين بالذات أمام مواجهات شبه دائمة مع مفردات الإحباط وعوامل الضغط النفسي والمعيشي التي تواجههم.
في مركز هام وحيوي يضع جبرا النساء في قصص هذه المجموعة (كما في أدبه عمومًا)، ويلاحظ قارئ قصص "عرق" أن حضور النساء بهذا التكثيف يحمل كل مرة دلالات كبرى حول مركزية وجودهن، حتى وإن جاء حضورهن متواريًا، وعلى ألسنة الأبطال الرجال وحواراتهم. هن نساء من لحم ودم، ويمتلكن سطوتهن على أبطال القصص، بل على القصص ذاتها، فنحن أمام فن قصصي مترع بالحياة التي تجسدها نساء يصبحن محور السهرات، بل ونقطة تلاقي الصراعات، وما تعكسه من رغبات، ومن نوازع التملك، وحتى ادعاءات التفرد والقوة من جانب رجال مأزومين يبحثون عن خلاص أرواحهم الفردية في جحيم النساء وعالمهن، وما فيه من مكائد صغيرة تعيد بصور وبأشكال متنوعة تقديم مفاهيم مختلفة، وحتى متناقضة، للفضيلة والرذيلة، وللحب والكراهية، على حد سواء، وجبرا بذلك كله يضعنا كل مرة أمام صور الحياة الحقيقية الواقعية، التي تأتي مستترة ومتوارية عادة، هن نساء من لحم ودم، ولأنهن كذلك تبدو الرغبة في هذه القصص معادلًا موضوعيًا نابضًا، ويحمل كثيرًا من خطوط العذاب والسعادة، التعب والمتعة، والأهم أنه يحمل ولع الكاتب المبدع بأنسنة أبطال قصصه وتقديمهم كبشر حقيقيين لم تخترعهم مخيلة كاتب، وإن ذهبت مخيلة الكاتب بعيدًا في استقصاء حالاتهم وحالاتهن وهم في حمأة الحياة ـ الصراع، ولهيب أتونها الذي لا يرحم، حيث تبدو الهزائم الشخصية والعامة قابلة للوقوع، بل وللتفسير والفهم في حياة عربية فيها كثير من القسوة والضياع.
هن "نساء" جبرا الكاتب بفرادتهن وقوة حضورهن هنا في "عرق"، تمامًا كما في "السفينة"، و"البحث عن وليد مسعود"، يحملن في الحياة والأدب صورة بوجهين واقعي وفني، وينتمين إلى الحياة كما للفن، سواء بسواء.
نقول هذا وفي البال ما حققه الراحل جبرا من إبداعات أدبية في مجالات وأجناس متنوعة، من القصة، إلى الرواية والشعر، والفن التشكيلي، والنقد، جعلته في مكانة عالية في عالم الأدب العربي الحديث، خصوصًا في دوره الحداثي الريادي الذي واكب خلاله آداب العالم، وامتلك من خلالها رؤاه الخاصة، هو من خاض معركة الحداثة باقتدار طيلة عقود حياته الأخيرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.