}

زادي سميث: نُعيد كتابة قصّتنا باستمرار لتُصبح ذات مغزى

مارنيه فيربلانك 13 ديسمبر 2019
ترجمات زادي سميث: نُعيد كتابة قصّتنا باستمرار لتُصبح ذات مغزى
زادي سميث تتحدث في مهرجان نيويوركر في نيويورك (6/10/2018/Getty)
كان من المفترض أن أحاورها حول مجموعتها القصصيّة الأولى "الاتحاد الكبير Grand Union" (2019)، التي صدرت ترجمتها الهولندية مؤخّراً تحت عنوان "العهد" عن منشورات "بروميثيوس" في أمستردام، إلا أن زادي سميث (43 عاماً) سرعان ما منعتني من ذلك. قالت إنها تفضّل التّحدّث عن العوالم التي تكمن وراء قصصها هذه، والتي تزداد تطرّفاً يوماً بعد الآخر: "كلّ شيء اليوم أصبح مجرّد بضائع؛ النّاس والأشياء".
"العهد" هو عنوان أوّل مجموعة قصصيّة تصدرها زادي سميث (1975)، الكاتبة اللنّدنية التي أصبحت منذ ما يقرب من 20 عاماً نجمة في عالم الأدب البريطاني والعالمي، بعد ظهور روايتها الأولى "أسنان بيضاء" (2000). تضمّ المجموعة العديد من القصص، منها واحدة تتناول ثلاث شخصيات أميركيّة شهيرة تتمتّع بغرور استثنائي، يقرّرون الفرار من نيويورك بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، لأنّهم يتشكّكون في أنّ الإرهابيين لن يكتفوا بضرب العاصمة والمؤسسات الحكومية فقط، ولكن أيضاً المشاهير والنّجوم. فيما تدور قصّة أخرى حول ضابط شرطة، ومدمن سابق على المخدّرات، يحلم بمنع الاتجار في المخدّرات. ثمّ القصة التي تحمل المجموعة عنوانها "العهد"، وهي قصّة وصفية مليئة بالإشارات إلى شكسبير، ولكنّنا نتوه فيها فلا نعرف لها رأساً من قدم، كعادة زادي سميث، التي تثبت موهبتها السّردية في هذه المجموعة مجدّداً.
"تميل معظم قصص المجموعة إلى تكوين واضح ومتكامل من حيث المكان أو الزمان، وإن كانت هناك بعض الشّخصيّات التي تظهر في قصص مختلفة"، تشرح زادي سميث، وتضيف: "هذه في النّهاية مجرّد مجموعة من القصص، لا أكثر أو أقل، والاختلاف بينها ربّما منبعه أنّي أشعر بالفضول تجاه كلّ شيء. ومن ثمّ فكلّ قصة في المجموعة هي بداية جديدة".
عليّ هنا أن أعترف أنّنا لم نكن مرتاحين تماماً. لقد قابلت زادي سميث مرّتين من قبل، وكان كل من اللقائين كارثيّاً أكثر من الآخر، هي لا يهمّها في شيء أن تتحدّث عن كتبها. أوضحتْ ذلك بلغة جسدها، وأنّه: "من الأفضل أن نلتقي في ظروف أفضل"!
عندما قابلتها للمرّة الثّالثة، أخيراً، في أحد الفنادق اللندنيّة، فوجئت بزادي سميث متحمّسة، ذكيّة ومتوقّدة الذّهن. "لقد انتهى زمن عدم الالتزام الأدبيّ". قرأتُ الجملة في مقال لسميث أثناء إعدادي لهذا الحوار، "لم يعد بإمكان الكُتَّاب اليوم أن يحبسوا أنفسهم في شرانقهم الأدبيّة"، أضافت بقوّة مؤكّدة فكرتها عن الالتزام الأدبيّ.
عندما أبديت لها ملاحظتي عن أنّه ليس من المصادفة أن يكون عنوان مجموعتها القصصيّة الأولى "الاتحاد الكبير"، وأنّ هناك بالفعل وحدة في تنوّع القصص. تألّقت عيناها وقالت: بالضّبط، أعتقد أنّ الأفكار التي طرحتها توحّد القصص على نحو ما. في القصّة الأولى "الديالكتيك"، أتحدّث عن امرأة تعرف أنّه لا ينبغي السّماح للنّاس بتناول اللحوم بعد الآن. كانت تريد في الحقيقة التّوقّف عن أكل اللحوم، لكنّها سرعان ما تكتشف أنّ الأمر ليس سهلاً، كما كانت تظنّ. نحن نعتقد أنّنا قادرون على التّوليف بين الأشياء والأفكار، لدينا هنا فكرة ما، وهناك فكرة أخرى، ثمّ نحاول التّوليف بينهما، لنكتشف أن الأمور لا تسير على هذا النّحو. وإذا اعتقدنا ذلك، فإننا نخدع أنفسنا، نحن في النّهاية كائنات تملك أفكاراً متضاربة ومختلفة تتسبّب في استيائنا وخوفنا، ولكن هذه هي الحياة. من الخطأ إجبار النّاس على تحديد هويّة معيّنة لأنفسهم، لأنه سيسهل اختزالهم من قبل الآخرين إلى راية، أو أمّة.

 

الهويّات المتصارعة
(*) في أحد أعداد "نيويورك ريفيو أوف بوكس" الأخيرة، ثمّة مقالة لك عن الحرّية، عن حرّية الكاتب خاصّة، وكيف يتمّ تهديد هذه الحرّية اليوم بالحدّ من "سياسات الهويّة"، و"خطط التّصحيح السّياسي"، و"الاستيلاء الأوروبي على ثقافات الحضارات الأخرى". كانت وجهة نظرك هي أنّ الكاتب يجب ألّا يلتزم بالقواعد، بل يجب أن يكون قادراً على كتابة ما يريد. كيف ترين الحرّية الممنوحة للكُتّاب اليوم؟
لن تسمعني أبداً استخدم هذه المصطلحات بهذا الشّكل المحدّد، لأنّها تأتي غالباً من قبل اليمين

المتطرّف. المسألة الرّئيسيّة في هذا النّقاش هي ألا نعضّ الخصوم لمجرّد أنّ لديهم آراء تختلف عمّا نملكه. "التّصحيح السّياسي" ليس مصطلحاً مصكوكاً من عندي، وكذلك "الاستيلاء على ثقافات الحضارات الأخرى". أنا غير مهتمّة بمثل هذه المفاهيم المستعملة. لذلك تجدني أيضاً لا أهتم بالانتقادات الدّائمة من أحزاب اليمين لـ"سياسات الهويّة" لدى الآخرين، لأنّها ليست أكثر من طريقة لإخبار بعض الأشخاص بأن ينتبهوا لرؤوسهم. ما يهمّني هو حرّيتي، وأن أكون قادرة على كتابة ما أريد. هذا ليس معناه أنه لا يُسمح للنّاس بالدّفاع عن هويّاتهم، أو أنّه لا يُسمح لي بأنّ يكون لديّ هويّة مختلفة، في مجتمع قد لا يتعامل معها بالشكل المفترض أن يكون. فألّا تحترم الآخر، وألّا تمنحه المكانة التي يستحقّ، هنا يشعر المرء بعدم قدرته على التّعامل مع هويّته هذه، بل وربّما يجدها مسيئة. أعتقد أنه آن الأوان لتوحيد الأفكار تجاه مسألة الهويّات المتصارعة هذه.

 

(*) أو كما يحدث في قصّتك "التّعليم العاطفي"، حيث تكون الأفكار في بعض الأحيان صحيحة تماماً، لكن لا وجود لطاقة في داخلك تعينك على فعل شيء.
صحيح. بالنّسبة لي، فإنّ هذه القصّة تدور حول كذبة نقنع بها أنفسنا، وهي أنّنا الشّخص ذاته منذ الولادة، وحتى الممات. هنا بالطّبع نحذف من بنياننا القطع التي لا تتناسب مع هذا التوهّم. لأنّها تصبح جزءاً مختلفاً عن جوهرنا. نحن في الحقيقة نُعيد كتابة قصّتنا باستمرار لُتصبح ذات مغزى، ولكي يمكننا إعادة كتابة قصّتنا هذه فيجب أن يكون هناك هذا التّفاعل بين الشّخصي فينا وبين القراء. السّبب في أنّي لا أصرخ هنا الآن وأنا أطوف عارية هو أن هناك أشخاصاً آخرين حاضرين، هذا الجنون الحرّ هو ما أحتفظ به لمساحتي الشّخصيّة من الخصوصيّة الفرديّة.
ما أجده مشكلة كبيرة اليوم هو أنّ هذه الخصوصية الفرديّة أصبحت تتضاءل بشكل متزايد. حيث تهيمن وسائل التّواصل الاجتماعي على المساحة الشّخصيّة للنّاس. لم تعد الخصوصيّة

موجودة بالنّسبة للعديد من الشّباب اليوم. لأنّهم يعيشون مرئيّين ليلاً ونهاراً. يواجه المراهق اليوم الآخرين، كمجموعات، وككتل، لأوّل مرّة، ويكون عليه أن يحدّد موقفه من هذه المجموعات والكيانات، وإلى أيّ مدى سيسمح لهؤلاء الآخرين بالدّخول إلى مساحته الخاصّة؟ هذه الفترة من المراهقة كانت دائماً صعبة، وهذا هو السّبب في أنّها المرحلة التي تُشكّل منّا ما سنكون عليه. في هذه السن نتشكّك في كلّ شيء، ونكون غير آمنين. في الماضي، وقبل زمن الإنترنت، كنّا نكبر في دوائر صغيرة، ولم نكن نتلقّى كلّ هذا الاستهجان في تعليقات الآخرين حول أفعالنا. باختصار، كبرنا من دون أن يكون هناك من يراقبنا. اليوم الأمر مختلف، فبوصفك شاباً في السّوق، فأنت المُشْترِي، وأنتَ البضاعة، فيما أنت لا تدرك شيئاً، لأنّ هذه السّوق غير مرئيّة.

(*) يتحدّث فيلسوف الكمبيوتر ورائد الواقع الافتراضي، يارون لانير، أيضاً عن هذه السّوق، في مقطع فيديو خاص به على يوتيوب حول فكرة "لماذا يجب أن يُدفع لك مقابل استخدامهم لبياناتك". يقول فيه: "لقد أصبحنا جميعاً تجّاراً في سوق تكنولوجي رأسمالي كبير، يكسب الآخرون كثيراً من المال منّا، فهم يربحون من عائلة أميركيّة عاديّة ما يصل إلى 20 ألف دولاراً شهريّاً في المتوسط. هل يتعيّن علينا المطالبة بهذه الأموال بالطّريقة التي يقترحها لانير، والتي أسماها "استعادة السّيطرة"؟
أفهم جيّداً إلى ماذا يهدف لانير في دعوته هذه، لكنّي لا أتّفق معه كثيراً في طروحاته. حجّته هي أنّنا نُستَغلُّ من قبل شركات السّوشيال ميديا، وعلينا محاربتها بالسّلاح الذي تعرفه جيّداً، وهو المال، وأن نستوعب أنّ لدينا رأس مال خاصّ بنا، هذه هي دعوته. علينا أن نحرص على الحصول على شيء من شركات الإنترنت في كلّ مرّة ننشر فيها صورة، أو منشوراً، على هذه المواقع، وألّا تذهب هذه الأموال لجيوب آخرين، بينما أتساءل عمّا إذا كان ينبغي علينا أن نقلّل من عدد الرّأسماليّين الذين استفحلوا بيننا اليوم، وعمّا إذا كنّا نريد حقّاً أن نعيش في عالم يرى كلّ فرد نفسه فيه كعلامة تجاريّة؟


(*) ولكن ألا تملك حجّته قوّة في ما نشهده يحدث اليوم؟
بالطّبع. نحن نعيش اليوم نظاماً رأسماليّاً مرعباً. لا توجد قواعد على الإنترنت. كلّ شيء، وكلّ شخص هو بضاعة. في الواقع نحن مدينون بذلك لبيل كلينتون، الذي منح شركات التّكنولوجيا النّاشئة آنذاك الحرّية المطلقة. يمكننا بالطّبع الحدّ من أن نكون المواد التي تُزيد الثّراء الفاحش لهذه الشّركات. ما الذي أقوله الآن: شركات؟! في الواقع يتعلّق الأمر بما يقرب من 12 رجلاً أبيض لديهم أيضاً أفكار غريبة، مثل استثمار كثير من المال في الشّركات التي تبحث عن "الحياة الأبديّة"، و"الخلود"، وهو المجال الذي يبدو لي ليس فقط أحد الشّواغل الأقلّ أهمّية في لحظتنا هذه، بل مستحيل أيضاً من النّاحية العلميّة، لكنّه يا عزيزي المكان الذي تتدفّق فيه أموالنا.
السّؤال الآن هو: هل نريد حقّاً أن يحدّد هذا النّوع من الأشخاص مستقبلنا؟ يمكنني أن أتخيّل أنّه خلال بضعة أجيال سينظر النّاس إلى زمننا هذا، ولن يفهموا كيف قبلنا أن نبيع حرّيتنا مقابل خريطة إلكترونيّة على هواتفنا المحمولة! ويبدو أنّ هذا هو السّبب الذي يجعل النّاس اليوم يثمّنون أجهزة هواتفهم الذّكيّة أكثر من أيّ شيء آخر، فقط لأنّها تحتوي على تطبيق خريطة تقودك إلى حيث تريد. كأنّنا نقول: سنقوم بتسليم خصوصيّة أطفالنا مقابل الحصول على خريطة! اللعنة.. قم واشترِ خريطة وتعلّم قراءتها. أكاد أسمعنا ونحن نبرّر الأمر للأجيال المقبلة قائلين: "لقد كان شيئاً سهلاً، كما تعلمون، حسناً، لقد أهدرنا حرّيتنا، لكنّنا حصلنا على خريطة سهلة الاستخدام بشكل رهيب، وعرفنا الطّريق إلى أقرب متجر للأحذيّة على الفور"!

 

الحرّية أو العبوديّة
(*) ألا تبالغين الآن قليلاً؟ أعطنا مثالاً واحداً على العلاقة السببيّة بين الحملة على وسائل التّواصل الاجتماعي وزوال الديمقراطية.
هاك المثال: شركة Cambridge Analytica، التي هي بالمناسبة مجرّد واحدة من بين آلاف الشّركات التي تقوم بالعمل ذاته، تمّ استخدامها من قبل حكومة ترينيداد (جزيرة بالقرب من فنزويلا) للتّأثير على النّاخبين. غالبيّة السّكان هناك من السّود، في حين أنّ القيادة السّياسيّة

في أيدي الآسيويّين الجنوبيّين. أطلقت الشّركة حملة ضخمة على وسائل التّواصل الاجتماعي بأكملها، استهدفت فيها الجزء الأسود من السّكان، ونقلت إليهم رسالة مفادها أن الانتخابات لن تكون نزيهة، ومن الأفضل لهم أن يقاطعوها. رافق الحملة تي شيرت يحمل صورة لشاب عاقداً ذراعية على صدره وتحت صورته شعار: "لا تصوِّت". وكانت النّتيجة أن كثيراً من النّاس لم يصوّتوا، وانتصر الحكام التّقليديّون في الانتخابات. هل هذا المثال كاف لك؟ هل تعتقد أن الأمر سيكون مختلفاً في البلدان الأخرى؟ لا يتعلّق الأمر بنظرية المؤامرة هنا، بل باستفحال التّكنولوجيا التي نعرفها جميعاً، ويتمّ استخدامها يوميّاً ضدّ الدّيموقراطية. أنا لست معتوهة، ولا أحارب طواحين الهواء. كلّ ما أريد قوله هو أنّنا اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا الحرّية أو العبوديّة.
 

(*) لكن الشّباب يرون ذلك بطريقة مختلفة تماماً. يعتقدون أنّهم لم يتمتّعوا مطلقاً بالحرّية التي يتمتّعون بها اليوم.
هذا، إذن، ما نسمّيه بالوعي الزّائف. يعتقدون أنهم أحرار، لكنّهم ليسوا كذلك. نعتقد جميعاً أنّنا نحن من نختار، وبشكل مستقل، وجهة عطلتنا الصّيفية المقبلة. هذا وهم، فالآخرون هم من يقرّرون هذه الوجهة بدلاً منّا. لم نعد نختار أيّ شيء بأنفسنا. حتى في كشك الانتخابات لم نعد نختار بأنفسنا. وانظر حولك. هل ترى النّاس سعداء؟.. قلقين؟ هكذا يبدو النّاس على الدّوام!

 

(*) يقولون إنّك قمت بإزالة جميع تطبيقات وسائل التّواصل الاجتماعي من هاتفك المحمول، هل هذا صحيح؟
نعم، لكن هذا ليس هو سبب قلقي. فسواء استخدمنا الهواتف الذّكية، أم لا، فلن يحدث هذا فرقاً. الأمر لا يتعلّق بالخيارات الفرديّة، بل بالخيارات السّياسيّة الجماعيّة. يجب أن نقرّر نوع المجتمع الذي نريد أن نعيش فيه ومن سيقودونه.

 

(*) وماذا تفعلين أنت حيال ذلك؟
أيضاً لا أعلم. ربما يجب علينا أن نبدأ بالتّصرف بشكل أقل شبهاً بقطيع من الأغنام؟ يمكننا التّخلص من زوكربيرغ غداً إن أردنا. هل تتذكّر ما قاله جون لينون، ويوكو أونو: "الحرب تتوقّف عندما تريد أنت". علينا فقط التّوقف عن استخدام فيسبوك والوسائط الاجتماعية الأخرى، وهذا ليس سهلاً بالطبع، لأنّ هذه الأشياء صنعت لتجعل منّا مدمنين عليها.

(*) كما لو أنّك تقولين الآن: نحن جميعاً مدمنون على الهيروين، والتّوقف عن هذا الإدمان مجرّد قرار؟
(تضحك) ربما يجب علينا أولاً الاعتراف بأنّنا مدمنون! ولكن ربّما لسنا مستعدّين لفعل هذا بعد. ومع ذلك نرى الإدمان في كلّ شيء من حولنا. يبدو أن الآباء لا يستوعبون فداحة أن يروا أطفالهم في الثّانية عشرة من عمرهم وهم غارقون 9 ساعات يوميّاً في أجهزة هواتفهم

الذّكية. لم يعد لديهم علاقات حقيقيّة مع المحيطين بهم. لا يرى الآباء مشكلة في ذلك، على الرّغم من أنهم كبروا في مناخ مختلف قوامه العلاقات الحيّة مع الآخرين. بعض هذه الخبرات المباشرة مؤكّد كانت سيئة جداً، ولكنّها كانت مهمّة في تكوينهم الإنساني. لقد عرفنا سابقاً حركات جماهيريّة أحدثت فروقاً هامّة ومحوريّة، منها ما أدّى إلى منح النّساء والسّود حق التصويت في الانتخابات. إذن، لا يزال في مقدورنا إحداث هذا التّغيير.

 

غطرسة البريطانيّين
(*) يقول رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، إنّ البريكسيت الموعود سيتم قريباً. هل تنظرين إلى قضية خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي باعتبارها قضيّة حرّية، أم عبوديّة، هي الأخرى؟
لا يزال النّاس في أوروبا يعتقدون أن خروج بريطانيا أمر يتعلّق بمواجهة ما بين بريطانيا العظمى ضد الاتّحاد الأوروبي، لكن بريطانيا العظمى، في الحقيقة، تناقض نفسها في هذا الشّأن. والمناقشات بين جميع الأطراف تعيد طرح سياسة قديمة على شفا الانهيار، أعتقد أنّنا في قضية البريكسيت أمام مواد دراسة مستقبليّة كما ترى، فهذه واحدة من المرّات الأولى التي غيّرت فيها تكنولوجيا المعلومات بلداً ما، لأنّ هذا هو ما يحدث اليوم. على مدار السّنوات الثّلاث الماضية بدأ كل بريطاني النّظر من جديد إلى موقعه الرّاهن تجاه الشّعوب الأوروبيّة الأخرى، وهو ما دفعه إلى التّفكير بشكل أكثر تطرّفاً، والسّبب في ذلك هو أنّ النّاس يحبّون الرّسائل المتطرّفة، وبالتّالي نجاح ساحق للصّحف الشّعبية التي تستخدم لغة الشّعارات، والتي عزّزت تلك الرّؤى المتطرّفة لدى المواطن الإنكليزي. وكذلك مواقع السّوشيال ميديا، التي كلّما زادت نسبة النّقر على ما تنشره من أخبار يمينيّة تزداد أرباح هذه الشّركات. وهكذا انتهى المطاف بالإنكليز غارقين في دوّامة من الأفكار الأصوليّة المتزايدة.

 

(*) ولكن أليس لهذا علاقة أيضاً بثقل لندن الغنيّة ذات التّوجه الدّولي، في مقابل شمال إنكلترا الفقير والنّاظر دائماً إلى مشاكله بعيداً عما يحدث في العالم؟
لقرون عديدة، كانت بريطانيا العظمى متوازنة بسبب الثّقل الذي تملكه لندن. هذا بالطّبع يلعب دوراً رئيسيّاً في المشهد، لكن هناك قضايا أخرى تمور ببطء. يمكن القول إنّ ثمّة شيئاً فرويدياً غريباً يحدث في الكواليس. فمثلاً، قبل أسابيع عدة، خرجت إحدى الصّحف الإنكليزيّة بعنوان رئيسي غريب هو: "ارتد خوذتك.. فأسعار المنازل تتراجع". أجد ذلك شيئاً غريباً. نستخدم استعارة من أيام الحرب العالميّة الثّانية لوصف الحرب الاقتصاديّة التي نخوضها ضد أنفسنا. بوريس جونسون يستخدم الاستعارات ذاتها، ويقول "سنقاتل حتّى الشّواطئ"، في إشارة إلى واحدة من خطب ونستون تشرشل الإذاعيّة الأكثر شهرة خلال الحرب، والتي وصف فيها بريطانيا بأنّها منارة الحرّية الوحيدة ضد الطّغيان النّازي. أبي هو الآخر حارب الحرب نفسها، ولا تزال هذه اللغة الحربيّة كامنة في دمائه، دمائنا جميعاً. في الواقع، نحن لا نزال نخوض تلك الحرب بشكل أو بآخر، حتى يومنا هذا.

(*) ألا يمكننا القول إنّ إدراك بريطانيا لانتصارها في الحرب هو الذي ساهم بقوّة في زيادة غطرسة البريطانيّين؟
هذا مؤكّد، فنحن دائماً الطيّبون. لقد انتصرنا. كلّ طفل إنكليزي تربّى على هذه الجملة we are the good guys. يمكنني هنا تصوّر جندي ألماني نشأ قبل نصف قرن، وهو لا

يزال يعيش الشّعور المستمرّ بأنّه كان من الفئة الشّريرة، وربما كان ذلك أفضل لتوازنه العقلي. في المدرسة، لا أذكر أنّي سمعت شيئاً سوى أنّنا أبطال، كما لو كنّا جميعاً شخصية "لوك سكاي ووكر" في سلسلة أفلام "حرب النّجوم"، فنحن من أنقذنا العالم. حتى أنا تربّيت على النّغمة نفسها، رغم أنّي طفلة سوداء من المهاجرين، فما بالك بالتّأثير الذي تحدثه هذه النّغمة على الأولاد الذين "حقاً" من هنا؟ هؤلاء لا يمكنهم التّشكيك في حقيقة أنّهم أبطال، وأنّهم أنقذوا العالم بالفعل من الأشرار. ولا أقول هنا أنّ علينا أن نرفض ماضينا. لقد مرّ التّاريخ البريطاني بفترات مجيدة، لكن في بعض الأحيان يتحوّل الفخر الإنكليزي في ذاته إلى ما يشبه الكابوس. نحن أوّل من ألغينا العبوديّة، وفي الوقت ذاته، كنّا أبشع تجّار للرّقيق في التّاريخ. نحن فخورون بأنفسنا في معاداتنا الفاشيّة، بينما سترات الجيش البنّية تسير مزهوّة في الشّوارع مع كلّ حرب هنا أو هناك. علينا اليوم أن نُظهر الجانب المسكوت عنه من هذه الحروب التي خضناها، وعلينا أن نناقشها في المدارس، وألا نقصر تاريخنا على فتراته المجيدة فقط. كان البريطانيون تجّاراً وحشيين للعبيد في منطقة البحر الكاريبي، أكثر توحّشاً حتى من الأميركيين، كيف لا تعترف دولة ما بهذا العار أمام نفسها، وكيف تنقل الأكاذيب حتى اليوم لأحفاد هؤلاء العبيد؟
أقرأ حالياً سيرة ذاتيّة للكاتب ليمن سيساي، بعنوان "اسمي لماذا"، يحكي ليمن أنه ولد لأم إثيوبيّة غير متزوّجة، كما كان الحال دائماً في السّتينيات. أخذوه من أمّه، وألحقوه بملجأ للأيتام. وفي محاولة الملجأ للبحث عن أسرة حاضنة له، وصفوه في أوراق دار الأيتام بأنّه "سيساي الإثيوبيّ"، وبعد ذلك تبنّته أسرة بيضاء متوسّطة. ليتمّ تغيير اسمه وينتقل للعيش بعيداً مئات الأميال عن مسقط رأسه. كانت هذه عمليّات منظمة تتمّ آنذاك. وهنا يتساءل سيساي في سيرته: "هل يعنى تعريفي بالإثيوبي هنا أنّ عليهم أن يعاملوني كزنجي"؟ ذلك لأنّه كانت هناك سياسة مختلفة للأطفال السود عن تلك الخاصة بالأطفال البيض.

(*) يبدو أن بقيّة العالم تتحدّث أكثر فأكثر اليوم بلغة واستعارات الحرب. إلى أيّ مدى ستصل بنا هذه اللغة؟
هنا تقوم الحروب الإعلانية الخادعة التي تشنّها شركات السّوشيال ميديا بعملها. فالغضب والخوف هما المحرّك الحقيقيّ للنّاس للنّقر على هذه الرّوابط، وبالتّالي يمكن لهذه الشّركات ربح مزيد من المال. لقد اختفت تماماً القيم الأوروبيّة المعتدلة من حياتنا الرّاهنة، فلسفيّاً وجسديّاً على حد سواء. لم يعد للأفكار المعتدلة مكان في مشهدنا السّياسي الحالي: المحافظون أصبحوا قوميّين جداً، والعمل يسير بشكل متزايد على الطّريق الماركسي.

(*) وهل اختفت أحزاب الوسط؟
بالضّبط، في حين أن الوسط هو عادةً المكان الأكثر صحةً، والأكثر منطقيّة للبقاء فيه. في بريطانيا يملك الوسط سمعة سيّئة، لأنّه منذ مارجريت تاتشر أصبح يعني الليبراليّة الجديدة. لكن هذا ليس نوع الوسط الذي أدافع عنه هنا. الوسط بالنّسبة لي هو الفريق الذي يقبل بالاندماج بين جميع النّاس، ويتقبّل اختلافاتهم، ما يمكن لنا أن نصفه هنا بموقف "كينزي"([1]) يدعم الرّأسمالية، لكنّه يتناقض مع حالة الرّفاهية المرنة. كانت هذه الوسطيّة إنسانيّة أكثر من قبل، وهي - في رأيي الشّخصي - كانت أعلى مستوى حقّقناه اقتصاديّاً على الإطلاق، لكنّها اليوم أصبحت ماضياً. هذه الفترة التي استمرت 45 عاماً، منذ نهاية الحرب العالميّة الثّانية إلى نهاية ثمانينيّات القرن الماضي. لقد كبرت في هذه الفترة التي لم تكن مثاليّة جداً، خاصّة إذا كنت تنتمي إلى أقليّة عرقيّة، ولكنّها كانت فترة جيّدة، في حين أن وقتنا الحالي لم يعد فيه شيء.

 

(*) وهل ترين أنّ رسالة أحزاب الوسط تبدو اليوم أضعف من قبل؟
تماماً، فاليوم لا وجود إلّا لخطاب المقاومة والحرب، وأكثر ما يخيفني هو أن أحزاب الوسط لم تظهر إلا بسبب كارثة الحرب العالميّة الثّانية. ربما نحتاج أوّلاً إلى كارثة حتى نكون قادرين على بناء مجتمع يقوم على مبادئ اجتماعيّة حقيقيّة. كلّ هذا الكلام الخطابي عن الحرب اليوم يمكن أن يؤدّي بنا إلى كارثة، تملك الكلمات هي الأخرى قوّة تنبّؤية، فإذا وصفت أحداث العالم لفترة طويلة بأنّها صراعات ومعارك وحروب، فسوف تحصل على ما وصفته.


هوامش:
(1) "المدرسة الكينزيّة": حركة في العلوم الاقتصادية تستند إلى أفكار عالم الاقتصاد الإنجليزي جون ماينارد كينز (1883 - 1946). يطرح الاقتصاد الكينزي نظرة هيكليّة إلى حدّ كبير، حيث مكان الإنسان في بيئته الاقتصادية (الكلية) هو سبب رئيسي للسّلوك الاقتصادي الفردي.
(2) Zadie Smith, Het verbond, Prometheus, 272 p., Vertaald door: Kitty Pouwels en Anne Jongeling, Amsterdam 2019.


ترجمه عن الهولندية: عماد فؤاد.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.