}

الدرس الموسيقي الأخير: الموسيقى سبقت اختراع الكلمات

باسكال كينيار 6 يونيو 2019
ترجمات الدرس الموسيقي الأخير: الموسيقى سبقت اختراع الكلمات
(سعد يكن)
تقديم
تربط حياة وأعمال الكاتب الفرنسي باسكال كينيار (1948) علاقة حوار وثيقة مع الموسيقى. في عام 1998 كتب هذا التأكيد المثير للدهشة: "لا يوجد فرق بين تدوين كتاب صامت وعزف الموسيقى".
يمكننا العثور على مفاتيح هذا الحوار في "كتاب درس الموسيقى" حيث الرواية هي إعادة كتابة جزئية على شكل خرافة. في المبحث الثالث من الكتاب، لا يبتدئ متدرب الموسيقي بو ياه في تعلم عزف الموسيقى، إلا عندما إلا عندما ينعي غياب معلمه الذي اختفى في البحر: "بكى في أعماق قلبه وكانت الألحان وحدها دموعا". ويمكن تلخيص مضمون الدرس الملقَّن للتلميذ من قبل المعلم الذي يختفي للأبد، على الشكل التالي: العمل الموسيقي يعني رثاء أحد ما.
يطرح هذا الكتاب مسألة الروابط بين الموسيقى والكتابة، قبل كتاب "كراهية الموسيقى" بفترة طويلة، الذي حاول التوسع فقط في هذا الطرح، لترسيخه أكثر من ناحية "نشوء اللغة وتطورها". نص "درس الموسيقى"، في الواقع، يعرض القرابة بين النشاط الموسيقي ونشاط الكتابة. مثل الموسيقى، تستعمل الكتابة صوتا منفصلا عن شخصه الحقيقي: "صوت ما يتردد في الزمن، ثم يتحرر من الشروط العملية الاجتماعية، أو المتحاورة أو الموسيقية للخطاب البشري. إنه صوت يلاعب شبحه... أو يلاعب ذاكرته. أطلقنا على كل هذه الاحتمالات، منذ عهد قريب، تسمية: الأدب".
هذا الصوت الأدبي ليس صوت الكاتب، إنه مجرد "صوت ضائع"، مثلما تستضيف الموسيقى الأم الغائبة، أو شبح الكلية المنصهرة ما قبل الوجود، فإن الكتابة تثير الرجوع العابر الأورفيوسي لمتغيب أو متغيب: "أولئك الذين يؤلفون كتباً هاجسها الجمال، يستعيدون شبح صوت دون امتلاك القدرة على نطقه. إنه دليلهم الوحيد.". ينصت الكاتب إلى هذا الصوت مثلما ينصت الموسيقى للمفقود.
يبدو أن التوافق الذي تسعى إليه الكتابة بالصوت الشبح يحيل إلى المفقود. رغم ذلك، فإن تحديد طبيعته هو أكثر صعوبة مما عليه الموسيقى، خصوصا أن الكاتب قبل كل شيء هو
قارئ، كما ما فتئ يشدد باسكال كينيار باستمرار، وسيكون هذا الصوت أولا أصوات المؤلفين الذين قرأ لهم، جميع أولئك الأدباء الذين قدّم على سبيل المثال لا الحصر، معرض صورهم في كتاب "المباحث الصغيرة". لكن "درس الموسيقى" يوحي بأن صوت الأدب المفقود والمستعاد يجب النظر إليه، من الناحية الجينية، في علاقته بكياننا "القبْل لساني"، ومن ناحية "نشوء اللغة وتطورها"، في علاقته مع وجودنا كنوع مسخَّر لتلبية حاجاتنا الغريزية: "لأن الوقت هو ما يدوم، ما نكابد، المسافة بين الفريسة والفكين، بين التربص والانقضاض، وبين الرغبة والاستمتاع". وكذلك السرد من الواضح أنه افتراس أيضا. لهذا الصوت المفقود علاقة، كما للموسيقى، بما بقي غير مروَّضٍ، وغير مأخوذ في حساب اللغة التي تضعه على المحك. رغم ذلك، سيكون الكتّاب أقل حظا من الموسيقيين، لأنهم يوجدون في مواجهة صوت معني دائما بصياغة المعنى، وتأسيس الذات بالكلمات، كلمات الآخرين، كلمات الجماعة والثقافة، وبالتالي مضاعفة فرصة تفويت الوجود وأصوله: "إنهم يسيئون فهمهم، إنهم يسعون لاستدعاء صوت يسبق- صوت غابر في معظم الأحيان، ومحتفظ بدلالته دائما ، بمعنى أكثر وضوحا، أكثر طفوليا، وأكثر عضويا. صوت يسبق تغير الصوت عند البلوغ وعلة لجوئهم إلى موسيقى الآلة أو التأليف الموسيقي".
يبدو في الواقع أن الكاتب يسعى أثناء الكتابة إلى التخلص من "الصوت الإلهي"، صوت الأسلاف، واللوغوس الذي يضاعف كل قول: "حتى قبل الكتابة، كان الصوت الصامت الذي يسبق الصوت الصائت غير الملفوظ الذي أباحته الكتابة"، باستثناء الحالات التي حاول الكاتب احتكار وتدجين هذا الصوت كما تشير العديد من فصول "المباحث الصغيرة". كما أن تناقض الزمن الذي يعذب الموسيقيين لا يستثني الآخرين، ومن بينهم الكتّاب. كتاب "اعترافات" القديس أوغسطين والموسيقى من أصل واحد: الشكوى المرتبطة بتناقض الزمن. تقترح الكتابة لهذا التناقض الوجودي علاجا مشابها لما تقترحه الموسيقى: "التناغم الفني المصطنع". في حالة الأدب: السرد؛ "حياتي قارة.. وحده السرد يستطيع مجاورتها".

فيما يلي الفصل الأخير من "درس الموسيقى":
درس بو ياه العود لمدة خمس سنوات، ولمدة أربع سنوات القيثار الرباعي الأوتار، قبل أن يلتحق بشانغ ليان لتلقي تعليمه. استمع إليه شانغ ليان، واستقبله بين تلاميذه، وجعله يعمل لمدة ثلاث سنوات. في أحد الأيام، قبيل الفجر، أرسل شانغ ليان في إحضار بو ياه على الفور في حجرة الآلات الموسيقية.
كان المعلم متربعاً، على يساره مصباح الزيت. وبقي صامتاً.
- ناولني عودك. طلب فجأة من بو ياه.
انحنى أمامه بو ياه وناوله العود.
– استمع إلى هذا الصوت. قال له شانغ ليان، وطوّح بالعود فوق رأسه وحطمه على الأرض.
- هذا هو صوت العود. قال شانغ ليان.

كان عمر العود سبعمائة عام (يرجع إلى نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد). انحنى بو ياه ثلاث مرات.
-  ناولني قيثارك الثلاثي الأوتار. طلب شانغ ليان.
سلّمه بو ياه القيثار.
-  استمع إلى هذا الصوت. قال له شانغ ليان.
وضع القيثار أمامه، ثم نهض، قفز فوقه وداس عليه طويلا.
كانت دموع بو ياه تنهمر، وهو ينظر إلى آلتيه الموسيقيتين المحطمتين يرفسهما حذاء معلمه. ثم ركل شانغ ليان حطامهما باتجاه بو ياه قائلاً:
- الآن، كن أكثر إحساساً في طريقة عزفك للموسيقى.
كان الفتى بو ياه محبطا جدا، فلم يتبق له سوى القليل من المال. ولقد فقد آلتيه الموسيقيتين. لمدة شهر توقف عن تناول الطعام وتردد في ترك معلمه. جميع النقود التي كانت في حوزته قدمها لشانغ ليان لدفع مستحقات تعليمه، سرير من الطوب، ووجبات الطعام اليومية. كان

يستعير العود من كو لين من وقت لآخر.
بعد مضي شهر، عندما رأى بو ياه أن المعلِّم لم يتصل به، ذهب للقائه. انحنى أمامه بالتحية. أجلسه شانغ ليان بجانبه وأحضر طبقين من المعكرونة مكللة باللحم المقلي والقرنبيط. تناولا العيدان وأكلا. بعد انتهاء شانغ ليان من تناول معكرونته، أحضر النبيذ وقام بتسخينه. شربا سوياً بعض الكؤوس. في الأخير سأل شانغ ليان:
- صُنع عودي بعد ولادة الأمثال بوقت قصير. أبي تحصّل عليه من الدوق فونج مقابل ثلاث محظيات ذوات جمال لا يوصف. قيثارتي تداول على عزفها الموسيقيون السبعة. لماذا كسرتهما، أيها العم الأكبر؟
كان صوت بو ياه يغصّ بالدموع أثناء الكلام. وأصبح مبحوحاً عندما نطق بمفردات العود، القيثار، العم الأكبر والأب. فجأة أطلق شهقة طويلة وانخرط باكيا في أكمامه.
- عمي...
في الختام، دعَك بو ياه جفونه وانحنى ثلاث مرات أمام المعلِّم الذي أجابه:
- يا بنيّ، لقد سبق لي أن أجبتك عندما كسرتهما. كان عزفك بارعا لكن كان مفتقداً الإحساس. لقد كسرت آلتيك الموسيقيتين وقد تغير صوتك بالفعل. لقد استمعت إلى نحيبك وقد لمست حقاً في ارتجافة صوتك شيئاً يمتّ للترنيمة. أنت بدأت تستخرج من ذاتك بعض النغمات الساحرة.
التقط شانغ ليان بقية من القرنبيط سقطت على أكمامه، ثم تابع:
- أنت مثل طفل يتغيّر صوته عند البلوغ. أنت مثل طفل تتردد شفاهه بين ثدي مرضعته وحلمة العاهرات. أنت مثل طفل يتردد بين عالم الحليب والنبيذ الساخن، بين الصوت الذي يرتفع فجأة فوق أوراق الشجر والصوت الأجشّ للحطاب أو سائق العربة مدويّا وصائحا على الجذع أو البغل. أنت تتردد بين إحساسك ومعرفتك. لا يزال أمامك الكثير لتفعله كي تقترب من الموسيقى.
انحنى بو ياه ثلاث مرات مجددا أمام شانغ ليان. عندما كان على وشك الانصراف أمسكه المعلّم ودعاه للجلوس مرة أخرى. سأل شانغ ليان تلميذه عن دوافع اختياره فن الموسيقى.

***

ثلاثة أسباب جعلت بو ياه يختار الموسيقى. الأول كان عندما كان بالكاد يستطيع المشي. كان يرافق متمايلا على ساقيه الصغيرتين خادمة تذهب إلى البلدة للبحث عن الحطب والأرز بمحاذاة البحيرة. على طول البحيرة، رأى أشجار الصفصاف بجذوعها الضخمة وظلالها الوارفة. اقترب وأبصر رجلا يحرس جاموسا، فيما كان يقرأ متمتما على حافة الضفة. كانت ظلال الصفصاف متحلقة وزرقاء. وكان الصمت عميقاً.
- الماء، الظل المستدير، الجاموس، الصفصاف، والرسن الذي يوثق الجاموس إلى الجذع، كل هذا انحفر في ذاكرتي، لا شيء آخر. قال بو ياه.
السبب الثاني وراء اختيار بو ياه فن الموسيقى، بحسب شهادته، كان بعد تسع سنوات، عندما توفيت زوجة والده الرئيسية، كانت الستائر البيضاء تتدلى على الأبواب. فكّر على الفور أن "الزوجة الأولى ماتت". اقتحم إلى الداخل. تناول عود البخور وانحنى أمام الأيادي المضمومة أربع مرات. كان جاثياً على ركبتيه ولامست جبينه الأرضية الخشبية. لمح الأضواء المرتعشة للقناديل، الظلال والأقدام. ثم سمع في الوقت نفسه فرقعة الزيت في المصباح الكبير وصوت دموعه التي تنهمر على خشب البلاط.
الحدث الثالث الذي دفع بو ياه إلى اختيار الموسيقى، بحسب بو ياه أيضاً، كان بالقرب من نانكان، كان يهم بمغادرة فضاء الشاي. لا يزال يتذكر دفء المكان، نضارة الأوراق والأزهار، ونقاء مياه الأمطار التي تغلي في الغلاية. كان الجو حاراً جداً. عندما أصبح بالخارج، كان العرق يتصبب على وجهه وعلى ردفيه، بينما كان يتابع طريقه إلى معلّم الكتابة فاجأته عاصفة. جلس القرفصاء في الأدغال. كانت عاصفة عنيفة للغاية. دوامات المطر كانت جبالا. كانت حلكة السماء تتلألأ كخصلات أجمل النساء. هزيم الرعد كان يصمّ الآذان ويحرّض على الفرار. كانت البروق تمزّق كثافة السماء القاتمة، فتنجلي الطبيعة الخفية المرعبة في قلب الطبيعة – كشظايا من الشمس المرعبة وراء الليل. دفن بو ياه وجهه في أكمامه.
ثم ساد السكون، بالتوقف المفاجئ للمطر. فتح عينيه مجددا. كان ثمة مثل ضوء جديد حول

العالم. ضوء جديد وسكون حول الأشجار المغسولة التي تشع بلون أخضر خلّاب، لآلئ على الأوراق، وحصة السماء كانت زرقاء تماما. شعر بو ياه بالانتشاء للمرة الثالثة. أكد بو ياه أنه لا يوجد سوى صوت وحيد بإمكانه رسم هذه المساحات المنبسطة المتدفقة الجديدة والألوان التي لم تُر قبل الآن. ارتأى بو ياه أن هذا الصوت سيكون قريبا من الصمت.

***

- هذا خطأ. رد شانغ ليان.
نظرا إلى بعضهما. صمتا للحظة. عندئذ، بانتهاء بو ياه من توضيح الأسباب التي دفعته إلى اختيار الموسيقى، قرص شانغ ليان أنفه وانبرى قائلاً:
- أنت لا تزال بعيداً من الموسيقى. لا القارئ الشاب ولا جاموسه جعلاك تقترب من الموسيقى. لا تختبئ الموسيقى بين الصفصاف. الموسيقى ليست الصمت. صوت الموسيقى لا يقطع الصمت.
لمس شانغ ليان الأصبع الوسطى وقال:
- وبالمثل، لم تقرِّبك من الموسيقى لا قطرة الزيت ولا الدموع المذروفة على رفات زوجة والدك الأولى. الموسيقى ليست الموت، وإذا لم تكن حياةً، فهي قريبة جداً من الحياة، إنها في الحياة قريبة جداً مما هو متفتِّقٌ في الحياة. إنها الصرخة الأولى التي تكون الصوت الأول. وبهذا المعنى، لا تَتْبع الموسيقى الحياة بل تسبقها. لقد سبقت الموسيقى اختراع الكلمات الأحادية المقطع.
رفع شانغ ليان أصبعه الوسطى قائلاً:
- بالنهاية انجلاء العاصفة لا يقرِّبك من الموسيقى. أذنك خائفة. الموسيقى ليست انجلاء العاصفة، إنها العاصفة.
لم يجب بو ياه معلّمه الذي صمت هنيهة، ثم تابع:
- بينما كنت تتكلم، استمعت إلى رنة صوتك. ماذا تقول الكلمات غير الذريعة والفراغ؟ ماذا تقول رنة الصوت عدا الإرادة وصميم القلب؟ بينما كنت تستعرض الأسباب التي دفعتك إلى الموسيقى ابتعدت نبرة صوتك عن الموسيقى. صوتك ما فتئ يتقوى تدريجيا، تاركا الرجفة والدمعة والموسيقى. ماذا فعلت بآلتيك الموسيقيتين؟
أجاب بو ياه أنه لملم شظاياهما، كدسها في مربع حرير، وضحى من أجلها بحصة لحم البقر، لحم الأغنام، ولحم الخنزير قربانا. وأضاف أنه يصلي كل صباح أمام نعش آلاته الموسيقية.
امتقع وجه شانغ ليان بالدم وانبرى للهجوم على تلميذه:
- ما حاجتك للصلاة أمام توابيت آلاتك الموسيقية؟ الآلات مجرد توابيت مسبقا. انتظر، توجه إلى أمين الصندوق فو واطلب دفعة من النقود واذهب من جهتي إلى مصلح الآلات الموسيقية، واطلب منه القيثار الثلاثي الأوتار المكسور والمتعذر إصلاحه. اطلب منه العود المبعوج والمرقع إلى حد ما. خذ أبسط الآلات الموسيقية وتمرّن من جديد على الموسيقى. تذكر عندما أصبح صوتك مبحوحا. تذكر عندما انكسر صوتك في ذكرى آلاتك المتكسرة. عودك الذي يرجع تاريخه إلى ولادة الأمثال يشبه قشرة الجوز التي يجب كسرها لتناول الفاكهة. تذكر أن الصوت في الموسيقى ليس الفاكهة.

ترجمة وتقديم: ميشرافي عبد الودود.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.