كانت مولر، التي نالت جائزة نوبل للآداب في عام 2009، تريد مراسلة أصدقائها في رومانيا، بعد أن اضطرت للهرب منها إلى ألمانيا في عام 1987، ولكنّها كانت تجد البطاقات العاديّة والتذكاريّة، التي تبيعها المكتبات ومراكز البريد، مملّة و"حمقاء" ولا تحمل أيّ إبداع فنّي، لذلك فكّرت أن تصنع هذه البطاقات بنفسها. تقول مولر: "بعد فترة وجيزة من خروجي من رومانيا، قضيتُ الكثير من الأوقات مسافرة، ولطالما رغبتُ أن أتواصل مع أصدقائي، بحثتُ في الأمكنة، التي تواجدتُ فيها، عن بطاقات بريديّة، ولكن كانت توجد فوق الكروت السوداء والبيضاء تلك الأقوال الحمقاء، التي أرادوها أن تكون مُضحكة. أما البطاقات التذكاريّة المصوّرة فكانت تحملُ ألواناً بشعة وعاقّة!!"
إنّها تجربة فنّية وتجريبيّة ما قامت به مولر من خلال صناعة هذا الكتاب ونشره. ولكن هذه التجربة ليست حرّة تماماً؛ بل هناك قيود قيّدت الكاتبة نفسها بها؛ فعليها أن تختار صوراً مُعيّنة، ثمّ كلمات معيّنة، حتى لو كانت آلاف الكلمات، لكي تكتب مقطعاً شعريّاً أو نثريّاً على شكل بطاقة بريديّة. الكلمات هنا تأتي من خارج الكاتب وليس من داخله ولا إلهامه. الإلهام تصنعه الكلمات الجاهزة الموضوعة على الطاولة وليس في دماغ الكاتب، لذلك لا بدّ أن تجتاح السرياليّة نصوص هذا الكتاب، وهو الغموض الذي تصنعه كلمات قد لا يكون مكانها مريحاً بجانب كلمات أخرى تأخذ أشكالاً وألواناً مختلفة.
هذه الصعوبة والغموض يبدآن من عنوان الكتاب نفسه "في الحنين إلى مسقط الرأس توجد قاعة زرقاء"؛ فهي تقوم بمزج غير المحسوس، وهو الحنين إلى الوطن أو مسقط الرأس، مع المحسوس، وهو القاعة الزرقاء. وعلى هذا المنوال تتوالى نصوص الكتاب التي يحمل بعضها ذلك الإيقاع والوزن، والآخر الذي يسيل في النثر، لدرجة نظنّ بأنّ العديد من تلك النصوص تأتي مثل تصوّرات فلسفيّة، وأخرى مثل تشريح غامض لكوابيس قديمة، وأخيرة تنساق وراء كلمات معيّنة لها وقعها وسطوتها على النص.
"في الشتاء
أشجار الكمثرى العارية
شقيقات.
في الصيف طفلات وحيدات".
"أسألُ نفسي
فيما إذا كان الصيف
قد دفع ثمن القميص الأبيض
لسنونو الإسفلت".
هناك عدّة أسئلة يُمكن طرحها عن ماهيّة هذا الكتاب، وكذلك عن شعور الكاتبة نفسها وهي تستخدم مقصاً وقلماً وصحفاً ومجلات وبطاقات فارغة بدل أوراق فارغة وكلمات تتجوّل وتتصارع في الرأس. العلاقة مع المفردات بين تذوّقها من خلال التجربة الداخليّة الشخصيّة وبين رؤيتها على الطاولة ومحاولة إيجاد حياة جديدة لها. وكذلك عن ميكانيكيّة الكتابة كمهنة وليس كإلهام خاص. وكثير من هذه الأسئلة تُجيب عنها مولر نفسها في مقدمة الكتاب. "ألاعيب. كنتُ مندهشة؛ لأنّ كلمات منفردة كانت تستطيعُ أن تحكي حكاية؛ لأنّ بضع كلمات تستطيع أن تُعطي ذلك الغموض، وذلك لأنّ القليل من كلّ نوع يُوحي بقصّة تتابع جريانها. لاحظتُ ذلك للتو؛ فالقصص لم تكن على البطاقة أصلاً".
خزانة الكلمات
وفي مكان آخر تقول مولر: "مع الوقت صارت النصوص دائماً أطول؛ تشكّلتْ قصص من ألوان وخطوط مختلفة. في كلّ مكان كانت الكلماتُ تنتظر. كان يجب عليّ فقط قصّها. كانت تنتظرني خارج نفسي، لم يتوجّب عليّ، كما في الكتابة، بالبحث عنها في رأسي".
كانت الكلمات قليلة في بداية التجربة، ثمّ اضطرت صاحبة رواية "حيوان القلب" إلى أن تشتري طاولة مربّعة الشكل وكبيرة لكي تستلقي عليها الكلمات والصور، ولكي تستطيع اصطيادها بسهولة أكثر ولصقها على البطاقات. "طوال عامين امتلكتُ طاولة الكلمات هذه. الكلمات تتناسل وتصبح دائماً أكثر. تستلقي بأطرافها السمينة، وتصبح، مع مرور الزمن، مُترَبة، ولأنّني ما عدتُ أستطيعُ استخدامَها أكثر؛ لوّثها الغبارُ ولوّث صمغَها. وجبَ عليّ رمي آلاف الكلمات التي لم أرغب في الافتراق عنها، ناهيك بأنّ الساعات التي قضيتُها في القصّ كانت ساعات عمل لا تُحصى. ينبغي وضع الكلمات في خزانة ذات جوارير. وضعتُها في الخزانة وفق ترتيبها الأبجديّ، وبذلك أعرفُ أين أجدُ الكلمة عندما أحتاجُها".
صعوبة هذا الكولاج الفنّي سيختلف الإحساس به بين القرّاء، فمنهم الذين سيندهشون من هذه الفكرة وهذا التجريب، وهذا المزج بين الشعر والفلسفة والصورة والكلمات بخطوطها وألوانها المختلفة. ومنهم من سيرى أنّ قراءة هذا الكتاب صعبة لدى شريحة واسعة من القرّاء. وربّما لم يكن القارئ الألماني ينتظر مثل هذا الكتاب من حاملة جائزة نوبل للأدب، بل أيّ شيء آخر يتعلّق بالسرد، ورواية جديدة على الأقل، بعد سنوات من توقفها عن نشر الروايات، ولكنّ مولر كتبت كتاباً "غير منتظر" من قرّائها ونشرته وانتهى الأمر، كما تقول هي في إحدى بطاقات الكتاب:
"البِركةُ هي ذلك الشيء
الذي تؤلّفه أنوارٌ مُبتلّة
لكنّ الشوارع لا تُدرك ذلك!!".