}

أن تحيا حتى لحظة الاعتراف.. مئوية ميلاد يوري ناغيبين

ألكسندر بافيلوف 10 أبريل 2020
ترجمات أن تحيا حتى لحظة الاعتراف.. مئوية ميلاد يوري ناغيبين
يوري ناغيبين (1920 - 1994/ livejournal)

زخرت حياة يوري ناغيبين، الأدبية والإنسانية، بكثير من الألغاز: حلّ بعضها الكاتب، بعد أن أصبح ناضجاً، وبقي بعضها غامضاً بالنسبة للقرّاء حتى نهاية الثمانينيات، عندما قرّر ناغيبين فضح نفسه متسلحاً بآخر جرعةٍ من الشجاعة. كانت خطوته هذه خطوة منهجية أرسى بدايتها عام 1987، عندما نشرت قصّته "انهض وسِرْ"، وكان ختامها عام 1994 بقصصه "ظلمةٌ في نهاية النفق"، و"حماتي الذهبية"، و"دافنيس وخْلوي عصر عبادة الذات، التطوّع والركود"، وقصة "اليوميات"، التي صدرت بعد وفاة ناغيبين عام 1995. عندها، وبعد وصول هذه القصص إلى القراء، تعالت الأصوات لتتحدّث عن هنري ميللر الروسي، عن ناغيبين المبهر! وسادت الوسط الأدبي تقييمات حول "عروض التعرّي التي قام بها ناغيبين علانية"، وتراوحت التقييمات من التصفيق إلى عدم القبول. ولكنّ الأمر لم يكن يتعلّق بهنري ميللر، فلم يكن ذلك يهمّ ناغيبين، بل كان الأمر يتعلّق بظهور ناغيبين المفاجئ على الساحة الأدبية، بصورةٍ لم يكن أحدٌ قد شهدها من قبل، أو يتوقع رؤيتها.

 

أين تكمن المفاجأة؟
أولاً: ألغاز النسب. اتضح أنّ لناغيبين اسماً محلّ جدل. فقد جاءت كنيته من والده، كيريل

ناغيبين، الذي لم يسمع به إلا في سن متأخرة. أمّا اسم الأب فجاء من زوج الأمّ، مارك ليفانتال، الذي اعتبره والده لفترة طويلة من الزمن. بعد وفاة والدته عام 1975، اكتُشِفت رسالةٌ كتبها لها كيريل ناغيبين (الوالد الحقيقي). تبين الرسالة أنّ الطالب السابق كيريل ناغيبين كان مشاركاً نشطاً في انتفاضة الفلاحين التي عرفت بانتفاضة أنتونوفشين"(*)، التي سحقها الجيش الأحمر في عامي (1920-1921) بالسلاح، بما في ذلك الأسلحة الكيماوية. في رسالة الوداع الأخيرة، أبدى الأب اهتماماً بابنه المستقبلي حتى قبل ولادته، واقترح "آباءً" محتملين، من بينهم الشاعر ماياكوفسكي، ولكن الخيار الأخير وقع على " ليفانتال".
وفي بعض التفاصيل، كان ليفانت يهودياً، ليتحول بذلك يوري ناغيبين، الروسي الأصل بالكامل، إلى شخصٍ "غير روسي". من حيث الجوهر، كانت قصة "ظلام في نهاية النفق" تتحدّث عن هذا الموضوع، أي عن صعوبة أن تكون يهوديّاً في روسيا، وكذلك عن تضاعف الصعوبة مئة مرّة عندما تكتشف أنّك لست يهودياً، بل روسي قحّ. فهل مازالت هذه القضية ملحّة في روسيا اليوم، أو مسألة جدلية. فليس سرّاً أنّه جرى في الستينيات ترسيمٌ نشط مشروط للحدود الأدبية بين الأدب الليبراليّ، والأدب الريفي. كانت غالبية المجتمع الأدبي الليبرالي من اليهود الأصليين، أمّا مجتمع الأدب الريفي، فكان من أبناء الفلاحين، الروسٌ بحقّ. كانت المواجهة بين التيارين غامضةً، مليئة باللوم والاتهامات العدائية المتبادلة. كان موقف ناغيبين في هذا المواجهة موقفاً ضبابياً يتسم بالغموض: فمن ناحية، اعتبر واحداً من أساتذة النثر "القروي"، ومن ناحية أُخرى عانى من "تدنّس الدم"، أي أنّه ينتمي صراحةٍ إلى ذاك الجزء من الشعب الروسي الذي لا يتحلّى بالورع" القرويّ".
قصّة "ظلامٌ في نهاية النفق" نصٌّ يكاد يكون سيرة ذاتية، لكن هذه قشرةٌ فقط. في الواقع، كان الأمر أكثر تعقيداً: ففي هذه القصّة، تحدّث ناغيبين بصراحةٍ عمّا كان لا يُتقبّل الحديث بشأنه، بل كان يمكن تخمينه فقط.
يمكن قول الشيء نفسه تقريباً عن قصّة "حماتي الذهبية"، و"دافنيس وكلوي..". أدهشت هذه القصص القارئ بحريتها النشطة، واللامبالاة الفجّة في تصوير الحبّ الجسدي، خارج القانون

تماماً في الغالب، لكنّ مرّةً أُخرى نجد أنّ السياق هنا أهمّ من النصّ نفسه. هذا السياق هو تثبيتٌ لازدواجية الفكر السوفييتي الشمولي، وعلم النفس العبودي، والكذب المتغلغل في جسد المجتمع السوفييتي كلِّه. ومع أنّ كلمة "المجتمع" قيلت، فإنّها لم تكن "واقعية نقدية": ليست القضايا الاجتماعية هي من يلعب الدور الرئيسي لدى ناغينين، بل هي على الأرجح قضايا ميتافيزيقية. إنّه تفكير بالحالة الذاتية للشخص، والاستحالة المحزنة للانسجام مع مهمةٍ بعيدة عن ذاته.
يبدو ناغينين في هذه القصص غير الكاتب الذي عرفناه من قبل، فهو أوسع أسلوباً، وهو يحطِّم البنية المعتادة، ويستخدم بمهارةٍ جمال النبرة والنغم، مستمتعاً بأجواء الحرية الإبداعية المتاحة أمامه. كان تحوّل الكاتب المذهل سيبقى لغزاً يحيّرنا، لو لم يظهر في ما بعد كتابه "اليوميّات"، حيث تمتّد وقائعه على مدى عقودٍ، من 1942 - 1986. وتحديداً في "يوميات"، تعلّم ناغينين "السويّ" أن يكون ناغيبين "غير السويٍّ"، فقد درس بإصرار، ودون كللٍ، وباندفاع. تعلّم أن يكون حرّاً.
نكتشف ناغينين آخر مختلفاً، ناغيين الذي عاش دوماً على هامش ناغينين الظاهريّ، مختبئاً في مكانٍ ما خلفه، ولم يظهر في أيّ مكانٍ في منتصف الثمانينيات. فمن هو "ناغينين الظاهريّ" الخارجيّ؟ أهو محظوظٌ تمكّن من العيش مرتاحاً في ظروفٍ أتيحت له؟ إنّه سليل عائلةٍ أدبية، فزوج أمِّه الثاني (مارك ليفينتال، الذي عانى كثير من القمع، وأنهى آخر أيامه في المنفى)، أصبح بدرجة ما كاتباً معروفاً باسم يعقوب ريكاتشوف، الذي عانى بعض الشيء في ثلاثينيات القرن الماضي (قضى سنة واحدة في السجن) ، وكان أحد المقربين من بلاتونوف(**)، وهو إنسانٌ، إن صدّقنا ناغينين، يتمتّع بحسٍّ مرهف تجاه الكلمة الفنية. أول إصداراته كانت وهو في العشرين من عمره، وفي سنّ 22 عاماً نال عضوية اتحاد الكتاب. أصيب بالصدمة مرتين على جبهات الحرب، ولكنّه نجا وعاش. كان مزواجاً (فقط 6 زيجات رسمية)، كلّ زوجاته كنّ جميلاتٍ، ومن النخبة السوفييتية. كان ديندي (ناغينين) متأنقاً بعض الشيء، مولعاً بالشراب، وضيفاً دائماً على النوادي الأدبية. لديه كثير من الكتب، وتعويضاتٌ سخيّة لقاء سيناريوهات الأفلام (وصفه بعضهم بقرصان أفلام، مع أنّه شارك في خلق فيلم "الرئيس" الشهير، وأفلام أُخرى، وهذه ليست بالأفلام المقرصنة، إذ كان بينها "الخيمة الحمراء"، و"ديرسو أوزالا"، و"مملكة النساء"، و"أيّها الضباط.. إلى الأمام!"). امتلك ناغينين منزلاً فخماً، وجاب العالم برحلاته، ولم يكن ضيفاً نادراً على شاشات التلفاز. كان مهتماً، فوق العادة، بمتعته الخاصّة، ويتحدث تارة عن ليسكوف، وأُخرى عن ليرمنتوف.
في الوقت نفسه، كان يختبئ وراء هذه الخلفية الجميلة إنسانٌ تعيسٌ للغاية، وجد متنفساً في كتابة "يومياته"، حيث لم يكن عليه الظهور في الضوء بكامل أناقته. و"المتنفّس" هي عموماً كلمةٌ دالّةٌ في العهد السوفييتي المتأخِّر. استطاع ناغيبين من خلال هذا المتنفّس أن يلتقط أنفاسه،

ويصرخ بصوت سمعناه عام 1995 فقط، عندما أصبحت: "اليوميات" كتاباً حقيقياً بالفعل. فيه صراخ، عواء، وشكوى. في ما بعد، حمّل النقادّ المتأخرون ناغيبين الذنب في هذا، وكأنّ ناغيبين استشعر هذه الاتهامات، فاستبقها بكشف صفاته الذاتية، متسائلاً عمّن سيحتاج هذه المدونات بكلّ ما فيها من: "أنينٍ، دموعٍ، غضبٍ... ونبشٍ لأغوار الذات". واستمرّ في كتابة اليوميات، غير وجلٍ من "عدم التحيّز في مواجهة الأبدية"، ليندب مرّة بعد مرّة عالماً لم يصله الكمال بعد، وفساداً لا شفاء منه تنخر الطبيعة البشرية. "أين ذهبَ الناس؟": بهذا السؤال الرهيب تكتمل سجلات عام 1985. تصبح هذه الصرخة مزعجةً في بعض الأحيان، عندما يتحوّل الكاتب إلى عويلٍ بشأن عدم سماح عرضيٍّ بالخروج من البلاد، أو عندما يتحول إلى تقييمٍ لئيمٍ آخر لأحد زملاء المهنة. يصبح الغضب رتيباً للغاية، ويتجاوز الحدود المسموحة.
فهل استطاع ناغيبين الابتهاج يوماً ما؟ نعم، استطاع. ففي كثير من مؤلفاته، كان يصف الطبيعة بعبارات تفيض رقّة هادئة. وفي قصتّه عن حبّه الأوّل لـ(بيلا أحمدولين)، التي عاش معها ناغيبين ثماني سنواتٍ، وأخفاها في "يوميات" باسمٍ مستعار شفاف (جيلا)، نجد واحدةً من أجمل الصفحات الشاعرية في كلّ الأدب الروسيّ. "كلّ شيءٍ حولنا فقد أصالته، وأصبح كلّ شيءٍ انعكاساً لكِ، ويُرى من خلالك... كلّ شيءٍ أصبح ينضح، ليس بآلامه، بل بألمكِ أنت: المرض مميت، والشفقةٌ على مخلوقاتٍ عزيزة، الوحوش، الطيور، والأشياء على سطح المكتب....".
كتب ناغيبين كثيراً من الأشياء التي لا يمكن أن يتذكرها المرء مهما حاول. في كثيرٍ من الأحيان، كتب نثراً مقطّراً "مبرّداً"، وصحيحاً للغاية، غير أنّ ما سيبقى طويلاً في الأدب الروسيّ: هو هذه الـ"يوميات" الحادّة بصراحتها، في آخر كتبه التي لا تعرف الخوف، حيث وجد الكاتب فيها أخيراً موضوعه الرئيسيّ ونبرته الصافية.

 

هوامش:
ــ انتفاضة أنتونوفشين" (1920-1921): نسبة إلى قائد الانتفاضة التي قامت في مقاطعة تومبوف أثناء الحرب الأهلية. وكانت انتفاضة فلاحين ضدّ السلطة الشيوعية العسكرية الجديدة، والانتقال إلى سياسة لينين الزراعية (نيب). انتهت بانتصار البلاشفة وسحق الانتفاضة.
ــ بلاتونوف: كاتب كلاسيكي روسي/ سوفييتي، شاعر وفيلسوف ومهندس. معظم كتله كانت محظورة بسبب مواقفه من التعاونيات وغيرها من المشاريع الستالينية.
 

عنوان المقالة الأصلي: Дожить до исповеди
رابط المقالة:  https://lgz.ru/article/-13-6731-01-04-2020/dozhit-do-ispovedi/
عن صحيفة: ليتراتورنايا غازيتا.

ترجمها عن الروسية: سمير رمان.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.