}

تاجر الرقيق وحركة "حياة السود مهمة".. صراع بين تمثالين

تغطيات تاجر الرقيق وحركة "حياة السود مهمة".. صراع بين تمثالين
السلطات أزالت تمثال الناشطة جين ريد

شهدت مدينة بريستول، على بعد 195 كيلومترا جنوب غربي لندن، أحداثا متلاحقة ضمن حملة عالمية لمناهضة العنصرية، وذلك عقب مقتل الأميركي جورج فلويد. وبدأت بإزاحة تمثال تاجر الرقيق إدوارد كولستون البرونزي، البالغ ارتفاعه 5.5 متر (18 قدمًا) عن قاعدته المستقر عليها منذ عام 1895، حيث قام المحتجون في 7 يونيو/ حزيران بدفعه إلى أرصفة السفن، وإلقائه في ميناء بريستول، وتم استبداله في غضون أيام بتمثال لجين ريد، إحدى ناشطات حركة "حياة السود مهمة" دون إذن من سلطات المدينة، ما تسبب بموجة من الغضب وانقسام الرأي في بريستول، وإزالته بعد 24 ساعة فقط من تثبيته على قاعدته.

تاجر رقيق أم فاعل خير
تعتبر مدينة بريستول أحد أهم مراكز الثقافة في إنكلترا، وتشتهر بصناعة الأفلام والموسيقى، وكانت من إحدى المدن المتنافسة على لقب عاصمة أوروبا الثقافية لعام 2008 قبل أن تحصل ليفربول على هذا اللقب. في تلك المدينة ولد كولستون عام 1636، وقام بأعمال خيرية جعلت اسمه يتغلغل في أرجائها، فإلى جانب التمثال، هناك مدرسة كولستون المستقلة، وقاعة الحفلات الموسيقية "كولستون هول"، وبرج كولستون، وشارع كولستون وجادة كولستون، على الرغم من حقيقة أنه لم يعش فيها بعد أن أنهى دراسته، حتى تجارته في الرقيق تمت خارج مدينة لندن.
وفقا للغارديان البريطانية، نشأ كولستون في عائلة ثرية تعمل بالتجارة في بريستول، وعمل بتجارة المنسوجات والصوف، وفي عام 1680 انضم إلى الشركة الملكية الأفريقية (RAC) التي كانت تحتكر تجارة الرقيق في غرب أفريقيا. وكان يترأسها رسميًا شقيق الملك تشارلز الثاني الذي تولى العرش في وقت لاحق باسم جيمس الثاني. وهي الشركة التي قامت بوسم العبيد - بمن فيهم النساء والأطفال - على صدورهم بالأحرف الأولى من RAC.
ما بين عامي 1672 و1689، باع حوالي 100.000 شخص من غرب أفريقيا في منطقة البحر الكاريبي والأميركتين، ومن خلال هذه الشركة جمع كولستون معظم ثروته، مستخدما الأرباح لينتقل إلى الإقراض المالي؛ فباع أسهمه في الشركة إلى ويليام، أمير أورانج، في عام 1689 بعد أن نظم الأخير الثورة المجيدة واستولى على السلطة من جيمس في العام السابق.
في تلك المرحلة من حياته، سلك طريقا مختلفا تماما، باعتباره فاعل خير، فتبرع من ماله الذي جمعه من تجارة الرقيق لصالح الأعمال الخيرية مثل المدارس والمستشفيات. وعمل لفترة وجيزة نائبًا عن حزب المحافظين قبل أن يموت في مورتليك، ساري، في عام 1721، ويدفن في كنيسة القديسين في بريستول.

 

تمثال إدوارد كولستون (جوليا سبادافورا/Getty) 


















كولستون لا مكان له
بعد أعوام من الجدل بشأنه، ذهب بعض النشطاء إلى أن علاقته بتجارة العبيد تستلزم إعادة تقييم لمساهماته الخيرية في المدينة. وفي عام 2018 توصلوا إلى قرار يقضي بتغيير لوحة التمثال لتتضمن تنويها بنشاطه في تجارة الرقيق، غير أن الصياغة النهائية لم يتم الاتفاق عليها.  بينما جاء في بيان أخير جمع آلاف التوقيعات أنه "لا مكان له" في هذه المدينة.. فهؤلاء الأشخاص الذين استفادوا من استرقاق البشر لا يستحقون شرف وضع تمثال لهم.. يجب أن يُحفظ هذا لأولئك الذين يُحدثون تغييرًا إيجابيًا والذين يناضلون من أجل السلام والمساواة والوحدة الاجتماعية... هذه المدينة المتنوعة والمتعددة الثقافات لا ينبغي أن يمثلها تاجر رقيق"؛ في الوقت الذي سعت متاحف بريستول إلى توضيح سبب بقاء تمثال كولستون في المدينة قائلة على موقعها على الإنترنت إن "كولستون لم يكن، على حد علمنا، يتاجر بالأفارقة المستعبدين لحسابه الخاص، ما نعرفه هو أنه كان عضوًا نشطًا في الهيئة الإدارية لـشركة RAC، التي كانت تتاجر في الأفارقة المستعبدين لمدة 11 عامًا".



سياسة الأمر الواقع
مع بزوغ فجر الأربعاء الماضي، قبل الخامسة صباحا، وصلت شاحنتان مع فريق عمل مكون من عشرة أشخاص، لنصب تمثال ريد بأقصى سرعة ممكنة تحت إشراف النحات مارك كوين، الذي استلهم منحوتته من صورة التقطت لريد وهي تقف على القاعدة وترفع قبضتها بعد أن أطاح المتظاهرون بتاجر عبيد القرن السابع عشر. وفي غضون خمس عشرة دقيقة كانت الشاحنتان تغادران المكان بعد تنصيبه بالفعل، يقول كوين "إن إجراءات وضع التمثال سارت على نحو رائع، عكس ما تخيلته، لأنني تخيلت أنه سيتم إيقافه".
وقفت ريد بعد رحيل الشاحنتين أمام التمثال بقبضتها مرفوعة في الهواء، تقول "هذا أمر لا يصدق، إنه في غاية الشجاعة، إنه كذلك". مضيفة: "إن أعظم لحظة في الصباح هي رؤية الأطفال وهم يقفون بجانبه رافعين قبضاتهم. الأطفال السود والأطفال البيض معا".
بحلول الصباح، كان الحضور الوحيد للمجلس هو عربة كنس الشوارع، التي توقف سائقها لالتقاط صورة مع التمثال قبل أن يستأنف نوبة عمله. وبينما كانت سانا برتيلسون، تمر بدراجتها، قامت بجولة أخرى حين رأت التمثال وتوقفت لتتأمله قائلة: "لم أكن أعلم أنهم سيبدلونه. إنه جميل للغاية". والتقطت صورة له قبل أن يزيلوه، بعد أن علمت أنه وضع هنا دون الحصول على إذن.
وصلت ابنة جين ريد، ليلى ريد، بدورها وحدقت في التمثال: "إنه أمر لا يصدق.. إنه سريالي. من عظمة الركبة إلى شكل يديها. إنها هي بالضبط".
أما كوين - الذي تشمل أشهر أعماله الصورة الذاتية "رأس الدم" ونحتًا لفنان يحتل مؤقتًا القاعدة الرابعة في ساحة ترافالغار، أليسون لابر بريجنانت - فقال إنه يعتبر ذلك واجبًا على الفنانين البيض البارزين لتضخيم الأصوات الأخرى: "ألهمتني جين النحت عندما وقفت على القاعدة ورفعت ذراعها في الهواء.. والآن نحن نكسوه بالبللور".
وحين سئلت ريد عما إذا كانت هناك مشكلة من وجود فنان أبيض خلف هذا العمل قالت: "إنه ليس سؤالًا حتى. إذا كان لدينا أنصار، لا يهم ما لونهم. لقد قام بشيء ما لتمثيل حركة حياة السود مهمة، وليظل الحوار مستمرا".



ردود فعل متباينة
في أسفل قاعدة التمثال، وُضعت لافتة من الورق المقوى، كُتب عليها "حياة السود ما تزال مهمة"، وإلى جانبها وضع البعض لافتة تقول: "مارك كوين يحب المال، وليس السود". بعض الردود جاءت إيجابية؛ منها تغريدة للكاتبة برناردين إيفاريستو على تويتر، إن "بعض الناس سيجدون ذلك التمثال هجومي / صارخ/ مهدد" لكنها تعتقد أنه "رائع". وقال المهندس بوبي لويال: "إنها إضافة رائعة حقًا لمركز بريستول.. آمل فقط ألا يحاول أحد إزالته. التمثال السابق كان مسيئًا لكثير من الناس، لا أعتقد أن هذا مسيء لأحد. أعتقد أن المجلس يجب أن يتركه في مكانه".
لكن الشرطة تفاجأت بالتمثال في مكانه بقبضته المرفوعة في الهواء، وصرحت بأنها لم تتلقَ أية شكاوي، وأن "الأمر يخص مجلس مدينة بريستول". فأصدر مارفن ريس، محافظ المدينة، بيانًا قال فيه إن "مستقبل القاعدة وما يتم وضعه عليها يجب أن يقرره سكان بريستول وإن التمثال "لم تتم المطالبة بتنصيبه ولم يؤذن له بذلك". لكنه لم يصل إلى حد قول إن المجلس سيعمل على إزالته.
أثار التمثال جدلا واسعا حول فن النحت في المملكة المتحدة في هذا اليوم، وفي يوم 16 يوليو/ تموز قامت السلطات بإزالته ولم يمر على تنصيبه سوى 24 ساعة، وصرحوا بأن التمثال "سيوضع في متحفنا في حال أراد الفنان استرجاعه أو التبرع به لمجموعتنا". كما قاموا بإخراج تمثال كولستون من الميناء وأعلنوا اعتزامهم وضعه في متحف، إلى جانب لافتات من حركة "حياة السود مهمة".
يلخص ريس لـ"بي بي سي" الموقف قائلا: "الأمر لا يتعلق بإزالة تمثال جين، إنها امرأة مثيرة جدا للإعجاب.. بل يتعلق بإزالة تمثال لفنان مقيم في لندن جاء ووضعه دون إذن.. والقرار بشأن ما ينبغي أن يوضع بدلا عن تمثال كولستون لا بد أن يتخذه أهالي مدينة بريستول".

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.