}

في رحيل خوسيه مانويل كاباييرو بولاند.. الشاعر العاصي

ميسون شقير ميسون شقير 11 مايو 2021
تغطيات في رحيل خوسيه مانويل كاباييرو بولاند.. الشاعر العاصي
(خوسيه مانويل كاباييرو بولاند)

انطفأ يوم الأحد في مدريد وإلى الأبد، الصوت العاصي للأديب خوسيه مانويل كاباييرو بونالد، أحد أبرز الشعراء الإسبان المعاصرين، عن عمر يناهز 94 عامًا، وبهذا الرحيل يخسر العالم شاعرًا كبيرًا ومتفردًا يوصف بأنه "النصب التذكاري الإسباني للشعر" وراوي القصص من مدينة خيريث، الحائز على جائزة سرفانتس في عام 2012، تاركا وراءه إرثًا لشاعر وروائي وباحث بمرارة عن العمق في كل ما يعيش ويرى ويسمع.

كان خوسيه مانويل كاباييرو بونالد أحد أذكى معلمّي لغة سرفانتس في العقود السبعة الماضية، والأهم أنه كان شاعرًا طاعن الذكاء والاختلاف، وسياسيًا طاعن الجرأة والقدرة على المقارعة، ومدافعًا شرسًا عن كل القضايا العادلة وعن المضطهدين في هذا العالم الأعور. مثلما كان عالمًا في موسيقى الفلامنكو وكاتب مقالات جدلية، وموسيقيًا وكاتبًا يرى في الكاتب الإسباني الأشهر في العالم سرفانتس "معلمّه الأول، ومرشده ومرآته المستمرة"، وكان دائمًا عاصيًا وغير مطيع لأية أطر تحكمه، مثله مثل مؤلّف دون كيشوت، حيث صرّح بشكل علني: "أنا عاصٍ مثله، ومثل كل أولئك الذين يؤلفون أدبًا عظيمًا ضد كل الأعراف أو التقاليد والأفكار مسبقة الصنع". وهو الذي قال بإعجاب في اليوم الذي فاز فيه بأفضل جائزة إسبانية "هناك حاجة إلى مزيد من العصاة". وكان معارضًا للرسمي في كل شيء، وعاشقًا للعفوية وللدفء والشعر الأندلسي، ومسافرًا خاليًا من التعب.


كان حلم خوسيه مانويل كاباييرو بونالد أن يصبح عالم رياضيات، لذا فقد درس علم البحار، ودرس أيضا علم الفلك وقد كان يشعر كما صرّح دائما "بمتعة جمالية هائلة" مع مسائل الرياضيات، معتبرًا أن "أن الشعر هو مزيج من الموسيقى والرياضيات". برحيله نخسر الشاعر الذي نظر إلى الحياة من خلال أشعاره، فقد رحل مصمّم اللغة وصاحب لغة الباروك الغنية. رحل العاشق للذاكرة المفقودة، للمشاهد المستعادة، للعبارة الدقيقة، والذي لا يتوقف عن إدهاش القارئ عند كل سطر كتبه. رحل الذي قال عند تسلّمه لجائزة سرفانتس للآداب أنه لم يكن ليتسلّمها لولا تلك الكتب التي قرأها قبل أن يبدأ في الكتابة، مصرّحًا: "هناك شيء يجب أن لا ينسى: اليقين بأنني أصبحت كاتبًا لأني قرأت الكتّاب الذين فتحوا لي الباب، الكتّاب العظماء الذين أغنوا إحساسي، الذين حرّضوني على استخدام نفس الأداة التي يستخدمونها لتفسير الحياة، وعلى تعلم فكّها. وأنا أدرك أن سيرتي الذاتية الأدبية تعتمد على الكتب التي كتبتها ولكنها تعتمد أكثر على تلك التي قرأتها، فلولا أستاذ الأدب المثقف والحنون الذي درّسني عندما كنت في السنة الرابعة من المرحلة الاعدادية، والذي زوّدني بنوع من الأزهار التي صنعها من قبلي، لما كنت الآن أتسلّم هذه الجائزة".

كُتبت قصائد كاباييرو بونالد للتعبير عمّا لا يوصف، وعمّا لا يزال يتعيّن قوله، وعمّا يحدث في مناطق العقل القوية، عن الذهول، وعن الرفض، وعن عدم الراحة، عن التمرّد، والدهشة، وعن الحب. إنها تنبثق من مفهوم الشعر الذي لا يقبل التعصّب الواقعي. وكما يؤكّد لويس أنطونيو دي فيلينا، فإنها تصل إلى أنفاسها الطبيعية، وتدفّقها العميق، من خلال تشويه وزعزعة السائد.

الليل والبحر هما أهم رموز قصائده المفضلة. وأيضًا التفاوت الغامض الذي ينقل التجربة إلى اللغة، وهذا ما يجعل شعره يتجلّى في صورة خيالية مليئة بالحيوية. إن فكره الغنائي وهذياناته هي عكس الحياة الطبيعية، وهذا ما يجعل القصيدة ممارسة غير مسبوقة، وعبورًا لا يمكن التنبؤ به، يلغي تفاهة العالم، ما يجعل كتاباته حاضرة وحديثة وقريبة. ويجعلها دعوة للتفكير بشكل مختلف، مثلما تشكل دعوة لنشعر دون خوف بديناميت العواطف والسخط .

يدين شاعرنا بالكثير من قوته التعبيرية لأشعار وموسيقى ورقص الفلامنكو، ويعتبر أن ذلك ما جعله لا يفقد السهولة الجميلة للبحث بشكل أعمق في الأشياء، ولينسج ويفكّك هويته، شياطينه، هذيانه، شكوكه الدائمة، عواطفه، وخفّته الهائلة؛ وبهذا الشك الدائم المنتظر غمرنا الشاعر بالأصالة. نعم إن كاباييرو بونالد هو الكاتب الذي كان "عاجزًا عن الكتابة بشكل سيء" ، كما اعترف دون تواضع زائف.

ولد كاباييرو بونالد في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1926 في مدينة خيريث دي لا فرونتيرا التابعة لمقاطعة قاديش ذات الأصول الأندلسية والواقعة في جنوب إسبانيا، لأب كوبي وأم منحدرة من الطبقة الأرستقراطية الفرنسية، ودرس الفلسفة والآداب في جامعتي مدريد وإشبيلية وانتقل بعد ذلك إلى كولومبيا لتدريس الأدب الإسباني، جامعًا بين عمله الأدبي والتعليم.

ينتمي إلى شعراء جيل الخمسينيات، حيث بدأ يسطع ضوؤه كشاعر في عام 1948 في أول مجموعة شعرية، ثم جاءت مجموعة التكهنات (1952)، وبعدها ذكريات وقت قصير (1954)، ثم أنتيو (1956)، والساعات الميتة (1959)، وصفائح الخيط (1963)، وتشويه البطل (1977)، ومتاهة الحظ (1984)، ويوميات أرجونيدا (1997)، ودليل المخالفين (2005)، والليل بلا جدران (2009).


طوال حياته المهنية، حصل على معظم الجوائز الأدبية العظيمة في إسبانيا، بما في ذلك جائزة النقاد ثلاث مرات. وفي عام 2004 حصل على جائزة رينا صوفيا للشعر الأيبيري الأميركي عن عمله ككلّ، وفي العام التالي حصل على الجائزة الوطنية للآداب الإسبانية، لكن التكريم النهائي جاء في عام 2006 مع جائزة الشعر الوطنية عن عمله "دليل المخالفين"، وهي مجموعة قصائد وصفها المؤلف بأنها "اعتذار عن العصيان". في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 حصل على جائزة سرفانتس، وهي أعلى جائزة للأدب الإسباني.

أما كروائي فقد كان إنتاج كاباييرو بولاند نادرًا ولكنه مهم من حيث السرد الاجتماعي. ومن أبرز رواياته "يومان من سبتمبر" التي فازت بجائزة مكتبة الروايات القصيرة في عام 1961. كما كان كاتب مقالات غزير الإنتاج، ومن أهم مقالاته: "الرواية الكوبية في الثورة" (1968)، "ضوء غونغورا" (1982)، "ضوء وظلال الفلامنكو" (1975)، و"إشبيلية في زمن سيرفانتس" (1991). في عام 1995 نشر الجزء الأول من مذكراته بعنوان "زمن الحروب الضائعة"، وتم تنقيحه مرة أخرى في عام 2004، وفي عام 2010 نشر الجزء الثاني بعنوان "عادة المعيشة".
وفي عام 1998 تم إنشاء مؤسسة كاباييرو بونالد، ومقرّها في المنزل الذي ولد فيه الشاعر.

أثبت كاباييرو بونالد نفسه بمرور الوقت كمواطن صاحب دعوة تمرّد والتزام مدني وتجسيد سياسي. فمنذ سنواته الجامعية الأولى في إشبيلية، حيث درس الفلسفة والأدب، تبنّى التزامًا سياسيًا حافظ من خلاله على روابط نشطة للغاية مع كل الجمهوريين واليساريين ضد الفاشية الإسبانية. ودافع عن العدالة وعن قوة الشعر "المعزِّية" في مواجهة الاضطرابات والإحباط الذي قد يجلبه التاريخ، مثلما يجلبه الحاضر المليء بالحروب والعنف، وجادل دائمًا بأن "الشك وعدم اليقين هما مكوّنان لا مفرّ منهما في التفكير النقدي؛ ومن ليس لديه شك مات".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.