}

كيف تكون عبقريًا؟ نبش في أرشيف العالم

كريغ رايت كريغ رايت 26 مايو 2021

 

[سافرتُ عبر العالم وبحثتُ في أرشيفه لأنبش الدروس المخبأة في سير أكثر البشر ذكاءً عبر التاريخ]

 

لا تسيئوا فهمي؛ نعم، أنا أستاذٌ في جامعة ييل، ولكني لست بعبقري. وعندما ذكرتُ أول مرة لأبنائي الأربعة البالغين أنني سأقوم بتدريس مقرّرٍ جديد عن العبقرية، قالوا إن ذلك هو أطرف شيء سمعوه على الإطلاق. "أنت! أنت لست عبقريًا! أنت مثابر". وقد كانوا على حق. فكيف حدث إذًا أنني اليوم، بعد مضي ما يقارب اثنتي عشرة سنة، لا أزال أدرِّس مقرّرًا ناجحًا في جامعة ييل حول موضوع العبقرية، وأنني كتبتُ "عادات العبقرية الخفية" (2020) الذي بات كتاب اختيار العام على موقع أمازون؟! الإجابة هي هذه: لا بدّ أني أمتلك ما أسماه نيكولا تِسلا "جرأة الجهل".

في أيام الحرب الباردة، بدأتُ حياتي المهنية ساعيًا لأن أكون عازف بيانو في الحفلات الموسيقية. كانت الولايات المتحدة آنذاك تحاول أن تهزم الاتحاد السوفييتي في ألعابه ذاتها. عام 1958، فاز فان كلايبورن، عازف بيانو من تكساس عمره 23 عامًا، بمسابقة تشايكوفسكي الدولية في دورتها الأولى، وهي أشبه ما تكون بأولمبياد الموسيقى الكلاسيكية. ثم تغلّب بوبي فيشر من بروكلين على بوريس سباسكي في الشطرنج عام 1972. أما أنا، ولأني أظهرتُ اهتمامًا بالموسيقى، وكنتُ كذلك طويل القامة مع يدين ضخمتين، فقد كنتُ سأغدو الـ كلايبورن التالي، أو هكذا على الأقل أكدّتْ أمي.

وعلى الرغم من أن عائلتي لم تكن ثرية، تمكّن والداي من منحي بيانو ضخم من نوع بالدوين، وعثرا على أفضل المدرّسين في مسقط رأسنا، واشنطن العاصمة. ثم أرسلاني دون تأخير إلى مدرسة إيستمان المرموقة للموسيقى حيث أتيحت لي، مرة أخرى، جميع الفرص. كانت عندي أيضًا عاداتُ تدريب شاقة: في عمر الواحد والعشرين كنت قد انخرطت في 15 ألف ساعة، وفق تقديراتي، من التمرين المكثف. (لم يحتج موزارت إلى أكثر من إلى 6 آلاف ساعة لينتقل إلى مستوى مؤلف رئيسي وعازف). لكن، وعلى الرغم من كل هذا، عرفتُ في غضون عامين أني لن أكسب قرشًا قط كعازف بيانو في الحفلات. لقد كان كل شيء يجري في مصلحتي ما عدا شيء واحد: كنت أفتقر إلى الموهبة الموسيقية؛ لا ذاكرة موسيقية خاصة، لا تناسق استثنائي بين اليد والعين، لا ملكَة تحديد النغم - كلّ الأشياء التي تعدّ ضرورية للغاية لمؤدٍ محترف.




"إذا لم تكن قادرًا على التأليف، اعزفْ؛ وإذا لم تكن قادرًا على العزف، درِّسْ"- كانت تلك تعويذة المعاهد الموسيقية بما فيها مدرسة إيستمان للموسيقى. لكنْ، من تُراه يريد أن يمضي أيامه في الاستديو ذاته وهو يقوم بتدريس عازفيّ بيانو محتمليّ الفشل مثله؟ هكذا، أملى عليّ حدسي في ذلك الوقت أن أجد لي مجالًا أوسع في جامعة. فانطلقتُ إلى هارفرد لأتعلّم كيف أصبح أستاذًا جامعيًا وباحثًا في تاريخ الموسيقى- مؤرخ موسيقي، كما يسمونه. وعثرتُ، في آخر الأمر، على وظيفة في جامعة ييل كمدرّسٍ يقوم بتدريس الــ باءات الثلاثة: باخ، بيتهوفن، وبرامس. إلا أن المؤلف الموسيقي الأكثر سحرًا الذي صادفتُه هناك كان ميمًا: موزارت. وتعاظم اهتمامي به مع ظهور الفيلم الحائز على جائزة الأوسكار "أماديوس" (1984). إذ بدا العالم كلّه، لبعض الوقت، مهووسًا بتلك الشخصية الطريفة، الشغوفة، والشقية السلوك.

كان فيلمًا إذًا، من بين كل الأشياء، هو ما جعلني أحوّل تركيز بحثي الأكاديمي إلى موزارت. إلا أن المبدأ الأساسي في المعرفة البحثية التي تعلمته في هارفرد بقي على حاله: إذا كنتَ تبحث عن الحقيقة، ارجعْ إلى المصادر الأوليّة الأصلية؛ الباقي مجرد قيل وقال. هكذا، على مدى عشرين عامًا، مضيتُ في البحث حول موزارت في مكتبات برلين، سالزبورغ، فيينا، كراكوف، باريس، نيويورك، وواشنطن، دارسًا مخطوطاته الموسيقية بنسخها الأصلية (أو المكتوبة بخط يده). ووجدتُ حينها أن موزارت استطاع دون عناء أن يتصور مساحات شاسعة من الموسيقى تمامًا داخل رأسه، ومن دون أي تصويباتٍ لاحقة تقريبًا. هكذا، لم يعد ما قاله سالييري عن موزارت في فيلم "أماديوس" يبدو غريبًا: ذاك "كان صوت الله".

أن تمسكَ بين يديك الصفحات المقدّسة لمخطوطاتٍ بخط يد موزارت - حتى لو كنتَ ترتدي القفازات البيضاء المفروضة غالبًا- هو في الآن ذاته شرفٌ ونشوة. الزوايا المتذبذبة لقلمه، الحجم المتغيّر لرؤوس نوتاته، وصبغات الحبر المتنوعة، كل ذلك يعطينا تصورًا عن الكيفية التي يعمل بها عقله. وكما لو كنا مدعوين إلى حجرة موزارت، نراقبُ دخول هذا العبقري، مدعومًا بمواهبه الفطرية الهائلة، منطقةً إبداعيّة، وتدفّقَ الموسيقى بكلّ بساطة.

هل من عبقري آخر عمل مثل موزارت؟ تساءلت. ومرة أخرى، كانت المخطوطات المكتوبة بخط اليد هي ما جذبني. من منّا ليس مأخوذًا بالتصاميم المذهلة لـ ليوناردو دافنشي؛ رسوماته الأولية لآلات مبتكرة وأدواتِ حرب، فضلًا عن لوحاته المسالمة؟ وعلى عكس المخطوطات الأصلية لموزارت، معظم رسومات وملاحظات دافنشي (بقي منها حوالي 6000 صفحة) تم نشرها في نسخ طبق الأصل، والكثير منها متوفرة اليوم على شبكة الإنترنت.

إذا كان موزارت يستطيع أن يسمع داخل رأسه كيف ينبغي للموسيقى أن تمضي، فإن ليوناردو، كما يبدو من رسوماته الأولية، كان يستطيع ببساطة أن يرى بعين عقله كيف ينبغي على الآلة أن تعمل أو كيف يجب على اللوحة أن تبدو. وهنا أيضًا تتبدّى جليّةً براعةُ ليوناردو التقنية الفطرية، كما هو واضح من التناسق الظاهر بين اليد والعين، والذي ينتج عنه نسب صحيحة وخطوطُ رسمٍ متقاطعة توحي بتصور ثلاثيّ الأبعاد. الواضح كذلك هو فضول ليوناردو الدؤوب. فمن خلال هذه الرسومات، نتتبع انتقال عقله عبر آفاقَ لا نهائية من الاهتمامات المترابطة. على إحدى الصفحات، مثلًا، يصبحُ قلبُ إنسانٍ أغصانَ شجرة، ثم تصبح تلك الأغصان بدورها مجسّاتَ بكرةٍ ميكانيكية. كيف يمكن لأشياء العالم المتباينة ظاهريًا أن تترابط؟ أراد ليوناردو أن يعرف. ولذلك كان صائبًا أن دعاه المؤرخ الثقافي كينيث كلارك: "الفضوليّ الأكثر دأبًا في التاريخ".

موزارت في الموسيقى، ليوناردو في الفن؛ ماذا عن عالم السياسة اليومي؟ في هذا المجال، المادة المثالية لدراسة العبقرية هي في متناول اليد: إليزابيث الأولى، ملكة إنكلترا، والتي تحتوي مكتبة بينيك للكتب النادرة والمخطوطات في جامعة ييل مخطوطاتٍ كتبها معاصروها عن كل حدث جرى في عهدها. ما هو سر نجاحها؟ لا تقرأ إليزابيث الكتبَ بنهمٍ وحسب (ثلاث ساعات في اليوم، كانت تلك عادتها) بل تقرأ الناس كذلك. لقد قرأتْ، درستْ، لاحظتْ، وأبقتْ فمها مغلقًا ("أرى وأبقى صامتة"، كان ذلك شعارها). وبمعرفة كل شيء وقول القليل، حكمتْ إليزابيث قرابة خمس وأربعين عامًا، ووضعت أسس الإمبراطورية البريطانية وبضع شركات رأسمالية ناشئة، كما أعطت اسمها لحقبة كاملة، العصر الإليزابيثي.

مذهل! كنتُ أتعلم الكثير. فلمَ لا أجعل تلامذتي يتعلمون معي؟ ففي آخر الأمر، لذلك السبب جعلنا أولئك الشباب يزدحمون في هذا المكان! وهكذا كان المقرّر الذي سأدرّسه عن العبقرية، أو "استكشاف طبيعة العبقرية".

من مؤلفات كريغ رايت 


لماذا يخضع تقدير العبقرية؟

ربما يلزم شخصٌ غير عبقري ليقوم بتحليل كيفية حدوث إنجاز بشريّ استثنائي. خلال السنوات التي قضيتُها في هارفرد وييل، التقيتُ بالكثير من الأشخاص الأذكياء، ومن ضمنهم نصف دزينة من الحاصلين على جائزة نوبل. ولاحظتُ أنك إذا كنتَ أعجوبةً مع موهبة عظيمة في مجال ما، فأنت تستطيع ببساطة القيام بذلك، لكنك قد لا تدرك كيف ولماذا، ولا تطرح أيّ أسئلة. في الحقيقة، بدا العباقرة الذين قابلتُهم منهمكين للغاية بارتكاب أفعال العبقرية حدّ أنهم لا يفكرون بالسبب وراء نتاجهم الإبداعي. إذًا، ربما يكون للغريب الذي ينظر من الخارج نحو الداخل تصوّر أوضح عن كيفية عمل السحر.

سنة بعد سنة، انضمّت أعداد متزايد من طلاب جامعة ييل إلى مقرّري هذا لكي تجد الإجابة. بيد أنه، منذ البداية، حدث شيء غير متوقع، وإن كان حرّيًا بي أن أتوقع حدوثه: تبيّن أن تقدير العبقرية أمرٌ يخضع للتحيز الجنسي.

على الرغم من تساوي نسبة الذكور والإناث بين الطلاب الجامعيين في جامعة ييل اليوم (50/50)، وعلى الرغم من أن مقرّر العبقرية ينطوي تحت فئة الدراسات الإنسانية العامة وهو متاح للجميع، انحرف التسجيل السنوي في ذلك الصفّ إلى حوالي 60/40 ذكور/إناث. عبّر الطلاب في جامعة ييل وكليات الفنون الليبرالية الأخرى عن استيائهم. وبدا، على الرغم من التقييمات الإيجابية للمقرّر، أن النساء في ييل غير مهتمات باستكشاف طبيعة العبقرية بقدر نظرائهن من الرجال.

لماذا؟ تساءلت. هل النساء أقل حماسة للمقارنات التنافسية التي تصنّف بعض الناس على أنهم "أكثر استثنائية" من الآخرين؟ هل هنّ أقل قابلية لتثمين مؤشرات العبقرية التقليدية في عالم قائم على "الرابح يأخذ كل شيء" - أشياء مثل أعظم لوحة في العالم أو الاختراع الأكثر ثورية؟ هل لغياب المرشدات والمثل الأعلى النسائي دورٌ في هذا؟ أو لماذا تدرس النساء مقررًا ستكون القراءات فيه غالبًا، مرة أخرى، عن الإنجازات الظافرة لـِـ"رجال عظماء [بيض غالبًا[؟ هل الطريقة ذاتها التي أطّرتُ بها هذا المقرّر تخلّد، من جديد، انحيازًا لا واعيًا ضد النساء وافتراضًا بتفوقٍ ثقافي للبيض؟

لحسن الحظ، وصل عدد الطلاب المسجلين في المقرّر آخر الأمر إلى 120 طالبًا، وهكذا تمكنت من القيام ببعض الهندسة الاجتماعية. كانت عندي حرية قبول من أرغب بهم، فضمنتُ بذلك نسبة تمثيلية للنساء وطلاب الأقليات. لم تكن غايتي ملء الحصص، بل زيادة التنوع في الآراء وإثارة جدال محتدم؛ أشياءٌ مفيدة على وجه الخصوص في مقرّر لا أجوبة فيه.

"لا جواب! لا جواب! لا جواب!"، هتفَ مئة وعشرون طالبًا متلهفًا في الحصة الأولى من "مقرّر العبقرية"، كما دفعتُهم أن يفعلوا. يريد الطلاب عادة أجوبة يضعونها في جيوبهم وهم يغادرون الصف، أجوبة يستطيعون لاحقًا نثرها على ورقة الامتحان. لكني شعرتُ أنه من الضروري أن أوضّح هذه النقطة منذ البداية: بالنسبة إلى السؤال البسيط "ما هي العبقرية؟" ليس ثمة من إجابة، ثمة آراءٌ وحسب. وبالنسبة إلى سؤال ما الذي يحفّز العبقرية؟ الفطرة أو التنشئة؟ ما من أحد يعرف، كذلك.

لطالما أثار سؤال "فطرة أم تنشئة؟" جدالًا كبيرًا. اعتبرتْ الأنواع الكمية (الرياضيات وتخصصات العلوم) أن العبقرية تعود إلى مواهب فطرية؛ أخبرهم الأهالي والمدرسون أنهم قد ولدوا بموهبة خاصة في الاستدلال الكمي. بينما اعتبر الرياضيون (رياضيو منتخبات الجامعات) أن الإنجاز الاستثنائي يعود كلّه إلى الجهد: لا ألم، لا ربح؛ علّمهم المدربون أن إنجازهم هو نتيجة ساعات تمرين لا تنتهي. وبين علماء السياسة الناشئين، اعتبر المحافظون أن العبقرية هبة من الله، في حين اعتبر الليبراليون أن سببها يعود إلى البيئة الداعمة. لا جواب؟ فلنستدعِ الخبراء إذًا: قراءاتٌ من أفلاطون، وليام شكسبير، وتشارلز داروين، وصولًا إلى سيمون دو بوفوار. لكنْ، كل واحد منهم كانت له/ وجهة نظره/ نظرها الخاصة.

كان الطلاب يأملون بشيء أكثر تحديدًا. أراد بعضهم أن يعرفوا إن كانوا في الأساس عباقرة وما الذي قد يخبئه مستقبلهم. بينما أراد الأغلبية أن يعرفوا كيف بوسعهم، هم أيضًا، أن يغدوا عباقرة. لقد سمعوا أني درستُ العباقرة ابتداءً بِـ لويزا ماي ألكوت حتى إميل زولا، واعتقدوا أني وجدتُ مفتاحَ العبقرية. ولهذا سألتُهم: "من منكم يعتقد أنه في الأساس عبقريّ أو لديه القدرة على أن يصبح عبقريًا؟".

رفع البعض أيديهم بتردّد، وفعل مهرجو الصف ذلك على نحو حاسم. ثم سألتُ تاليًا: "إن لم تكونوا في الأساس عباقرة، من منكم يريد أن يصبح عبقريًا؟" في بعض السنوات، رفع ثلاثة أرباع الطلاب أيديهم. ثم سألت: "حسنٌ، لكن ما هو العبقري بالضبط؟" تحوّلت الحماسة إلى حيرة، ثم تبعها أسبوعان من البحث من أجل صياغة تعريفٍ للعبقري؛ بحثٍ كان ينتهي عادة بشكل من الفرضية التالية: العبقري شخص يتمتع بقدرات عقلية استثنائية، وأعماله أو رؤاه الأصلية تغيّر المجتمع تغييرًا كبيرًا، بالمعنى الإيجابي أو السلبي، عبر الثقافات وعبر الزمن.

أينشتاين



"معادلة عبقرية"

بعد ذلك استطعتُ بالتدريج، وليس قبل أن أكتب كتابي "عادات العبقرية الخفية"، أن أرى أنه يمكن تبسيط هذا الإسهاب المعقد إلى شيء شبيه بــِ "معادلة عبقرية". هكذا جاءت الصيغة التي يتمكن الطلاب وعامة الناس من فهمها مباشرة:

G = S x N x D


Genius=Significance x Number x Duration))

 (العبقرية = الأهمية xالعدد xالمدة).

بحيث أن: العبقرية (G) تساوي أهمية درجة التأثير أو التغيير المنجَز (S) (البنسلين المنقذ للحياة الذي اكتشفه ألكسندر فلمنج مقابل أحدث طراز من أحذية ييزي الرياضية التي صنعها كاني ويست) مضروبة بعدد الأشخاص المتأثرين بذلك التغيير (N) (أُنقذِت حياة حوالي 200 مليون شخص مقابل بيع 280 ألف زوج من الأحذية) مضروبًا بمدّة ذلك التأثير (D) (المضادات الحيوية موجودة منذ حوالي ثمانين عامًا؛ عمر الحذاء يتوقف على مدى استخدامه). على الرغم من أن معادلة العبقرية هذه ليست صيغة مضمونة، كانت هنالك على الأقل طريقة نافعة لتأطير النقاش على مدار فصل دراسي.

اعترضَ بعض الطلاب الأذكياء مباشرة: ماذا عن العبقري الذي يملك القدرة على تغيير العالم، لكنه لا يفعل، نظرًا لعدم وجود الإرادة أو الفرصة؟ لنفترض أن ألبرت أينشتاين عاش على جزيرة مهجورة، وخطرت له فكرة التأثير الكهروضوئي  (E = MC2)، والنسبية الخاصة والنسبية العامة، لكنه لم ينقل أفكاره تلك لأي أحد؛ هل يبقى عبقريًا؟ أو لنفترض أنه نقل أفكاره فقط للاثني عشر شخصًا الآخرين المقيمين في الجزيرة. هل سيكون لدينا أينشتاين العبقري ذاته؟ أو لنقل إنه كان قادرًا على إيصال تصوراته، التي تحمل إمكانية التغيير، للعالم كله، لكن أحدًا لم يرغب أن يتغيّر، ولم يتغيّر شيء. إن معادلة العبقرية تفترض وجود مسبّب وأثر. وكما قال عالم النفس ميهالي كسيسنتميهالي، لكي يحدث الإبداع، يلزم اثنان: مفكر أصيل ومجتمع متلقٍ. سؤال اختيار من متعدّد: هل أينشتاين الموجود وحده على جزيرة مهجورة عبقري، غير عبقري، أو عبقري محتمل؟ هل العرّاف الذي لا يلتفت إليه أحد نبيٌّ صارخ في البرية، أم مجنون؟

بينما كان الطلاب يجاهدون مع هذه المسائل الميتافيزيقية، كانت لديهم أيضًا اهتمامات أكثر دنيوية. ماذا عن كيم كارداشيان؟ قد تكون "عبقرية أعمال تجارية" بسبب قدرتها على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي عبر شبكة الإنترنت العالمية. لكنها لم تخترع شبكة الإنترنت. (اخترعها تيم بيرنِرز لي). ماذا عن الرياضيين مثل مايكل فيليبس، صاحب الرقم القياسي في عدد الميداليات الذهبية الأولمبية، والذي يُعتبر "عبقريّ حركة"؟ لكن من ابتكر الألعاب الأولمبية الحديثة؟ (بيير دي كوبرتان). كذلك، أطلقت الـ"نيويورك تايمز" لقب "عبقريّ دفاع" على بيل بيليتشيك المدرب الفائز لست مرات بالسوبر بول. لكن من اخترع لعبة كرة القدم؟ (والتر كامب). ويدعى يويو ما "عبقريّ موسيقى" بسبب أدائه البديع لموسيقى المؤلفين الكلاسيكيين. لكن من هو العبقري، يويو ما أو موزارت؟ في كلية إدارة الأعمال في جامعة نبراسكا في أوماها مقرّر سنوي باسم "عبقرية وارن بافيت". لكن هل المال (وتجميعه) هو العبقري؟ أو أن المال مصدر تمكين ليُصار إلى استخدامه لاحقًا من قبل عباقرة آخرين حقيقيين؟

بهذه الأسئلة كنت أشجّع طلابي على التفكير. لكنّ الطلاب، بسبب خلفياتهم المتنوعة، كانوا بالقدر ذاته يعلمونني.

هنالك، على سبيل المثال، ما تعلمتُه من الشباب المنحدرين من الأميركيين الأصليين. أتذكر على وجه الخصوص الطلاب من أمة نافاهو وقبيلة شوشوني الذين كانت لديهم طريقة تفكير مماثلة - لكن جديدة كليًا، بالنسبة إلي- عن الإنجاز البشري؛ طريقة يمكن اختزالها بــِ"عبقرية الجماعة". بالنسبة إليهم، المرأة التي صمّمت نقوش البُسط التي تُنسَخ لأجيال كانت عبقرية، لكن أحدًا لم يعرف اسمها. كان في الصف أيضًا الشاب الفائز بالميدالية الأولمبية. وقد اعترف أن سبب إنجازاته، في رأيه، يعود إلى مواهب فطرية، لكن أمه الصينية، كما أخبرنا لاحقًا، اعتقدت أن تلك الإنجازات في أغلبها هي نتيجة جهد وتعب. كذلك، أخبرني بضعة طلاب صينين، كلّ على حدة، أن توماس أديسون لا يزال يحظى بتقدير كبير في بلدهم بسبب قوله المأثور إن "العبقرية هي 1% إلهام و99% بذل جهد". في حين أن العالم المفاهيمي الذكي نيكولا تِسلا الذي ذمّ طرق أديسون الخشبية وغير العلمية، غير معروف كثيرًا هناك.

أخبرني طالب ياباني أيضًا عن قول مأثور من بلده الأم عن "العبقرية المضادة": "المسمار الأكثر نتوءًا، يُدَّق بقوة أكبر". بالمجمل، أبدى الطلاب الآسيويون فضولًا كبيرًا حول العبقرية الغربية بسبب الفكرة الجديدة (بالنسبة إليهم) عن الفرد الواحد المُغيِّر. أما أنا فبتُّ أدرك أكثر فأكثر أن العبقرية بالفعل ثقافية. ويبدو أن فكرة العبقرية الفردية الذاتية ظهرت خلال القرن الثامن عشر، إلى حدّ ما لأنها ناسبت المثال الأعلى الغربي التوسعي الرأسمالي الذي يمكن بموجبه توليد الملكية الفردية، لا سيما الملكية الفكرية، على نحو متزايد ومنحها الحماية القانونية. صحيحٌ أني لم أكن يومًا معارضًا لأي من ذاك، لكني بتُّ الآن، على الأقل، أكثر انتباهًا للأساس التاريخي والتحيّز التاريخي لميولي الفكرية. وهكذا مضى التعليم الذي يقدّمه الطلاب لي.

 

مخطوطات موزارت



مركّبٌ غير مطلق

في آخر الأمر، ما بدأ، بالنسبة إلي، كتصوّر نمطي للعبقري المنمّق - نابغة ذكر عادةً، مع معدّل ذكاء مرتفع جدًا، وكانت له، حتى في سن اليفاعة، رؤى مفاجئة تثير الدهشة، والذي هو مجنون قليلًا ربما، وغريب الأطوار بالتأكيد- تطوّرَ إلى تقييمٍ أكثر رصانة وفلسفيّ أحيانًا.

العبقرية مركّبٌ غير مطلق، مركّبٌ بشري يتوقف على الزمان، المكان، والثقافة. كذلك، العبقرية نسبية. ببساطة، بعض البشر يغيرون العالم أكثر مما يفعل آخرون. بالتالي، العبقرية تفترض مقدّمًا تفاوتًا في النتاج (أفكار أينشتاين الاستثنائية، أو موسيقى باخ) وتُفضي إلى تفاوت في المكاسب (شهرة باخ الأبدية، الثروات الطائلة لجيف بيزوس مؤسس ومالك موقع أمازون). هكذا يسير العالم. يرافق أفعال العبقرية عادة أفعال الهدم؛ ويسمى ذلك عمومًا بالتقدّم.

ما الذي ليس عبقرية صرفة؟ ثمة مبالغة، كما تبيّن، في تقدير اختبارات معدل الذكاء (IQ)، كما في الاختبارات المعيارية الأخرى، درجات الامتحانات، مدارس ومعلمو اتحاد جامعات الآيفي. لم يتمكن ستيفن هوكينغ من القراءة حتى عمر الثامنة، وكان بيكاسو وبيتهوفن غير قادرين على القيام بالعمليات الحسابية الأساسية. جاك ما، جون لينون، توماس أديسون، وينستون تشرشل، والت ديزني، تشارلز داروين، وليام فوكنر، وستيف جوبز كانوا جميعًا أيضًا متدنييّ التحصيل الأكاديمي.

لكن، إذا كانت اختبارات معدل الذكاء مبالغًا في تقدير أهميتها، فحب المعرفة والمثابرة ليستا كذلك؛ ولا امتلاك مخيلة طفولية خلال سن الرشد، أو القدرة على الاسترخاء من أجل السماح لأفكار متباينة بالاندماج إلى أفكار جديدة أصيلة، أو القدرة على تنظيم عادة عمل من أجل الحصول على النتاج كاملًا. أخيرًا، إذا أردتَ أن تعيش حياة طويلة، جدْ لك شغفًا. العباقرة متفائلون شغوفون ويعيشون، وسطيًا، أكثر من عموم الناس بحوالي عقد.

كذلك، كانت نهاية الفصل عادة تأتي بهذا التجلي: الكثير من أصحاب العقول العظيمة، كما تبين لنا، ليسوا أناسًا عظيمين.

تذكروا ذلك السؤال في بداية المقرر: "من منكم يريد أن يصبح عبقريًا؟" ومعه ثلاثة أرباع الطلاب مع ردود بالإيجاب؟

الآن، في الحصة الأخيرة سألتُ: "بعد أن درستم كلّ أولئك العباقرة، من منكم لا يزال يريد أن يصبح عبقريًا؟" والآن، حوالي ربع المجموعة فقط قالوا: "أنا أريد". كما تطوّع واحد من الطلاب وقال: "في بداية المقرّر، اعتقدتُ أني أريد ذلك، لكني الآن لست أكيدًا. فالكثير منهم يبدون أوغادًا مهووسين وأنانيين، وذلك ليس نوع الأشخاص الذي أريده كصديق أو رفيق".

وصلتْ الفكرة: مهووسون وأنانيون. لنأخذ تشارلز ديكنز الذي تقول عنه ابنته كيتي: "كان والدي مثل مجنون... لم يهتم قط بما يحدث لأيّ منا. لا شيء يفوق البؤس والتعاسة التي كانت في منزلنا".

أو لنأخذ إرنست همنغواي الذي قالت عنه زوجته الثالثة، المراسلة الحربية المبجلة مارثا جيلهورن: "على المرء أن يكون عبقريًا عظيمًا ليعوّض عن كونه إنسانًا بغيضًا على هذا النحو". ثم هنالك ستيف جوبز الذي ضمن لنفسه، وفقًا لكاتب سيرته والتر إيزاكسون، مدخلًا فهرسيًا مستقلًا بعنوان: "تصرفات مسيئة". وحتى مدام كوري لم تستحق علامات عالية كأم وفقًا لابنتها إيف كوري: "كان جدّنا لأبينا رفيقنا في اللعب ومعلمنا أكثر بكثير من أمنا التي كانت دومًا بعيدة عن المنزل، محجوزةً دائمًا في المختبر الذي كان اسمه يدوي دون توقف في آذاننا... سنوات شبابي لم تكن سنوات سعيدة".

هكذا، وصلنا إلى نتيجة صفٍّ أخير تصلح للجميع: كونوا حذرين إن كان ثمة عبقري بينكم. وإذا عملتَ لصالح عبقري، اعلم أنك قد تتعرّض للتوبيخ، أو تساء معاملتك، أو قد تخسر عملك. وإذا كان شخص قريب منك عبقريًا، فقد تلاحظ أن عمله/ عملها أو شغفه/ شغفها له الأولوية دومًا. لكنْ، لهؤلاء الذين تُساء معاملتهم، يُجعلون بؤساء، يعاملون كزائدين عن الحاجة، أو يجري استغلالهم ونبذهم، خالصُ شكرنا من أجل "تضحيتكم لأجل المجموعة"؛ مع كون المجموعة هنا نحن جميعًا الذين سنستفيد لاحقًا من الصالح العام الثقافي الذي قام به "عبقريكم". ولأقتبس ما قاله الكاتب إدموند دي غونكور ببعض التصرّف: تقريبًا، لا أحد يحب العبقري حتى يموت/ تموت. لكننا نحبهم آنذاك لأن حياتنا تصبح أفضل بفضلهم.


كريغ رايت (1944-): أستاذ موسيقى فخري في جامعة ييل وعضو في الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم. حاصل على دكتوراه في علم تاريخ الموسيقى من جامعة هارفرد. تركزت أعماله المبكرة حول موسيقى العصور الوسطى، وموسيقى عصر النهضة. آخر كتبه: "عادات العبقرية الخفية: ما وراء العبقرية، معدلات الذكاء، والتصميم- كشف أسرار العظمة" (2020). ولا يزال حتى اليوم يقوم بتدريس "مقرر العبقرية" في جامعة ييل سنويًا.

 

رابط النص الأصلي:


https://aeon.co/essays/what-can-we-learn-from-the-secret-habits-of-genius

 

ترجمة: سارة حبيب.

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.