}

كيف صوّر سكورسيزي قمة المجتمع الأميركي وقاعه؟

محمد بنعزيز 13 ديسمبر 2022
تغطيات كيف صوّر سكورسيزي قمة المجتمع الأميركي وقاعه؟
سكورسيزي (Getty Images, Rome 21/10/2019)

 

صوّر المخرج السينمائي مارتن سكورسيزي، خلال مسيرته التي احتفل مؤخرًا بمرور نصف قرن على انطلاقها، حكايات من قمة المجتمع الأميركي وقاعه بأسلوب سينمائي أوروبي.

يلتقط فيلم "الثور الهائج" (Raging Bull) 1980 اللحظة التاريخية حين منح حكام مقابلة الملاكمة النصر للملاكم الذي سينخرط في الجيش الأميركي بعد أن دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية لإنقاذ أوروبا من نفسها. تجري مقابلات الملاكمة في أجواء مافيوزية. لا تكفي الموهبة والقوة للنجاح، ولا بد من علاقات خطرة للصمود في المدينة العملاقة. بفضل هذا ينتشل الملاكمُ نفسه من القاع. وفي لقطة تشرح كيفية الهروب من القاع صور سكورسيزي حب الأربعينيات الأبيض والأسود والسيارة الفخمة باعتبارها أفضل طُعم لصيد النساء الجميلات. هنا يكتشف المتفرج أن المخرج سكورسيزي يملك نفسًا روائيًا يلتقط عمق التحولات الاجتماعية.

بينما يدخل الملاكم جحيم النجومية الذي يجرف الحياة الشخصية ينتقد الملاكم أسلوب maniérisme سلام زوجته على زعيم العصابة. يُخفي مصطلح Maniérisme حمولة تاريخية فنية تذكر بالرسام الإيطالي كارافاجيو (1571- 1610م) الذي سيسمّى أسلوبه "الجلاء والقتمة" (Chiaroscuro)، ولهذا الأسلوب الدرامي في الرسم حضور قوي في صياغة اللغة البصرية لمارتن سكورسيزي.

بعد ساعة كانت لدى المخرج تفاصيل جديدة ليضيفها. تفاصيل متماسكة مترتبة عما سبق. في النصف الثاني من الفيلم، يكتشف البطل أنه ليس حرًّا، يصير الملاكم الشجاع بيدقًا في يد مافيا الرهانات، وعليه أن يقبل أن تصير زوجته جزءًا من اللعبة.

تندلع أزمة الحياة الشخصية، فالبطل قد "ضيّعه نجاحه" مثل أوديب (تراجيديات سوفوكليس، ترجمة عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 113).

وسيتكرر هذا الضياع بعد تحقق الحلم في أفلام كثيرة لسكورسيزي مثل نجاح البطل ماليا وتدهوره عاطفيًا في فيلم "ذئب وال ستريت" 2013 The Wolf of Wall Street.

تتقاطع وقائع فيلم "الثور الهائج" زمنيًا ومكانيًا مع وقائع فيلم فرانسيس فورد كوبولا "العراب" 1972، كما يتقاطع معه موضوعاتيًا في تقديس العائلة والتضحية من أجلها.

تظهر هنا ثلاث ثيمات ستخترق كل أفلام سكورسيزي: العائلة، العصابات وأزمة الحياة الشخصية حتى بعد تحقيق البطل لأحلامه، بطل يضيعه نجاحه. ولعرض فنه في تناول هذه الثيمات اعتمد المخرج كثيرًا على الممثلين الكبيرين روبير دي نيرو وليوناردو دي كابريو، للقيام ببطولة رجالية مطلقة.

هنا تتقاطع النشأة والتصورات، فسكورسيزي (1942) كاثوليكي إيطالي من صِقلية يصور في هوليوود أميركيين في مغامرات مهاجرين، وزعماء عصابات يُصلون قبل تناول العشاء وفي الصباح يرْكلون من يعترض طريقهم نحو الثروة... هكذا حمل المخرج جينالوجيا أجداده إلى أميركا... هكذا يمكن تلخيص منجز سكورسيزي بمناسبة عيد ميلاده الثمانين.

في الحقيقة يتعذر تلخيص الصرح السينمائي الذي بناه المخرج، وهذه شذرات عنه مستخلصة من مشاهدة أفلام المخرج خلال الثلاثين سنة الماضية.

من أفلام سكورسيزي 


على صعيد اللغة البصرية يقدم جنيريك فيلم "تاكسي درايفر" 1976 Taxi Driver ما يمكن وصفه بأنه قصيدة بصرية بالمعجم النقدي الذي لم يتخلص بعد من اللغة في توصيف ونقد الفنون البصرية. بدأ الفيلم بدخان وضباب يفصل الكاميرا عن ضوء السيارات... بخار، ضوء يتراقص، ليل، يتناوب النور والظلام على وجه السائق... تتداخل الألوان في ليل نيويورك... إضاءة متداخلة توحي بشخصية غامضة... كسر المخرج اللون الأحمر الفاقع في نهاية "تاكسي درايفر".

وهذا يذكر بالألوان في فيلمي "خليج الخوف" 1991 Cape Fear و"كازينو" 1995 Casino. كان اختيار ألوان ملابس الممثل الكبير روبير دي نيرو في فيلم "كازينو" نموذجًا لاحترام تناسق الألوان وفق الدائرة اللونية. لكن هذه الأناقة وهذا الجمال لا يخفيان عُنف الكازينو: في النهار يعلن زعماء الكازينو أن المستقبل زاهر... في الليل، أثناء القمار، لا يرى المقامرون الصحراء الهائلة المحيطة بالمدينة. يزيد المقامر الخاسر من قيمة ما يضعه على الطاولة لعله يسترجع ماله ولا يتوقف إلا حين يخسر كل شيء، وحين يخسر يكتشف حجم الصحراء التي تكاد تبتلع لاس فيغاس.

تعترف إحدى الشخصيات: عندما تحب شخصًا يجب أن تثق به ثقة مطلقة وتسلمه كل مفاتيحك، وحينها ستصير أشلاء في أقرب فرصة لأنك وضعت روحك على طاولة قمار.

وقع هذا لبطل الفيلم الذي عشق شابة فاتنة (أداء شارون ستون).

صور سكورسيزي في فيلم "كازينو" ناس القمة، هناك حيث يباع السياسيون الذين يصوغون القوانين ويُشترون، وبالنظر للأرباح فثمنهم رخيص في كل كازينو.

وفي فيلم قمار من نوع آخر- "ذئب وال ستريت"- يجسد سكورسيزي الرأسمالية المتوحشة وهي تراكم مليارات الدولارات في يد قلة على حساب عرق وبؤس مليارات البشر.

ويعتبر فيلم "عصابات نيويورك" Gangs of New York 2002، المثال الأقوى لتصوير هذا البؤس. تجري أحداث الفيلم عام 1846، يغادر البطل الشاب (أداء ليوناردو دي كابريو) الإصلاحية ويرمي بالإنجيل من فوق الجسر، يقع في يد لصّة مُسلحة بأيقونة مباركة، فيها صورة القديس ميخائيل طارد الأشرار من النعيم... مع هذا العالم من النوايا الحسنة نرى الأيرلنديين البؤساء الأميين يفتك بهم الوطني الجزار (أداء العبقري دانيال دي لويس) من أجل أميركا، في قاع المجتمع.

يصرخ العنصري الأميركي: "عد إلى أفريقيا أيها الزنجي". هكذا يخاطب السود. وبعدها يسدد الوطني الجزار على بورتريه أبراهام لينكولن. كانت هذه استعارة تكثف تاريخ البلاد في لقطة واحدة. يمكن رؤية الكثير من التشابهات في هذه اللقطة بين الجزار المتعصب ضد المهاجرين وبين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي قرر بناء جدار فصل على حدود المكسيك.

لهذه الهجرة في أفلام سكورسيزي عمق تاريخي. في القسم الثالث من كتاب "عصر رأس المال 1848-1875"، يتناول المؤرخ الإنكليزي إريك هوبزباوم ما سماه "حراك الناس" نحو أميركا حتى حل الأيرلنديون مكان الزنوج في خدمة المنازل (ص343): لقد هاجروا هربًا من البؤس ويحفزهم الطموح وتحقيق الأحلام... وقد عملوا في البناء والنقل، وهي مهن زهيدة الأجر لا تتطلب مهارات. هربوا من الجحيم إلى البؤس والانحطاط والدم والقذارة الذين دفعتهم البرجوازية الغربية إليها.
ويقدم الفيلم صورة مريعة عن واقعهم.
للإشارة، فإن سكورسيزي مهاجر من أصل إيطالي يحكي عن مهاجر أيرلندي.
وبعد فيلم عن الأيرلنديين البؤساء الأميين في "عصابات نيويورك" عاد سكورسيزي بفيلم عن أيرلندي غني، متعلم بربطة عنق. لقد ترقى المهاجر في السلم الاجتماعي في فيلم "الأيرلندي" 2019 The Irishman. سينمائيًا كان أشهر أيرلندي في أميركا هو المخرج جون فورد وقد صور ملاكمًا مهاجرًا يعود إلى أيرلندا ليعيش قصة حب (الرجل الهادئ 1952). من جهته حكى كوبولا الإيطالي عن مافيا صقلية ورجع إلى هناك لتصويرها في معاقلها. وهؤلاء مخرجون يحكون عن أصولهم، عن أجدادهم المهاجرين.

مشهد من فيلم "عصابات نيويورك"


إن الهجرة ليست سفرًا. يسافر الأغنياء للمتعة، بحثًا عن الشمس ومياه البحر المالحة، وحين تصير جلودهم سمراء يرجعون. الهجرة هي سفر الفقراء، والفقراء لا يعودون.

تحضر مشاهد الهجرة والعصابات في أفلام سكورسيزي، والعنف مربح في السينما. وقد كتب هوبزباوم: "منذ ستينيات القرن العشرين هيمنت السينما على سوق الترفيه وقد انتقلت من تمجيد قيم العائلة إلى تصوير العصابات وتمجيد المنحرفين الجانحين" (عصر التطرفات، ص 578).

تنتمي أفلام سكورسيزي إلى هذا النمط. وبالنظر للمعارك العنيفة التي يتورط فيها العجزة أبطال فيلم "الأيرلندي" وينتصرون، يبدو لي الفيلم أقرب لرسوم الخوارق من فرط المؤثرات البصرية لتزييف الوجوه وإخفاء شيخوخة روبير دي نيرو. وكأن سكورسيزي الذي انتقد أفلام الأبطال الخارقين يحاول تحويل عجوز إلى مافيوزي خارق.

وتتكرر في أفلام سكورسيزي لمسة العائلة التي يجب أن تبقى موحدة مهما كان الثمن. لو كان ترافيس ينتمي لعائلة لاختلف مصيره في فيلم "تاكسي درايفر". كان دفاعه العنيف عن المراهقة بحثًا عن الانتماء لعائلة. في فيلم "كازينو" يعتبر المس بعائلة المدير خطًا أحمر، في فيلم ""عصابات نيويورك" صار الطفل تابعًا للجزار الوطني لأن الطفل بحاجة لانتماء. وعندما كبر الطفل (أداء ليوناردو دي كابريو) قرر الانتقام لأبيه. حتى تاجر البورصة يحتاج لعائلة في "ذئب وال ستريت". العائلة مقدسة ومحورية في أفلام سكورسيزي "لأن الاحساس بالانتماء إلى الحياة في الكون يحرر الطاقة ويطلق المرح ويحمينا من اللاجدوى الناجمة عن العزلة" (تريفور وايتوك، الاستعارة في لغة السينما، ترجمة إيمان عبد العزيز، مراجعة سمير فريد، المشروع القومي للترجمة، ط1، القاهرة 2005، ص 25).

حين يغيب هذا الانتماء والحماية تتدحرج الشخصية إلى حالة نفسية صعبة. لقد قرر الأعزب الوحيد ترافيس (روبير دي نيرو) أن يعمل سائق تاكسي ليلًا لأنه لا ينام. يخرج كل صباح مرهقًا من قبو عمارة داكن مثل كل قاع (حصل سكورسيزي على السعفة الذهبية في مهرجان "كان" عن "تاكسي درايفر" وكان الروائي تنيسي ويليامز هو رئيس لجنة التحكيم).

هذه نظرة موجزة عن الصرح السينمائي الذي بناه سكورسيزي في أكثر من نصف قرن.

وللإشارة أخيرًا نقول إن لسكورسيزي علاقة قوية بالمغرب. فقد زار المغرب مرارًا كي يصوّر بعض أفلامه أو كي يحضر المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، وعبّر عن إعجابه بفيلم "الحال" 1981 للمخرج المغربي أحمد المعنوني عن المجموعة الغنائية "ناس الغيوان"، وقد رمّم سكورسيزي هذا الفيلم وعرضه في مهرجان "كان" 2007. وحينها صرح المخرج الأميركي أنه شاهد فيلم "الحال" في 1981 حين كان يمر في لحظة أزمة إبداعية. وقد رسخ فيلم "الحال" في ذاكرته، ولذا فإنه بعد ست وعشرين سنة عندما أسس مؤسسة لترميم الافلام بدأ به لأنه ألهمه، بل وحاكاه في فيلمه SHINE A LIGHT عن فرقة الرولينغ ستون في 2008.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.