}

حول محاولات إعادة كتابة التاريخ البشري

وليام ديريسيفيكز 21 فبراير 2022
ترجمات حول محاولات إعادة كتابة التاريخ البشري
ديفيد غريبر في مناظرة مع بيتر ثيل (19/9/2014/Getty)

منذ سنوات عدة، حين كنت أستاذًا مُستجدًا في جامعة ييل، اتصلتُ بزميلٍ لي في قسم الأنثروبولوجيا لأطلب المساعدة في بحث كنت أعمل عليه. لم أكن أعرف أيّ شيء عن الرجل؛ اخترتُه لأنه كان شابًا فحسب، ولذلك قد يكون، وفق تصوري، أكثر ميلًا للموافقة على الحديث.
بعد خمس دقائق من الغداء، أدركتُ أني في حضرة عبقري؛ لا شخصًا بالغ الذكاء وحسب، إنما عبقري (ثمة فارق نوعيّ بين الاثنين). وبدا لي أن الشخص الجالس قبالتي ينتمي إلى مرتبة أخرى من مراتب الوجود، كما لو أنه زائرٌ قادمٌ من بُعدٍ أعلى. لم أكن قد اختبرتُ شيئًا مثل ذلك من قبل. وسرعان ما انتقلتُ من محاولةِ مجاراته، إلى محاولة التشبث، ثم إلى الاكتفاء بالجلوس هناك في ذهول.
كان ذلك الشخص هو ديفيد غريبر. وفي السنوات العشرين التالية لذلك الغداء، كان قد نشر كتابين، سُرِّح من جامعة ييل رغم سجّله الممتاز (وهو إجراءٌ أُرجِع سببه عمومًا إلى أفكار غريبر السياسية الراديكالية). نشر كتابين آخرين، حصل على عمل في كلية غولدسميث في جامعة لندن. نشر أربعة كتب أخرى، منها كتاب "الدَين: الخمسة آلاف سنة الأولى" (2011)؛ وهو عبارة عن تاريخ رزين وتنقيحي يتناول المجتمع البشري منذ عهد الحضارة السومرية، وحتى الوقت الحاضر. ثم حصل على عمل في كلية لندن للاقتصاد، ونشر كتابين آخرين، وشارك في كتابة ثالث، كما أثبت نفسه ليس كواحد من طليعة المفكرين الاجتماعيين في عصرنا وحسب - أصيلٌ على نحو واضح، يتعامل مع مواضيع متنوعة على نحو مذهل، واسع الاطلاع إلى حدّ يفوق التصور ـ بل كذلك كمنظِّمٍ وزعيم فكريّ لليسار الناشط على ضفتيّ الأطلنطي، وله يعود الفضل، من بين أشياء أخرى، في المساعدة في إطلاق حركة "احتلّوا وول ستريت"، وابتكارِ شعارها: "نحن الـ99%".




في الثاني من أيلول/ سبتمبر عام 2020، توفي ديفيد غريبر عن عمر يناهز التاسعة والخمسين جرّاء إصابته بالتهاب البنكرياس الناخر أثناء إجازته في البندقية. جاءني الخبر مثل صفعة. كم من الكتب التي لن تُكتَب خسرنا، فكرتْ؟ كم من الرؤى، كم من الحكمة، ستبقى للأبد طيّ الكتمان؟ وعلى هذا يكون ظهور كتاب "فجرُ كلّ شيء: تاريخٌ جديدٌ للبشرية" حلوًا ومرًّا، هديةً أخيرة وغير متوقعة، وتذكيرًا بما كان ليُنجَز لو لم يمت غريبر. في تقديمه للكتاب، يذكر ديفيد وينغرو، شريكُ غريبر في التأليف، وعالمُ آثار من كلية لندن الجامعية، أنهما كانا قد خطّطا لما لا يقلّ عن ثلاثةِ أجزاءٍ مكمّلة للكتاب.
ويا لها من هدية! بحثٌ ليس أقلّ طموحًا من مزاعم عنوانه الفرعي: "تاريخٌ جديدٌ للبشرية". لقد كُتب "فجر كل شيء" في مواجهة الحكاية التقليدية للتاريخ الاجتماعي البشري، كما قدّمها أولّ الأمر هوبز وروسو؛ استفاضَ فيها مفكرون لاحقون؛ عمّمها أمثالُ جارد دايموند، يوفال نوح هراري، ستيفن بينكر؛ وقبلها العالم بشكل أو بآخر. تجري القصة على النحو التالي: في يوم من الأيام، عاش البشر ضمن عُصَبٍ صغيرة مساواتيّة من الصيادين ـ المُلتقطين (ما يُعرف بـِـ"حالة الطبيعة"). ثم أتى اختراعُ الزراعة الذي أدّى إلى فائض في الإنتاج، ومن ثم إلى ازدياد في عدد السكان، وظهور الملكية الخاصة. تضخمت العُصَب إلى قبائل، وتطلّب الحجم المتزايد زيادةً في التنظيم: تراتبية، تخصيص؛ زعماء، محاربون، ورجال دين.
مع الوقت، نشأت المدن، ومعها نشأت الحضارة: الثقافة، الفلسفة، علم الفلك؛ هرميات الثروة، المنزلة، والقوة؛ الممالك والإمبراطوريات الأولى. ثم يجري الزمن بضع آلاف من السنين، ومع ظهور العلم، الرأسمالية، والثورة الصناعية، نشهدُ نشوء الدولة البيروقراطية الحديثة. إن هذه القصة خطيّة (تُتبَع المراحل فيها على التوالي، من دون رجوع إلى الخلف)، مُوحَّدة (تُتبَع بذات الطريقة في كل مكان)، تقدميّة (المراحل هي "مراحل" في المقام الأول، تتجه من الأدنى إلى الأعلى، من الأكثر بدائية إلى الأكثر تطورًا)، حتميّة (التطور فيها مدفوعٌ بالتكنولوجيا، وليس بالخيار البشري)، وغائية (تبلغ هذه السيرورة منتهاها فينا).



إنها، أيضًا، وفقًا لِغريبر ووينغرو، خاطئة تمامًا. فبالاستناد إلى كمّ كبير من الاكتشافات الأثرية الحديثة من أنحاء العالم كافة، بالإضافة إلى قراءة متعمقة في مصادرَ تاريخية كثيرًا ما يتم تجاهلها (امتدت قائمة المراجع عندهما إلى ثلاث وستين صفحة)، لا يفكّك الاثنان كل عنصر من الحكاية المُتَلقاة وحسب، بل كذلك الافتراضات التي تستند إليها. نعم، كانت هنالك عُصَب، قبائل، مدن، ودول؛ زراعة، تفاوت، وبيروقراطية، لكن ما الذي كانت عليه كلّ واحدة من هذه، كيف تطورت، وكيف انتقلنا من واحدة إلى التالية؛ كلّ ذلك وأكثر، يعيد المؤلفان كتابته من جديد. والأكثر أهمية، أنهما كذلك يقوّضان الفكرة القائلة بأن البشر هم موضوعات سلبية لقوى مادية، وأنهم يسيرون عاجزين على حزامِ سيرٍ تكنولوجيّ نقّال يأخذهم من سيرينغيتي القديمة إلى قسم إدارة شؤون المركبات. في هذا الكتاب، يُظهِر المؤلفان أنه كانت لدينا القدرة على الاختيار، وأننا اخترنا. يقدم غريبر ووينغرو تاريخًا للثلاثين ألف سنة الماضية؛ تاريخًا ليس مختلفًا اختلافًا شاسعًا عن كلّ ما اعتدنا عليه وحسب، بل كذلك أكثرُ إثارةً للاهتمام: تاريخٌ مُحكمٌ، مفاجئٌ، منطوٍ على مفارقات، ومُلهِم.




الجزء الأكبر من الكتاب (أكثر من 500 صفحة منه) يتولّى نقلنا من العصر الجليدي إلى الدول الأولى (مصر، الصين، المكسيك، البيرو). في حقيقة الأمر، يبدأ الكتاب بإلقاء نظرة سريعة على ما قبل العصر الجليدي، وصولًا إلى فجر الأنواع. صحيحٌ أن الهوموسابيان (الإنسان العاقل) تطوّر في أفريقيا، لكن ذلك كان في كلّ أرجاء القارة، من المغرب إلى الكيب، وليس فقط في السافانا الشرقية، كما أنه تطور في هيئةِ مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأشكال المحلية التي لم تندمج بالبشر الحديثين إلا في وقت لاحق. لم تكن هنالك جنة عدن أنثروبولوجية؛ بكلمات أخرى، لم يكن هنالك سهلٌ تنزانيّ عاشت فيه "حواء الميتوكوندرية" وذريتها. وأما بالنسبة إلى التأخر الواضح بين ظهورنا البيولوجي، وبالتالي نشوء قدرتنا المعرفية للثقافة، وبين التطور الفعليّ للثقافة (وهي فجوة مدتها عشرات الآلاف من السنين)، فيخبرنا المؤلفان أن ذلك محض وهم. وكلما بحثنا أكثر لا سيما في أفريقيا (بدلًا عن البحث بشكل رئيسي في أوروبا التي ظهر البشر فيها في وقت متأخر نسبيًا)، ازداد قِدَم الأدلة التي نجدها عن السلوك الرمزي المعقد.
تلك الأدلة، وغيرها ـ من العصر الجليدي، من مجموعات أوراسية لاحقة، ومجموعات لاحقة من الأميركيين الأصليين الشماليين ـ تُظهِر، وفقًا لِغريبر ووينغرو، أن مجتمعات الصيادين ـ الملتقطين كانت أكثر تعقيدًا، وأكثر تنوعًا، مما تخيّلنا. يعرّفنا المؤلفان على مدافن فخمة تعود إلى العصر الجليدي (يُعتَقد أن الزخرفة الخرزية في أحد المواقع تطلبت وحدها عشرة آلاف ساعة من العمل)، بالإضافة إلى مواقع عمرانية تحوي نصبًا تذكارية مثل موقع كوبيكلي تِبه الذي يقع في ما يُعرف اليوم بتركيا، ويعود تاريخه إلى عام 9000 قبل الميلاد (على الأقل قبل ستة آلاف سنة من ستونهنج)، ويحتوي نقوشًا معقدة لحيوانات برية. كذلك، يخبراننا عن موقع "بوفرتي بوينت"، وهو مجموعة تلالٍ ترابية ضخمة ومتناظرة بُنيت في لويزيانا حوالي عام 1600 قبل الميلاد، لتكون "حاضرةً للصيادين ـ الملتقطين بحجم دولة ـ مدينة بلاد الرافدين". كذلك، يصفان مجتمع الشعوب الأصلية الأمازونية الذي كان يتنّقل موسميًا بين شكلين مختلفين تمامًا من التنظيم الاجتماعي (عُصَب صغيرة سلطوية رحّالة خلال الشهور الجافة؛ مستوطنات رضائية بستانية خلال الموسم الماطر). ويتحدثان عن مملكة كالوسا؛ وهي مملكة للصيادين ـ الملتقطين وجدها الإسبان عندما وصلوا إلى فلوريدا. إن كلّ هذه السيناريوهات غير واردة الحدوث ضمن السردية التقليدية.




والنقطة الأكثر أهمية هنا هي أن الصيادين ـ الملتقطين قاموا بخيارات؛ واعية، متعمدة، جماعية، حول الطرق التي أرادوا بها أن ينظموا مجتمعاتهم: أن يقسّموا العمل، يتصرفوا في الثروة، ويوزعوا السلطة. بكلمات أخرى، لقد مارسوا السياسة. بعضهم جربوا الزراعة، وقرروا أنها لا تستحق العناء. آخرون نظروا إلى جيرانهم وقرروا أن يعيشوا بطريقة مختلفة قدر الإمكان؛ وهي عملية يصفها غريبر ووينغرو بالتفصيل عند الشعوب الأصلية في كاليفورنيا الشمالية: "طهرانيون" أسبغوا الصفة المثالية على التوفير، البساطة، النقود، والعمل، بخلاف زعماء الاستعباد المتباهين شمال غربي المحيط الهادئ. إن أيًّا من هذه المجموعات، بقدر ما لدينا من الأسباب لنعتقد ذلك، لم تكن تشبه البدائيين البسطاء في المخيّلة الشعبية؛ هؤلاء الذين يُصوَّرون كسذّج غير واعين بذاتهم عاشوا في نوع من حاضر أبديّ، أو "زمن حلم" متكرر، منتظرين أن تأتي يد الغرب لتوقظهم وتقذف بهم إلى التاريخ.

ديفيد غريبر مع شريكه في تأليف كتاب "فجرُ كلّ شيء: تاريخٌ جديدٌ للبشرية" ديفيد وينغرو 


يمضي المؤلفان قدمًا في هذا المنظور ليصلا إلى العصور التي شهدت نشوء الزراعة، المدن، والملوك. وفقًا لِغريبر ووينغرو، لم تسيطر الزراعة دفعة واحدة، ولا بانتظام، أو بثبات، في المواقع التي تطورت فيها أول الأمر منذ حوالي عشرة آلاف سنة. (كذلك لم تبدأ الزراعة في حفنة مراكز وحسب؛ بلاد الرافدين، مصر، الصين، وسط أميركا، البيرو، وهي الأماكن ذاتها التي ستظهر فيها أوائل الإمبراطوريات، بل بالأحرى في خمسة عشر إلى عشرين مركزًا). كانت الزراعة في بداياتها إجمالًا زراعةً في أوقات انحسار الفيضانات، تجري على نحو موسمي في وديان الأنهار والأهوار، وهي عملية أقل جهدًا بكثير من النوع المألوف، ولا تؤدي إلى تطور الملكية الخاصة. وكان هنالك أيضًا ما دعاه المؤلفان "زراعة على سبيل التسلية": الزراعة كمجرد نشاط واحد ضمن مزيج من أنشطة مُنتجة للغذاء، والتي قد تضم الصيد، الرعي، الجمع، والبستنة.




بكلمات أخرى، لقد سبقت المستوطناتُ الزراعةَ؛ وليس العكس، كما اعتقدنا. علاوة على ذلك، استغرق الأمر نحو ثلاثة آلاف سنة ليتنقل الهلال الخصيب من أولَ استنباتٍ للحبوب البرية إلى إتمام عملية الاستزراع؛ أي حوالي عشرة أضعاف المدة المطلوبة، كما أظهرت التحليلات الحديثة، فيما لو كانت الاعتبارات البيولوجية هي الاعتبارات الوحيدة. كذلك، جسّدت بدايات الزراعة ما دعاه غريبر ووينغرو "إيكولوجيا الحرية": حرية الانتقال إلى الزراعة ومنها، من أجل تجنب الوقوع في شرك متطلباتها أو التعرض لخطر العطوبية البيئية التي تنطوي عليها.
علاوة على ذلك، يكتب المؤلفان الفصول المتعلقة بالمدن معارضيَن فكرة أن أعداد السكان الكبيرة تحتاج إلى طبقات من البيروقراطية من أجل حكمها؛ يؤدي ذلك المعيار حتمًا إلى التفاوت السياسي. إن كثيرًا من المدن الأولى (أماكن فيها آلاف من البشر) لا تظهر فيها أي إشارة إلى وجود إدارة مركزية: لا قصور، لا منشآت تخزين جماعية، لا فوارق واضحة في المنزلة، أو في الثروة. هذه هي الحال في المدن التي قد تكون أقدم المدن في العالم؛ مواقع أوكرانية، مثل تاليانكي، التي لم تُكتشف إلا في السبعينيات، ويعود تاريخها إلى حوالي عام 4100 قبل الميلاد، أي قبل مئات السنين من مدينة أوروك في بلاد الرافدين، التي كانت تُعد أقدم مدينة معروفة. وحتى في "أرض الملوك" تلك، سبق التمدنُ الملكيةَ بقرون. يكتب غريبر ووينغرو أنه حتى بعد ظهور الملوك "كانت المجالس الشعبية ومجامع المواطنين سمات ثابتة للحكومة"، وكانت تتمتع باستقلالية وسلطة فعلية. وعلى الرغم مما نرغب في تصديقه، لم تبدأ المؤسسات الديمقراطية دفعة واحدة، بعد آلاف السنين، في أثينا.
إن الأرستقراطية، إن وجِدت في حينها، نشأت في مستوطناتٍ أصغر، هي مجتمعات المحاربين التي ازدهرت في مرتفعات المشرق وأماكن أخرى، والمعروفة لنا من خلال الشعر الملحمي؛ شكلُ وجودٍ ظلّ في حالة توتر مع الدول الزراعية عبر تاريخ أوراسيا، من هوميروس إلى المغول وبعد ذلك. لكن المثال الأكثر إقناعًا الذي يأتي به المؤلفان عن المساواتية الحضرية هو بلا شك مثال تيوتيواكان؛ وهي مدينة في وسط أميركا زاحمت روما الإمبراطورية، مُعاصرتها، على الاتساع والمهابة. فبعد الانزلاق نحو السلطوية، غيّر شعبها فجأة توجههم، متخلّين عن بناء النصب التذكارية والأضحية البشرية لصالح تشييد مساكن شعبية عالية الجودة. يكتب المؤلفان: "تمتع كثير من المواطنين بمستوى معيشة قلما تحقق نظيره في قطاع واسع من المجتمع الحضري في أيّ فترة من التاريخ الحضري، بما فيها فترتنا".
وهكذا نصل إلى الدولة، وبنى السلطة المركزية فيها، مُمثلة بوجوه عديدة منها الممالك الكبيرة، الإمبراطوريات، والجمهوريات الحديثة التي يُفترض أنها شكلت الذروة، إذا ما استعرنا مصطلحًا من علم البيئة، للتنظيم الاجتماعي البشري. ما هي الدولة؟ يسأل المؤلفان. إنها ليست حزمةَ تدابير ثابتة مستمرة منذ مصر الفرعونية وحتى الوقت الحاضر، بل مزيج متغير يضم، كما يُعدّد المؤلفان، الأشكال الثلاثة الأساسية للسيطرة: ضبط العنف (السيادة)، ضبط المعلومات (البيروقراطية)، والكاريزما الشخصية (التي تتبدى، على سبيل المثال، في السياسات الانتخابية). أظهرت بعض الدول اثنين فقط من هذه الأشكال، وبعضها أظهرت واحدة؛ ما يعني أن اتحاد الثلاثة، كما في الدولة الحديثة، ليس حتميًا (وقد يكون بالفعل، مع ظهور البيروقراطيات العالمية، مثل منظمة التجارة العالمية، مُفكِّكًا). والأهم من ذلك أن الدولة ذاتها قد لا تكون حتمية. لمعظم الخمسة آلاف سنة الماضية، يكتب المؤلفان، كانت الممالك والإمبراطوريات "جزرَ هرميةٍ سياسية استثنائية، مُحاطة بأقاليم أكبر مساحة سكانها... تحاشوا بشكل منهجي نظمَ سلطةٍ ثابتة ومهيمنة".





هل تستحق "الحضارة" العناء؟ يريد المؤلفان أن يعرفا إذا كانت الحضارة ـ مصر القديمة، الأزتك، روما الإمبراطورية، نظام الرأسمالية البيروقراطية الحديث الذي فرضه عنف الدولة ـ تعني خسارة ما يعتبرانه حرياتنا الثلاث الرئيسية: حريةَ عصيانِ الأوامر، حرية الذهاب إلى مكان آخر، وحرية ابتداعِ ترتيبات اجتماعية جديدة؟ أو هل تعني الحضارة بالأحرى "التعاضد، التآزر الاجتماعي، الفاعلية المدنية، كرم الضيافة، وببساطة، الاهتمام بالآخرين؟".
هذه هي الأسئلة التي سألها غريبر خلال حياته المهنية؛ غريبر الأناركي الملتزم، نصير الفوضوية، وليس الفوضى، الفوضوية التي تقول بأنه يمكن للبشر أن يتفاهموا على خير ما يرام من دون حكومات. كتاب "فجر كل شيء" مؤطرٌ بتوصيف ما يدعوه المؤلفان "نقد السكان الأصليين" (أي نقدهم للمجتمع الأوروبي). في أحد الفصول اللافتة، يصف غريبر ووينغرو المواجهة بين أوائل الفرنسيين الواصلين إلى أميركا الشمالية، المبشّرون اليسوعيون بشكل أساسي، ومجموعة من المفكرين ينتمون إلى السكان الأصليين؛ وهم أشخاصٌ ورثوا تقليدًا قديم العهد قائمًا على النزاع والجدال السياسي، وفكروا بعمق، وتحدثوا على نحو قاطع في مسائل مثل "الكرم، المخالطة الاجتماعية، الثروة المادية، الجريمة، القصاص والحرية".
لقد تحوّلت انتقاداتُ السكانِ الأصليين، كما عبّر عنها أولئك المفكرون في نقاشهم مع محاوريهم الفرنسيين، إلى شجب كليّ للمجتمع الفرنسي، وبالتالي، الأوروبي: تنافسه المستمر، ندرة اللطف والاهتمام المتبادل فيه، الجمود العقائدي الديني واللاعقلانية الدينية، وقبل كل ذلك، التفاوت الرهيب فيه وافتقاره إلى الحرية. كذلك، يناقش المؤلفان على نحو مقنع بأن أفكار السكان الأصليين، التي حُمِلت إلى أوروبا وعُمِّمت فيها، ظلّت تلهم حركة التنوير (لقد كانت مُثُل الحرية، المساواة، والديمقراطية قبل ذلك غائبة تقريبًا عن التقليد الفلسفي الغربي، كما يشير المؤلفان). ثم يذهبان أبعد من ذلك، مُقدّمين البراهين على أن التفسير التقليدي للتاريخ البشري، بوصفه ملحمة بطولية لتقدّمٍ مادي، قد طُوِّر أساسًا كردّ فعل على نقد السكان الأصليين، من أجل إنقاذ شرف الغرب. نحن أغنى، بالتالي نحن أفضل حالًا، هكذا سار المنطق. إلا أن المؤلفين يدعوننا لأن نعيد التفكير بما تعنيه "أفضل حالًا" بالفعل.
إن كتاب "فجر كل شيء: تاريخ جديد للبشرية" ليس موجزًا للفوضوية، على الرغم من أن قيم الفوضوية ـ اللاسلطوية، الديمقراطية التشاركية، المشاعية- مُضمنة فيه في كل مكان. إنه، قبل كل شيء، موجزٌ للإمكانية التي كانت ربما، بالنسبة إلى غريبر، أعلى القيم. الكتاب نوعٌ من المعمعة المهيبة، مليء بالاستطرادات الآسرة، الأسئلة المفتوحة، والقطع المفقودة. وهو يهدف إلى أن يستبدل بسردية التاريخ الكبرى المهيمنة، ليس أخرى مُستنبطة منها، بل مخطط تمهيدي لصورة، آخذة بالاتضاح ليس إلا، لتاريخ بشري زاخر بالتجريب السياسي والابتكار.
"كيف علقنا؟" يتساءل المؤلفان؛ علقنا في عالم من "الحروب، الشجع، الاستغلال، واللامبالاة المنهجية إزاء معاناة الآخرين؟" إنه سؤال جيد للغاية. يكتب المؤلفان: "إذا كانت الأمور قد ساءت إلى حد كبير في مجرى التاريخ البشري، فربما تكون قد بدأت تسوء تحديدًا عندما بدأ الناس يفقدون حريةَ تصورِ وسنِّ أشكال أخرى للوجود الاجتماعي". بالنسبة إلي، ليس واضحًا كم من الإمكانيات بقي لدينا اليوم في عالمٍ من الحكومات التي يُعدّ سكانها بعشرات أو مئات الملايين. أما أن نكون "عالقين"، فنحن كذلك بالتأكيد.

وليام ديريسيفيكز: ناقد وكاتب مقالات أميركي. له أكثر من 300 مقالة تُرجمت إلى 18 لغة. عمل مدرّسًا في جامعة ييل، وفي جامعة كولومبيا، قبل أن يتفرغ تمامًا للكتابة عام 2008. حائز على جائزة هايت في العلوم الإنسانية. آخر كتبه: "موت الفنان: كيف يناضل المبدعون لينجوا في عصر الملياردية وشركات التكنولوجية الكبرى" (2020).

ترجمة: سارة حبيب.

رابط النص الأصلي:
https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2021/11/graeber-wengrow-dawn-of-everything-history-humanity/620177

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.