}

"فلسطين: ذكريات 1948".. كاتبة تشيلية تستعيد التاريخ الحيّ للنكبة

فخري صالح 6 فبراير 2022
تغطيات "فلسطين: ذكريات 1948".. كاتبة تشيلية تستعيد التاريخ الحيّ للنكبة
من صور الكتاب


تمثل ذاكرة النكبة الفلسطينية، وما تلاها من تهجير جماعي، وسعي صهيوني محموم لطمس معالم فلسطين وذاكرتها، وتطهير عرقي للسكان، وتدمير لمئات القرى، واستبدال لأسماء المدن والقرى والشوارع، رضَّةً سيكولوجية trauma مروعة بالنسبة لمن ولدوا قبل عام 1948. ولربما تكون هذه الصدمة، والإحساس بالهزيمة، والانخلاع من المكان، والشعور بالعار والذنب وتبكيت الضمير، كامنة وراء رفض كثير من الفلسطينيين، ممن عاشوا في فلسطين قبل النكبة، رواية حكاياتهم، والكشف عن منظورهم الشخصي لضياع الأرض والوطن والهوية. ومع ذلك، فقد أصبحنا نرى خلال السنوات الأخيرة، إلى جانب الدراسات التاريخية، وعمليات التسجيل التاريخي Historiography، العديد من الشخصيات الفلسطينية تكتب مذكراتها، ويومياتها، التي تسرد وقائع النكبة، وتستعيد فلسطين، قبل هزيمة 1948، ووقوع عمليات الطرد الجماعي، والمذابح المتعددة التي نفذتها العصابات الصهيونية، جنبًا إلى جنب وحدات الجيش الإسرائيلي. لكن ما ينقص السرديَّة الفلسطينية للنكبة هو تسجيل التاريخ الشفوي للفلسطينيين، عبر الاستعانة بروايات من عاينوا النكبة من الناس العاديين، أو ممن لم يشاؤوا كتابة مذكراتهم ويومياتهم وحكاياتهم من المتعلمين والمثقفين، خصوصًا أن التاريخ الشفوي، أو التاريخ الصغير microhistory، يكشف عن كثير من الحكايات الشخصية التي لم يسجلها التاريخ الرسمي للسرديَّة الفلسطينية، أو الحكايات الكبرى grand narratives، سواءٌ من قبل المؤرخين الفلسطينيين والعرب والأجانب، أو من قبل المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين أعادوا قراءة الأرشيف الإسرائيلي الذي أتيحت لهم قراءته منذ ثمانينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من قلة التسجيلات الشفوية، أو أعمال استعادة الذاكرة، من خلال فرق عمل من المتطوعين، أو صحافيين ومؤرخين مهتمين برفد السرديَّة الفلسطينية بحكايات الذاكرة الجماعيَّة، فإننا نلاحظ الآن اهتمامًا واضحًا بتسجيل التاريخ الشفوي لفلسطين قبل 1948، كما نشهد اهتمامًا متجددًا بدراسات الذاكرة memory studies بوضع الذاكرة الفلسطينية موضع الاستقصاء والتحليل والكشف. يتوازى مع هذا النشاط البحثي والتسجيل التاريخي، نشاطٌ غزير في الكتابة الروائية والقصصية الفلسطينية التي تسعى إلى استعادة ذاكرة النكبة، والتوليف بين المادة التاريخية، والحكايات الشخصية، للمؤلفين وعائلاتهم، ومن صادفوهم، أو عرفوهم، ممن عاشوا تجربة النكبة، من جهة؛ والتخييل الروائي والقصصي، وتأثيث الكون الروائي والقصصي بما يجعل ذاكرة النكبة حيَّة وفاعلة في استعادة الهوية الفلسطينية وإعادة تشكيلها وبنائها في مواجهة السرديَّة الصهيونية القائمة على محو الفلسطيني والادعاء بعدم حضوره كهوية وتاريخ، من جهة أخرى.




استنادًا إلى هذه الخلفية، وانطلاقًا من جوانب النقص التي تعتري التسجيل الشفوي لسرديَّة النكبة، يمكن النظر إلى كتاب صدر منذ فترة قصيرة بعنوان "فلسطين: ذكريات 1948"- Palestine: Memories of 1948 للصحافية والكاتبة التشيلية، المتخصصة في دراسات الذاكرة، وخصوصًا ذاكرة الأقليات والمغلوبين وضحايا الحروب والتمييز، كريس كونتي Chris Conti. والكتاب هو ثمرة عمل جماعي لباحثين وناشطين في القضية الفلسطينية، ومترجمين ومصورين، وقد صدر حتى الآن بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية، ونشرت النسخة الإنكليزية منه عن دار هيسبِرَس Hesperus Press في لندن (2019)، وتضم سردًا للذاكرة الشخصية لتسعة عشر ناجيًا من النكبة نصفهم من النساء، ونصفهم الآخر من الرجال.
الكتاب، إذًا، يسجل الحكايات الشخصية لبنات النكبة وأبنائها، الذين عاشوا، أو ما زالوا يعيشون، في أرض فلسطين التاريخية، أو في المنافي الكثيرة التي انقذف إليها الفلسطينيون في الدول العربية المجاورة، وصولًا إلى دول أميركا الجنوبية. وهو يضمُّ في الوقت نفسه صورًا لمدينة القدس بعدسة ألتير ألكانتارا Altair Alcantara، وصورًا أخرى بعدسة مؤلفة الكتاب، إضافة إلى صور أرشيفية لفلسطين منذ نهايات القرن التاسع عشر. وتشكل الصور الملونة، وبالأسود والأبيض، جزءًا أساسيًا من صفحات الكتاب، ذي القطع الكبير، في إشارة واضحة إلى تضافر المادة المكتوبة مع الصورة التي تشهد على حضور فلسطين في التاريخ القريب، قبل النكبة، وكذلك حضور العمران، والناس، والعادات، والطقوس، والتقاليد الدينية وغير الدينية، في بلد كان مركزًا للأعمال والتجارة والعمران والفنون، قبل إقامة الدولة الإسرائيلية بقرار أممي مجحف بحق الأكثرية السكانية الفلسطينية، المسلمة والمسيحية، شكَّل في حينه، وحتى هذه اللحظة، أكبر مظلمة إنسانية في تاريخ البشرية.




تتراوح حكايات الكتاب بين المادة المكتوبة من قبل أصحابها (إذ أن عددًا من الشخصيات التي تروي حكاياتها كتابٌّ أو أكاديميون وأكاديميات)، والمادة المرويَّة التي جرت إعادة كتابتها لكي تشكل سرديّة متصلة تتمتع بالسلاسة والجريان والتسلسل المنطقي والتاريخي. وكما حدثتني المؤلفة، فإن بعض النساء والرجال الذين جرى تسجيل حكاياتهم، وترجمتها، ثم إعادة توليف حكاياتهم، احتاجوا إلى عدة مقابلات، ومساءلة واستنطاق، فيما إذا كان ما يعنون بكلامهم هذا المعنى، أو ذاك من المعاني. وهي مشكلة من المشاكل التي تعترض التسجيل التاريخي الشفوي، ودراسات الذاكرة، إذا ما أخذنا في الحسبان أن مرور الوقت، واستعادة الذكريات، قد تضفي بعض الغموض وعدم الوضوح على الحكايات المروية. كما أن تعرض بعض الأشخاص، أو عائلاتهم، أو أقربائهم، وخصوصًا النساء منهم، إلى رضّات نفسية بفعل القتل، أو التعرض للاغتصاب، أو التهديد بالاغتصاب، يجعل بعض من يسردون حكاياتهم يخفون بعضًا مما تعرضوا له، أو شاهدوه. ومع ذلك، فإن بعض الحكايات التي تضمَّنها الكتاب تروي وقائع حيَّة للمذابح التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي والمنظمات العسكرية الإسرائيلية عام 1948، بدءًا من "دير ياسين"، و"الطنطورة"، وصولًا إلى مذبحة "الدوايمة" المروعة التي ارتكبتها فرقة موشيه دايان في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1948، أي بعد أن وضعت الحرب أوزارها في صيف عام النكبة. ولعل الصفحات المدهشة التي ترويها المرحومة رشدية هديب، مستعيدة أحداث مذبحة الدوايمة، وكذلك الهجرة من مخيمات أريحا أثناء نكسة 1967، وضياع طفليها، قبل أن تعثر عليهما في مدينة عمان، تمثل أقسى ما في الذاكرة الفلسطينية من صدمات متوالية، ومعاناة شخصية، وآلام مبرحة، ذاتية وجماعية، ونكبة مستمرة يتعرض لها الشعب الفلسطيني حتى هذه اللحظة.

شهادة فيصل دراج (الصورة)، كما شهادات أخرى في الكتاب، تشدد على قدرة الفلسطيني على النجاة ومواصلة العيش (موقع مجلة الهدف)


ثمَّة في الكتاب أيضًا حكايات شخصيَّة مكتوبة بلغة أدبية رفيعة المستوى، وأخص بالذكر هنا حكاية الناقد والباحث الفلسطيني فيصل دراج (المولود عام 1943)، الذي يحكي عن رحيله مع عائلته إلى سورية عام النكبة، مستعيدًا صور الماضي الفاجع البعيد، وعذاب الغربة، وفقرها وبردها، وآلام المنفى المستمرة، وعاره، وافتقاد الهوية، وأثر الجرح الذي لا يمحى من ذاكرة الطفل فيه، أي وصمة المنفيِّ التي تلازمه في حله وترحاله، بوصفه فلسطينيًّا تجري مساءلته على الدوام عن هويته المفتقدة، وحضوره المشكوك، غير المرغوب فيه.




لكن شهادة دراج، كما شهادات أخرى في الكتاب، تشدّد على قدرة الفلسطيني على النجاة ومواصلة العيش، في ظروف صعبة غير مواتية، على صعيد السياسة والمجتمع والوضع الاقتصادي، والمثابرة، والكدِّ، على أرض فلسطين، أو في المنافي، ليحقق الفلسطيني حضوره في التعليم والثقافة وعالم التجارة والسياسة والاقتصاد، رغم أنه تعرض لأكبر عملية سطو في التاريخ على هويته وأرضه ووجوده وأملاكه. فما يرمي إليه الكتاب هو الشهادة على قدرة العنقاء الفلسطينية على النهوض من رمادها. ومن هنا يأتي تركيزُ حكايات الفلسطينيات والفلسطينيين على قصص النجاح والتميز، رغم كل ما تعرضوا له من سلب ونفي: أكاديميات وأكاديميون ناجحون؛ نساء استطعن، رغم كل الصعاب، تعليم أبنائهن وأحفادهن، حب فلسطين واستمرار شعلة الذاكرة فيهم؛ رجال اقتصاد ناجحون بدأوا من الصفر بعد أن تمت مصادرة معظم ما يملكون.

أصوات متعدّدة

تنجح كريس كونتي، في مؤلفها الذي يستحق كثيرًا من الاهتمام والمديح، في جمع أوركسترا من الأصوات المتعددة، الحيَّة والناجية بعد النكبة، لتروي جوهر الحكاية الفلسطينية، عذاباتها وقدرتها على استعادة الهوية، وإعادة تشكيلها، من خلال الصمود، والإصرار على البقاء، ومقاومة كل محاولات المحو وطمس الذاكرة. وهي تمنح هؤلاء المغلوبين إذنًا برواية حكاياتهم، كما تجعل القراء في العالم يشعرون بثقل ما تعرَّض له الفلسطينيون في تاريخهم الحديث، ويلمسون تواصلَ نكبتهم في الحاضر: تدمير مدنهم وقراهم، وإزالة مئات من القرى من الوجود، وقتل عشرات الآلاف منهم، أطفالًا، ونساء، وعجائز، وشبابًا؛ وتشريد مئات الآلاف منهم، ومصادرة هويتهم الوطنية، وتحويلهم إلى منفيين، ولاجئين، بلا دولة، أو قوة. لكنها في الوقت نفسه تؤكد، من خلال هذه الحكايات، على: قوة الحياة وعنفوانها، والرغبة الجامحة في تخطي الصعاب، والمثابرة العنيدة، ليتجاوز الفلسطيني ألمه وعذاباته، وخسارته المستمرة.

إن هذا الكتاب يستحق، من دون أي شك، الترجمة إلى العربية، لغنى مادته، ولغته القوية، وصوت المقاومة والإصرار والعزيمة فيه؛ وكذلك لقدرته على إبقاء خيط ذاكرة النكبة موصولًا في الأجيال التالية لجيل النكبة؛ كما لتضمُّنه حكايات قادرة على إلهام الروائيين، وكتاب القصة، والمسرح، وصنَّاع السينما، وكتاب الدراما، لتخييل حكاياته، وتحويلها إلى فن حيّ قادر على إبقاء الحكاية الفلسطينية حيّة في ذاكرة الفلسطيني والعربي، على السواء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.