}

كافكا المُوسوَس.. لا شيء يمكن أن يُعتبر مُسلّمًا به!

ويل ريس 10 أغسطس 2022

ترجمة: سارة حبيب

 

رغم اعتقاده بأن المرض هو أساس كتابته، اعتنق فرانز كافكا صيحات الصحة وبدعها بحماسٍ شديد

 

قبل بضعة شهور من موته، كتب فرانز كافكا واحدةً من أجمل حكاياته وأكثرها حزنًا. في قصة "الجُحْر"، يكرّس مخلوقٌ منعزل شبيه بالخلد حياتَه لبناء منزل مُجهزٍ بعناية تحت الأرض من أجل أن يحمي نفسه من الدخلاء. "لقد أتممتُ بناء جُحري ويبدو الأمر ناجحًا"، يقول بطل القصة في بدايتها. غير أن ثقة ذلك الكائن سرعان ما تبدأ بالتلاشي: كيف يعرف إن كانت دفاعاته تعمل؟ كيف يكون متيقنًا؟

لا يرضى بطل قصة كافكا بأقلَّ من الأمان الكامل، بحيث لا يبقى شيء خارج حساباته. ففي العالم الصغير لجُحره، كل تفصيل يغدو هامًا؛ "دلالةً" محتملة على اعتداء يلوح في الأفق. ثم، مع الوقت، يبدأ الكائن بسماع ضجة يعتقد أنها صادرة عن معتدٍ. وتكون الضجة عالية على حد سواء كلما صادف أن يكون واقفًا. لكن، سيظهر، لاحقًا، أن الضجة تنشأ داخل جسد الكائن: الصوت، ربما، هو صوت دقات قلبه، صوت تنفسه الهائج؛ تجري الحياة وتتلاشى، بينما الكائن قلق إزاء شيء آخر تمامًا.

يبدو إذًا أن "الجُحْر" هي بمثابة تعليق استرجاعيّ على حياة كافكا ذاته. ففي الوقت الذي شُخِّص فيه بالسل في عمر الرابعة والثلاثين، كان كافكا أساسًا قد أمضى عقدين قلقًا في شأن المرض. فقد قضى عطله في منتجعات للنقاهة، ولم تزد رسائله للأصدقاء والأحبة عن كونها قوائم بالأعراض المرضية. وعزا كافكا كلّ هذا إلى ما دعاه مرارًا "وسواسه"، وهي حالةٌ أدت، حسب رأيه، إلى إيداعه في الحياة الرهبانية للكتّاب.

ورث كافكا الفكرة الرائجة منذ العصر الرومانسي، والقائلة بأن سقمًا معينًا يلائم شخصية الكاتب. وهي فكرة ترجع أصولها إلى روبرت بيرتون، الذي شرح في كتابه الموجز (وغير المكتمل قط) "تشريح الكآبة" (1621) أن "الكآبة العنيفة الوسواسية" كانت مرض الطلاب والباحثين. "أنا صموتٌ، انطوائي، متجهم، أناني، موسوَس، وفي حالة صحية سيئة بالفعل"، كتب كافكا عام 1913 إلى كارل باور، والد خطيبته، فيليسه. والأكثر من ذلك، أضاف كافكا، "أنا لا أستهجن أيًّا من هذا".

في الصباح الذي كتب فيه هذه الكلمات إلى السيد باور، كان كافكا يقرأ رسائل سورين كيركغارد. لقد كان ينشد الإلهام للشخصية التي يصقلها لنفسه؛ شخصية أديبٍ قدسي سقيم. الوسواس محتومٌ، شرح كافكا، بالنسبة إلى شخص "كيانه كلّه متجه نحو الأدب". غير أن هذا كان زعمًا مبالغًا فيه لموظف حكومي شاب يعمل في مؤسسة التأمين على حوادث العمال لصالح مملكة بوهيميا في براغ؛ موظف لم يكن في ذلك الوقت قد نشر سوى كتاب واحد فقط: مجلد قصص نحيل لم يبع منه أكثر من بضع مئات من النسخ. غير أنه مع فيليسه، كان حتى أكثر جسارة: "أنا مصنوع من الأدب، لست شيئًا آخر إلاه".

مع هذا، كان لوسواس كافكا بعدٌ أكثر إثارة للدهشة: استثماره على التوازي في أيديولوجيّات اللياقة والعافية الجسدية، مع كثير من التشابه مع مِلل "الصحة" الحديثة. فخلال حياته، واظب كافكا على الالتزام بمبادئ "إصلاح الحياة" (Lebensreform)، وهي حركة ثقافية كانت رائجة بين أفراد البرجوازية المتحدثة بالألمانية. بالإضافة إلى اعتناق فضائل الطهارة والفطرة، شجع إصلاحيو الحياة النظام الغذائي النباتي، الامتناع عن الكحول والتدخين، أدوية العلاج الطبيعي، الملابس البسيطة، والتعرض لأشعة الشمس والهواء النقي. وبالنسبة إلى شخص تبنى هذه الآراء بالجدية التي تبناها بها كافكا، شملت حركة "إصلاح الحياة" كل جانب من حياة المرء: ما من تفصيل يمكن إغفاله.

في ليلة 22 أيلول/سبتمبر عام 1912، تنعّم كافكا بما اعتبره نجاحه الأدبي الأول. ففي جلسة واحدة، وبعد مضيّ أسبوع على احتفالات عيد ميلاد والده هرمان الستين، ألّف كافكا "الحُكم"، وهي تحفة أدبية تتناول التناقض الوجداني الأبوي. وفي الساعات السعيدة المنفصمة التي تلت ذلك، أشار كافكا في يومياته إلى أن الكتابة تتطلب "انفتاحًا تامًا للجسد والروح". إن انتباه كافكا المُدقِّق لجسده يمكن أن يعطينا تصورًا عن تصرفه اللاحق ككاتب؛ أي الطريقة الخاصة التي حول بها معاناته إلى أدب. فبالنسبة إلى كافكا، لم يكن الوسواس مجرد حالة ذهنية، بل نزوع جوهري تجاه العالم، طريقةً لإخضاع حياة المرء وعلاقاته لتشريح وتأويل لا ينتهيان.

لقد أضمر كافكا، منذ أن كان صبيًا، حالة انعدامِ أمانٍ إزاء جسده. ففي ذلك الحين، كان يمكن أن تخرَّب الرحلات إلى أحواض السباحة جرّاء رؤيةِ بنيةِ والده هرمان المهيبة. ثم ترسّخت صورة كافكا الذاتية عندما أعفي وهو شاب من الخدمة العسكرية "بسبب ضعفه".

"تشريح الكآبة"(1621) لروبرت بيرتون



"أنا أنحل شخصٍ بين من أعرفهم"، أخبر فيليسه بعد بضع سنوات. وذلك يدل على شيء، أضاف كافكا، لأنه لم يكن "غريبًا عن المصحات". ثم، وفي لحظة تفاؤل، اشترى ذات مرة كتاب "القوة وكيف نحصل عليها" (1897) الذي كتبه يوجين ساندو، مؤسس كمال الأجسام الحديث. كان ساندو مصدر تشجيع للذكور النحيلين والسِمان قصيري القامة عبر القارة، مع مجموعة قراء شملت فرناندو بيسوا، ويليام بتلر ييتس، وت. س. إليوت.

لقد خضع كافكا خلال حياته لإغراءاتِ مجموعة معلمين وأيديولوجيات مختلفة فيما يخص مسألة العافية. ففي بعض الأوقات، لم يتناول سوى المكسرات والتوت. وفي أخرى، مضغ كل لقمة من الطعام لدقائق عديدة، وفق إرشادات هوراس فليتشر. وبناء على نصيحة عدة خبراء سيئي السمعة، تجول كافكا في شتاء براغ البارد مرتديًا قميصًا خفيفًا، آملًا أن يكتسب مناعة طبيعية ضد المرض، ورفضَ تدفئة غرفة نومه.

لكن النظام الشامل الذي وضعه مرشد اللياقة الدنماركي يورغن بيتر مولر هو النظام الذي لاقى حقًا استحسان كافكا. وعلى الرغم من أن مولر قلما يُتَذكر اليوم، فقد كان في بدايات القرن العشرين شخصية مشهورة عالميًا. وكان كتابه الأفضل مبيعًا هو "نظامي: 15 دقيقة تمرين يوميًا من أجل الصحة" (1904)، وهو الكتاب الذي أبقى كافكا نسخة منه مفتوحةً قرب سريره. أما نسختي فهي إعادة إصدار من الثلاثينيات؛ أي حين يمكن لمولر أن يتباهى بكونه باع مليونًا ونصف مليون من النسخ، بست وعشرين لغة، وكسب رعاية أمير ويلز. وبحلول عام 1912، تمكن مولر من الانتقال إلى لندن، حيث افتتح منشأة لياقة رفيعة المستوى، قرب بيكاديلي أول الأمر، ومن ثم في ميدان الطرف الأغر (وهو البناء الذي بات اليوم المقر الرئيسي لمكتبة واترستونز).

كان مولر قدوة مستبعدة لكافكا. إذ أنه مرة، كرائد لحيلِ الدعاية الحديثة، جعل متطوعًا يجرُّ عربة مملوءة بالصخور فوق بطنه أمام حشد كبير. وفي الصور الفوتوغرافية، كثيرًا ما كان يُصوَّر وهو يتزلج بملابسه الداخلية أو مغمورًا في بحيرات متجمدة. احتوى "نظام" مولر على مجموعة من التمارين التي كانت بمعظمها تستهدف تقوية عضلات البطن، بالإضافة إلى نصائح تشمل تقريبًا كل جانب من جوانب الصحة الجسدية. وقد بدأ كافكا يتبع نظام مولر أو "يمولر" (كما كان يُقال) حوالي عام 1910 تقريبًا، واستمر باتباعه لفترة تكاد تصل إلى عقد.

ازدرى مولر أولئك الذين اعتقدوا أن "السحنات السقيمة هي مؤشر لا يخطئ على وجود طبيعة جمالية وعاطفية". في واقع الأمر، توجّه مولر مباشرة إلى "الفنانين ورجال العلم والأدب"، حاثًّا أولئك الذين يتصدرون "المجالات العليا" ألا يهملوا أجسادهم. وفي تناقض ظاهري مع الإنماء المتعمَّد لشخصيةٍ واهنةِ الأعصاب، طبّق كافكا أيضًا رسالة مولر. "إن أسلوب حياتي مُعدٌّ كليًا... ليتماشى على نحو أفضل مع كتابتي"، أخبر فيليسه في وقت مبكر من علاقتهما، شارحًا الأساس المنطقي لاتباعه نظام مولر: "الوقت قصير، قوتي محدودة، المكتب مرعب، الشقة كثيرة الضجيج، وإذا لم تكن حياة مبهجةٌ مباشرةٌ بالإمكان، فعلى المرء أن يحاول شقَّ طريقٍ ملتوٍ من خلال مناورات حاذقة".

وفقًا لمولر، ليست القوة الجسدية إلا جانبًا واحدًا من مفهوم أكثر تعقيدًا للصحة. ولذلك قدم كتابه لكافكا نصائح حول مسائل مثل الحمية، النوم، اللباس، الحرارة، التحكم، بالإضافة إلى العناية الملائمة بالأسنان، الفم، الحلق، الشعر والأقدام. أما الأكثر أهمية فكان النظافة والطهارة: على النوافذ أن تبقى مفتوحة لتبدد "الأبخرة الضارة"، والـ"15 دقيقة من التمرين" المُوصى بها تضمنت بضع دقائق من الاستحمام والفرك ("جمباز الجلد"). فوفقًا لمولر، الجلد هو "العضو" الأكثر أهمية في الجسم، إنه العتبة بين الخارج والداخل، ولذلك فإن الإخفاق في إزالةٍ مباشرةٍ للمفرزات السامة التي تتكدس هناك هو بمثابة انتحار. بالنسبة إلى مولر، لم تكن الصحة خيارًا لمرة واحدة: كانت مهمة مستمرة تتطلب انتباهًا دائمًا لكل جانب من جوانب جسد المرء وبيئته.

بالتالي، مستلهمًا من مولر، تألف روتين كافكا اليومي من الاستيقاظ والوصول إلى مكتبه بحلول الساعة الثامنة صباحًا، ثم العودة إلى المنزل وتناول غداء متأخر وأخذ قيلولة. بعدها، كان كافكا يقوم بعشر دقائق من التمرين - "عاريًا، قرب نافذة مفتوحة"، كما أوصى مولر، ثم يأخذ نزهة صحية مسائية ويتناول العشاء. وفي حوالي الساعة العاشرة مساءً، يبدأ القيام بعمل يومه الحقيقي: الجلوس للكتابة حتى الساعات الأولى من الصباح. "ثم التمارين مرة أخرى، كما في الأعلى، لكن بالطبع مع تجنب أي إجهاد، أخذُ حمّام، ومن ثم، عادة مع ألم خفيف في قلبي وعضلاتِ معدة متشجنة، الذهاب إلى الفراش".

إذا كانت شهادة كافكا صحيحة، فهذا الإيقاع اليومي كان أساسيًا لإنتاجيته الاستثنائية في تلك الفترة. ففي غضون بضعة أسابيع في نهاية عام 1912، كتب القصة القصيرة "الحكم"، عدة فصول من رواية "أميركا"، وثم، بين شهري تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر، رواية "الانمساخ"؛ والتي هي، من بين أشياء أخرى، قصة لافتة عن التحول الجسدي. خطرت فكرة "الانمساخ" لكافكا بينما كان يستلقي في الفراش خلال فترة أرق شديد. وكانت لديه، حسب قوله، "رغبة جارفة بالانغماس فيها".





في بداية "الانمساخ"، يتخلّف البائع المتجول غريغور سامسا عن الحضور إلى العمل. ويمكن بالطبع تفهم انشغاله، كونه تحول في أثناء الليلة الفائتة إلى حشرة. مع هذا، يخشى غريغور وصول كبير الموظفين وطبيب شركة التأمين اللذين يعرف أنهما سيتهمانه بالتمارض. فبالنسبة إلى أرباب عمل غريغور، المرضى "كسالى" و"عليهم ببساطة أن يتغلبوا" على أمراضهم الخيالية "لأجل اعتبارات العمل".

على نحو مماثل، اعتقد مولر أن "المرض بالعموم هو خطأ المرء ذاته"، وكتب عن تكلفة المرض الباهظة على أرباب العمل وعلى مجتمع العمال الذين، لأنهم لم يعيروا أي اهتمام لعافيتهم، يقعون فريسة فترات متكررة من الغياب عن العمل جرّاء مرض جلبوه على أنفسهم. المرضى مدانون بذنب الـ"احتيال".

عرف كافكا كم يمكن أن تكون تلك النظرة العالمية مؤذية، لا سيما بعد أن شهد معاناة العمال على أيدي أرباب عملٍ عديمي الضمير خلال عمله كمسؤول تأمين. مع هذا، فكرة أن المسؤولية يمكن أن تسفر عن حرية راقت له: إذا كان المرض الجسدي خيارًا، بالتالي يمكن للمرء ببساطة أن يقول "لا". كان صحة كافكا "مخادعة"، وتذمر مرة قائلًا: "إنها تخدعني حتى أنا". ولم يكن كتاب مولر قد وعد بأقلّ من انمساخ: إذا اتبع كافكا مبادئه، سوف "يتحول جسده من سيد نيّق موسوَس، إلى خادم مطيع كفؤ".

بالإضافة إلى ذلك، بدا أن انهماك كافكا الاستحواذي بمسألة العافية الجسدية قد تلازم مع ميل انعزاليّ. لكن، في صيف عام 1912، قابل فيليسه باور في شقة صديقهما المشترك ماكس برود، وهو الرجل الذي سيصبح المنفّذ الأدبي لكافكا.

كانت فيليسه سكرتيرة شابة طموحة عاشت في برلين. ولكونها قريبة قرابة بعيدة لآل برود، كانت تزور العائلة في طريقها إلى أختها في بودابست. وبعد خمسة أسابيع من لقائهما الأول، كتب كافكا لها مبتدئًا تبادل رسائلٍ طويل الأمد ومحمومًا غالبًا. "كلّ واحدة من رسائلكِ، مهما تكن قصيرة، هي بالنسبة إليّ لا نهائية"، كتب كافكا لها. "إنني أقرؤها وصولًا إلى التوقيع، ثم أبدأ من جديد، وهكذا دواليك".

تقدم كافكا لخطبة فيليسه، كتابةً، في الصيف التالي. كانت رسالة غريبة، وليست في معظمها سوى قائمة طويلة من الأسباب التي من شأنها جعل فيليسه ترفضه. فمقابل "الخسائر التي لا تحصى" والتي كانت ستقاسيها إلى جانبه، عليها أن تصمد لتربح "رجلًا مريضًا، ضعيفًا، انطوائيًا، صموتًا، كئيبًا، جامدًا، وتقريبًا ميئوسًا منه". مع هذا، وافقت فيليسه على الخطوبة.

بالنسبة إلى كافكا، كان هذه بداية أزمة. لقد رغب بالفعل بأن يتزوج فيليسه. لكن المشكلة كانت أنه رغب أيضًا بألا يتزوجها، وإن هذين الخيارين كانا متعارضين. وبقدر ما بقيت هاتان الرغبتان سريتين، فإن عدم اشتراكهما في شيء يمكن احتواؤه. لكن التناقض الوجداني فاض حينئذ متحولًا إلى ذعر. وتحوّل الانتباه المتعنت الذي وجهه كافكا لعافيته الجسدية إلى مساءلة ذاتية لا تنتهي حول خطوبته. "جعلني كل شيء أتردد على الفور"، كتب، وكل تفصيل صغير أطلق سلسلة من الشكوك تدور في حلقة مفرغة.

ثم، متوجهًا إلى يومياته، كتب كافكا "ملخّصًا كلّ الحجج المؤيدة لزواجي والحجج المعارضة له"، وواضعًا في الميزان "عجزه عن تحمل الحياة وحده" مقابل شكّه في أن سعادة الحياة المشتركة ستأتي "على حساب كتابتي".

كافكا وخطيبته فيليسه وإحدى الرسائل لها



كذلك، ومنذ الأيام الأولى لتودّدهما، تجاوزت مخاوف كافكا في كثير من الأحيان حدودَ جسده إلى جسد فيليسه. فكان بشكل مستمر يسألها عن صداعها ويؤنبها لعدم أخذه على محمل الجد بما يكفي، وعلى أسلوب حياتها "المحطِّم للأعصاب". ناشد كافكا فيليسه أن تبدأ باتباع مبادئ مولر، عارضًا أن يشتري حاجزًا حتى يتمرنا معًا بالطريقة الموصى بها. وقبل بضعة أيام من سعيه لفسخ خطوبتهما، كتب ليخبرها عن الشؤون المنزلية النباتية التي سيتقيدان بها. لقد كان كافكا، بإدراجه فيليسه في أنظمته، يدعوها لكي تدخل جُحْره الصغير حيث يأمل أنه، بالعيش معها إنما كليًا على طريقته، سيكون قادرًا على التمتع بمنافع العزلة والرفقة في آنٍ واحد.

في حزيران/ يونيو عام 1914، تمت خطبة كافكا وفيليسه رسميًا. كان احتفال الخطوبة تجمّعًا لكل العائلة: آل كافكا وآل باور معًا في برلين. وكان مزاج كافكا في ذلك اليوم جنائزيًا. "قُيّدت يداي وقدماي مثل مجرم"، كتب في يومياته. "لو أنهم أجلسوني في زاوية مقيدًا بسلاسل حقيقية... لما كان الأمر أسوأ. وتلك كانت خطوبتي؛ بذل الجميع جهدًا لإعادتي إلى الحياة، وعندما لم يتمكنوا من ذلك، بذلوا جهدًا ليحتملوني على ما أنا عليه".

ثم أتت القشة الأخيرة عندما ذهب كافكا مع فيليسه للتسوق لأجل الأثاث: كان كافكا مصدومًا بذوق الطبقة الوسطى النيّق الذي تتمتع به خطيبته، وهو ما تعارض مع مبادئ الحد الأدنى التي تتبعها حركة إصلاح الحياة. "صوان السُّفرة على وجه الخصوص... ضايقني"، تذكر كافكا بعد سنتين؛ لقد كان بمثابة "شاهدة قبر". ألم يسمع في واقع الأمر صوتًا متوعدًا وهو يمشي إلى متجر الأثاث، دقةُ ناقوسِ جنازة؟

كان كافكا لا يقبل المساومة: مثل كل شيء آخر، تأثيثُ منزل كان مسألة مبدأ. لا يجب أن يكون أي شيء زائدًا عن المتطلبات الضرورية؛ شعاره، كما دائمًا، كان العفة. أصونة السفرة، الصور الفوتوغرافية، مفارش السرير، نبات الدريقة والسجاد؛ بالنسبة إلى كافكا، لم يكن كل ذلك يعادل كومة خردة وحسب بل كان "قذارة".

وبعد أسبوعين من هذه الاحتفالات، كتب كافكا رسالة إلى صديقة فيليسه، غريت بلوخ، محاولًا أن يشرح سلوكه الغريب و"تعنته". "لا بدّ أن أعزو كل شيء إلى افتقاري للصحة"، شرح. "لو أني كنت أكثر صحة وقوة، كانت الصعوبات كلّها ستُقهَر". وعندها، كان ليصبح "واثقًا" من علاقته مع فيليسه؛ بل سيكون في الواقع، "واثقًا من العالم كله". لكن، في حالته تلك، كان متأكدًا من شيء واحد فقط: كان "بلا شك" يعاني من "وسواس شديد أصاب الكثير من الجذور العميقة داخلي حدّ أني أقف به وأسقط به".

وكما توضّح هذه الجملة، كان "وسواس" كافكا أكثر من مجرد خوف من المرض. كان الطريقة التي أصبح بها عالمه كلّه ذا مغزى، وكل تفصيل هامًا. فلا شيء يمكن أن يُعتبر مُسلّمًا به؛ كل شيء يجب أن يُقيَّم، ويُنظر إليه من كل زاوية. وسواء أكان كبيرًا أم صغيرًا، كل شيء كان مادة لتحليلاتِ وعي متمددٍ ومتحذلق.

بعد فترة قصيرة من كتابته لغريت، استُدعي كافكا للعودة إلى برلين. ويبدو أن فيليسه وغريت كانتا قد تكلمتا في حينها. فقررت فيليسه وضع حدّ للأمور، وبرفقة أختها وغريت، واجهت كافكا في جناحٍ في فندق أسكانيشر هوف. وقد اختبر كافكا هذا كإذلالٍ مؤلم؛ كصفعة كان التعافي منها صعبًا. وفي يومياته سيصف تلك المواجهة على أنها "محكمة".

هناك في براغ، انتقل كافكا إلى العيش في الشقة التي تركتها أخته وزوجها. وكانت الحرب العالمية الأولى قد اندلعت في أوروبا في اليوم السابق. ولأول مرة في حياته، كان يعيش وحده. لقد حقق "عزلة تامة"، فيما عدا بعض الضجيج: الثرثرة التي لا تنتهي لجيرانه. وفي يومياته، كتب في حينها: "في غضون شهر واحد، كنت سأغدو متزوجًا. القول المأثور يؤلم: لقد أعددتَ فراشك، استلقِ الآن فيه". (وهو قول مأثور يعني: لقد جلبتَ هذا الأمر على نفسك، وعليك الآن تحمل النتائج).

آل كافكا وآل باور خلال خطبة كافكا وفيليسه في برلين


وكما نعلم، خلال الشهور التالية سيجلس كافكا إلى طاولته وقتًا أطول مما سيكون في سريره. ففي الشقة الباردة المنعزلة، متخذًا جُحرًا بعيدًا عن عالم ينهار، واصل فعل استرجاع الأحداث الماضية طويل الأمد. جالسًا إلى طاولته حتى الساعة الخامسة، السادسة، السابعة، صباحًا، بدأ العمل على الرواية التي ستغدو "المحاكمة" (رغم أنها، مثل "الجُحر"، ظلت غير مكتملة، ولم يتم تحريرها ونشرها من قبل برود إلا بعد وفاة كافكا عام 1924).

"المحاكمة" هي قصة رجل يدعى جوزيف ك. يتم اتهامه بجريمة غير مسماة. ويُضطهَد من دون رحمة، ثم يُعدَم في النهاية من قبل سلطة مجهولة، مع بقائه جاهلًا بجرمه. وما يجده فوق الاحتمال، قبل كل شيء، هو هذا الجهل القسري، ومن هنا تأتي لامعقولية التهمة الموجهة ضده: ما الذي قد يكون ك. فعله؟

كان هذا أكثر من أن يُحتَمل، ولهذا، بالنتيجة، يتجه ك. إلى الكتابة. ففي أواخر الرواية، يقرر أن ينتج وثيقة مكتوبة متفحصًا فيها "كل فعل وكل حدث صغير مرّ في حياته، ناظرًا إلى تلك الأفعال والأحداث من كل الجوانب ومتفحصًا إياها ومعيدًا النظر فيها". يعرف ك. أن هذه ستكون عملية طويلة، "كمية عمل لا نهائية تقريبًا". وهكذا إذا "لم يجد وقتًا للقيام بها في المكتب، كما هو مرجّح للغاية، سيكون عليه القيام بها في المنزل ليلًا". في الحقيقة، لا ضرورة لأن يكون المرء "ذا ميل قلِقٍ" لينظر إلى هذه المهمة باستسلام واثق، ويشك أنه "من المستحيل إنهاؤها قط". لكن، ومع وضع كل هذا في الاعتبار، يبدأ جوزيف ك. بمهمة تفحص الذات اللانهائية هذه.

بالنسبة إلى جوزيف ك.، التبرئة ليست بيت القصيد. فأمله الحقيقي هو أن يجد الجريمة التي يمكن أن تجعل العقاب منطقيًا؛ وبجعل العقاب ذا مغزى، جعلَه قابلًا للاحتمال. لكنه لا يصل إلى حالة التنوير هذه أبدًا. أبطال كافكا لا يفعلون قط. وفي نهاية الرواية، يموت جوزيف ك. على نحو تافه عديم المعنى، "مثل كلب".

أوقف كافكا كتابة "المحاكمة" ليكتب قصة قصيرة عن ثيمة مشابهة، "في مستعمرة العقاب". في تلك القصة، يتم اختيار من يدعَون "مجرمين" للإعدام اعتباطيًا، ويموتون بوضعهم في آلة تنقش جرائمهم، المرة تلو المرة، على جلودهم. يعتقد الضابط المشرف على هذا الإجراء أن بوسع الرجل المدان أن "يفك شيفرة" جرمه "بواسطة جروحه"، فيموت بالتالي في حالة تنوير فظيعة إنما مبهجة. لكن، بوضع نفسه داخل الآلة، لا يحقق الضابط هذا الموت الهادف؛ إنها "جريمة، خالصة وبسيطة" فحسب.

بعد فترة قطيعة مع فيليسه، استأنف كافكا العلاقةَ في آخر الأمر على نار هادئة. وأصبح الاثنان مخطوبين من جديد. ثم، في عام 1917، تعرّض كافكا لأولى هجمات السل. كان المشهدُ فظيعًا: ذهب ذات مساء إلى النوم، ليستيقظ في منتصف الليل مختنقًا بدمائه. تقدم متعثرًا باتجاه المغسلة، ومن ثم إلى النافذة التي كان من الممكن من خلالها رؤية القلعة أعلى التل. غير أن الدماء استمرت بالتدفق.

النظام الشامل الذي وضعه مرشد اللياقة الدنماركي يورغن بيتر مولر هو النظام الذي لاقى حقًا استحسان كافكا



وكانت الشمس تشرق عندما عاد كافكا أخيرًا إلى السرير؛ وهو شيء ليس بغريب بالنسبة إليه. أما الأقل توقعًا فكان أنه لم يجد صعوبة في النوم ليلتها. لاحقًا، جاءت الخادمة، وعند رؤية الفوضى، عرضت التكهن الذي لم يطلبه أحد منها: "حضرة الدكتور، لن تصمد أكثر". لكن، لأول مرة منذ شهور، كان كافكا مرتاح البال. لقد نام أفضل من أي وقت مضى. وبعد ذلك بفترة قصيرة، أنهى الأمر مع فيليسه، واضعًا حدًّا لخمس سنوات من التردد. لكن، وقبل مضي وقت طويل، ستكون له خطيبة مرة أخرى، بعد أن يقوم بإدراج مريضة بالسل تدعى يولي فوريتسك في محاولاته اللامنتهية لفهم ما كان يريده.

بالنسبة إلى أولئك الموسومين "موسوَسين"، عادة ما تكون لحظة التشخيص الفعليّ بمثابة تبرئة؛ إنها الفرصة التي تثبت أنهم لم يكونوا موسوسين في الأساس (قلت لكم إني مريض). وبالنسبة إلى بعضهم، يأتي التشخيص - مهما يكن فظيعًا- كنوع من الراحة، بما أنه يبشّر بنهاية حلقة التفسير اللانهائية عند الموسوس. عندما شُخِّصت أليس جيمس (أخت الفيلسوف وليام والكاتب هنري) بسرطان الثدي، كان ردها على التشخيص أن دعت تلك اللحظة: "اللحظة الأكثر إثارة للاهتمام في الحياة؛ في واقع الأمر، اللحظة الوحيدة التي بدا فيها العيشُ حياةً".

لكنْ، لم يكن ذلك هو السبب وراء هدوء كافكا. لقد كان نزيفه الدموي الرئوي بداية انمساخه من "مريض وهمي" (وهو أيضًا عنوان مسرحية لموليير) إلى مريض من دون غش. غير أنه، مع هذا، ظلَّ يشير إلى نفسه كموسوس. وفسّر ذلك بأن سنواتٍ من الأمراض الوهمية قد صارت أكثر حدّة بفعل "تدرجات لا تحصى" إلى أن "انتهت في آخر الأمر بمرض حقيقي". إن "مرض الرئة" هذا، قال كافكا، لم يكن "سوى فيضانَ مرضي الذهني".

قبل بضع سنوات، كان كافكا قد أخبر فيليسه أن على المصابين بالصداع أن يتجنبوا السعي لتخفيف الألم. وبدلًا من ذلك، عليكَ أن تستعرض حياتك كلها "لكي تدرك أين تختبئ أصول الصداع". كان ذلك هو الدرس الذي تعلمه من مولر: المرض هو خطأ المرء ذاته. وبينما هو مستلقٍ في مصحة على قمة جبال تاترا، استعرض كافكا حياته كلها ليجد الأصول الخفية لمرضه بالسل. كان العقاب واضحًا بما فيه الكفاية، ولم يبق سوى أن يعثر على الجريمة.

هكذا، كانت لدى كافكا عدة نظريات حول مصدر مرضه، لكن النظرية المفضلة لديه هي أن مرضه بالسل يعود إلى نصف عقد من الحيرة حول الالتزام بفيليسه. "لا يمكن أن تستمر الأمور على هذا النحو، قال المخ، وبعد خمس سنوات قالت الرئتان إنهما جاهزتان للمساعدة". لقد كانت أمراض كافكا الخيالية وأمراضه الحقيقية موجودة على صعيدٍ تفسيريّ واحد: كانت كلتاهما تجليات رمزية لحالته الروحية، ولذلك يمكن إخضاعهما للتفسير. وربما هذا ما كان يعنيه حين أعلن: "أنا مصنوع من الأدب". بالنسبة إلى كافكا، كان المرض دومًا استعارة؛ وحتى حين كان يحتضر، ظلت مهمة قراءة الجسد والروح الموسوَس غير مكتملة إلى الأبد.

ويل ريس: كاتب ومحرر. نُشرت مقالاته في الغارديان، مجلة غرانتا، وغيرهما. مدير وناشر في دار بيننسولا للطباعة. مهتم على وجه الخصوص بالفلسفة والأدب، لا سيما النصوص التي تزيل الحد بينهما. يعدّ رسالة دكتوراه عن الأمراض الخيالية في الأدب والثقافة البريطانية في أواخر القرن التاسع عشر. وسيصدر كتابه الأول "الوسواس" قريبًا. يعيش اليوم في لندن.

رابط النص الأصلي:

https://aeon.co/essays/the-role-of-hypochondria-in-the-life-and-work-of-franz-kafka

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.