}

عن كـرة القـدم في الأرجنتيـن: شغف ومسعى جماعيّ

أسامـة الصغيـر 17 يناير 2023
تغطيات عن كـرة القـدم في الأرجنتيـن: شغف ومسعى جماعيّ
مارادونا وميسي خلال التدريب لكاس العالم (Getty Images,12/6/2010)

 

بلادُ الفضة... بلاد الكُرة

لاهِثينَ وراء ثرواتِ الدُّنيا ومُقَدَّرات الشعوب، سَمِع الأوروبيون، يُسابِقُهم الإسبانُ، أن في أقصى الأرض بلادًا جبالُها من فِضّة، ومن الأصل اللغوي اللاتيني أطلقوا عليها أرجنتينوم، إذ هي بلادُ الفضة الأرجنتين. كانت تلك إشاعةً وصارتْ اسمًا وشمْسًا ذهبية ساطِعَةً في العالم. لم يجد الغُزاةُ الإسبانُ فضّة، لكنهم وجدوا أرضا خصبة جميلة قُرونًا من الزمن، حتى عام 1808 حين ظهرت حركةُ الثُّوار للمُطالبة بالاستقلال عن إسبانيا بعد اشتداد الحرب الأنجلو إسبانية على البلاد، فانطلقتْ حربُ التحرير الوطني التي استمرّت سنوات في أُفق استكمال التطوُّر الطبيعي للبلد وبناء الدولة الحديثة بعيدًا عن قبضة الاستعمار الأوروبي بعد انسحاب المُستعمر رسميًا عام 1820.

عبر مسارها الطويل كابدت الأرجنتين وَيلات الانقلابات العسكرية، وعدم الاستقرار السياسي الذي أهلك البلاد وحطَّم الاقتصاد الوطني وسبّب التضخُّم وارتفاع المديونية الخارجية والإفلاس، رغم أن البلاد تُعتبر من الاقتصادات الكُبرى في القارة وفي العالم، ونجم عن ذلك رُهاب الاختناق الاجتماعي، وتراكُم الإخفاقات الوطنية وانخفاض منسوبُ الرجاء بتوالي الخَيبات السياسية العمومية. كُلّما صَعَد الناسُ أعلى درجات الرجاء أُنزِلوا إلى أدْنى اليأس الاجتماعي، شعبٌ يُشبِه جُغرافيَته في لقاءٍ قدري فريد، ففي الأرجنتين توجد أعلى وأدنى نُقطة من مستوى البحر بقارة أميركا الجنوبية. ما بين مقام أقصى الرجاء وأدنى اليأس العام أٌقام الناسُ صَلاتَهم، وسَلَّم الشعبُ هويتَه إلى الكرة، كأنما يَبحثون عن نصر في عالم مثالي، عُلوي، تَركوا لأجله شُؤون الدنيا وارتفعوا إلى مصاف الزُّهاد والمُتَبَتِّلين في عالمٍ صوفي سَحرَتهم وأخذَتْهم الكرة التي أصبحتْ هويَّتَهم البديلة، اتخذُوها أيقونةَ وجودٍ، لأنها تعبيرٌ عن الشغف والمسعى الجماعي، جعلوا الكرةَ طقسًا شعائريًا وروحيًا لفريق الناس. نعم أمام كساد الاقتصاد واللاستقرار السياسي لشعبٍ جَرّب 4 رؤساء في 3 أسابيع، فإن سَدى الأمّة يَنْحَلُّ وتصيرُ الأرواحُ في حاجة إلى المعنى الجامع وإلى شيءٍ يُؤلِّف بين أفرادها وفِئاتها، فكانت الكرةُ هي التِّرياق الشافي والمعنى الناظم لحياةِ الناس أكثر من أيِّ شيء آخر في دُنياهم. في لحظة ميلادٍ تاريخي استجابت الحياةُ بظهورِ نبيِّ الكرة الأرجنتينية دييغو مارادونا، هذا الذي حمل أحلام شعب وآلامَه، ونَقلَهُ من هامش العالم إلى سُؤدد الاحترام والتقدير الكوني، ليَمنح شعبَه ما افتقدَه في كل شؤون الحياة. استحقُّوا الاحترام والتعاطُفَ من العالم لأن الكرة عندَهم ليست ماركة تجارية، وليست تَرَفًا لتَزجية الوقت، ولكنها قِبلةُ انتماء وحَجٌّ للأرواح المُعذَّبة إذْ فيها يَتحقّقُ المعنى المُجرَّد وبها يَتجلّى المثال الأعلى وفيها ينتظِمُ النشيد القومي. إنه شعبٌ قَدّم البُرهان الجازم بأن كرة القدم مُمارَسةٌ ونشاطٌ إنساني هو الأقدر على تجميع الناس وتأليف الجموع من مختلف التصنيفات والحواجز التي اعتاد عليها البشر.


لعنةُ البطل... لعنةُ المُقارنة

بعد أن وهَنَ العظمُ من نبيِّ الزُّهاد ومجاذيب الكُرة، اجتمعتِ البلادُ وأجمعتْ على منع الرقم 10 وبقي وقْفًا على ذكرى النبي الأول مارادونا الذي بقيت روحُه مُعذَّبة مُحترِقَةً من أجل ميلاد وإشراق جديد، رقمٌ هو رمزٌ مُقدَّسٌ على الروح الناظم، والمُحرِّك الأكبر. ومرة أخرى أَشْرَعَ الناسُ قُلوبَهم، وقَعَدوا على أعتاب التاريخ حَزانى يَتامى يَنتظرون العناية الكُروية لتَمنَحهم معنى جديدًا. وأخيرا وجدوه في واحد من أضعف خَلْقِهم، فتى عليل، هو ليونيل سكالوني ميسي، لا يَقدر جسدُه على النمو الطبيعي للإنسان، فأصبح هو لا غيرُه الإنسانَ الخارق ومَرسول العناية الكروية الجديد ليَهب البلاد فرَحَها ويُواصَل سِفر الجنون الساحر في عالم المُثُل.

حقّق ميسي ما لم يُحقِّقه لاعبٌ آخر في تاريخ الكرة، لكن المطلب الوطني بقي بعيدًا حتى مع تحقيق الكأس القارية لكوبا أميركا في عام 2021 في كورونا التي غَيَّبت جماهير شعب تَرك الدُّنيا وفَضّل عنها الكُرة، ينتظر منها فرحَه وسعادَته، جمهورٌ يَبيع ما يَملك لشراء تذكرةَ سفرٍ ومُناصَرة الفريق، لأن الفردَ فردٌ أما الفريقُ فهو الهوية، فمن أجل الانصهار يَتلاشى الفردُ ليصير فريقًا وجماعةً من العُبّاد والمَجاذيب. في 25 من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2020، تواطأ لفيفٌ من الأفّاقين لإطفاء وهج النجم مارادونا بوفاة مُلْتبِسة كما هو تاريخُه المُلتبس، لكن حُبَّه سطَع كشمسِ الأرجنتين في سماءِ العاشقين، هذا الوِزْرُ والضغطُ  التاريخي أثقلَ كاهِلَ البطل الفَتِي ميسي، حتى إن مجانين العاشِقين في لحظةٍ حَطّموا تِمثالَه ولَعَنوا جدارياته، لأنهم تَركُوا طريق البابا الأرجنتيني فرانسيس وطلبوا الخلاصَ لدى لاعبِ كُرةٍ أطال أمَدَ شَوْقِهم وتأخَّر في تَخْليصِهم من عذاب أرواحِهم، فبحسب دراسة لوكالة دوتشي فيلا الألمانية، فإن تأثير ميسي على الشعب أكبرُ من تأُثير البابا ابن الأرجنتين فرانسيس. كانت قَدمُ اللاعب بمثابة رجاء وخَلاص للناس.

لكن سرعان ما عاد المُوَلَّهُون إلى تعليق تمائِمِهم على قلب ابن الشمس ميسي، في انتظار لحظُة تحقيق العدالة التاريخية وبقيت لعنةُ البطل تلاحِقُه، قَتَلتْه المُقارنة وبقي الشعبُ يتيما منذ مونديال مارادونا سنة 1986، وفي روزاريو مسقط رأس الفتى، تَيَمُّنًا من الناس باسمِه المُبارَك حمل الآلافُ اسمَه ممّا دفع الحكومة إلى إصدار قرار رسمي يَمنع إطلاق اسم ميسي على المواليد الجُدُد، وصار الناسُ يُسَجِّلون مواليدَهم في مُقاطعات أخرى هربًا من القيد.

مونديال التقليد التاريخي

إدراكًا من فتى المَجاذيب أن كثيرًا منهم تُعساء وتكفيرًا عن عُقدة الذنب دَفع تذاكر المئات منهم في موسم الشعائر الكُروية بقطر، أما هم فقد آمنوا به للمرّة الأخيرة في حياتِه الكُروية، تَحَلّقوا حولَه للمرة الأخيرة، أَوْدَعُوا الفتى العليل أرواح أمَّة واستأمنوه على قُلوبِهم ومَضَوا إلى المَحفل حَيارى. كانوا يَعلَمون أن في الكون قوةً وحركةً تَتضافر وتَتجاذب حتى يَتبلور ويَتفَتَّق حدثٌ ما ليُعَبّرَ عن روح المرحلة التاريخية، ذلك الذي يُسمّى التقليد. كما شَهِدَ العالمُ، كان نهائي مونديال قطر بين الهامش/ الأرجنتين والمركز/ فرنسا لقاءً بروح ملحمية وأطوار رهيبة فَتّاكة على أرض عربية شرق أوسطية للمرة الأولى، وهو ما لم يسبق أن حدث في تاريخ نهايات الكأس بهذه التفاصيل مُجتمِعَةً. لم تكن مُجرَّد لعبة ولكنها كانت معنى لفلسفةِ التاريخ بتحقيق العدالة التاريخية لفائدة البطل الأسطوري في مقام الاكتمال ولشعبٍ مات نَبِيُّهُ وَتَاهَ  يَحملُ الألوية والأيقونات والطبول، والصور والأهازيج بحثًا عن سعادة، وفي النهاية تآلفت كل تلك العناصر الجغرافية والعَددية والنفسية والإنسانية في لحظة اكتمالٍ تاريخي نادرة من أجل بُلوغ أهداف الرسالة على أقدام فتى جعل الإعاقة مِرْقَاةً ومَنح شعبَه معنى الإمكانية وجذوَة الأمل، فتى تَجسّدتْ فيه روحُ التاريخ، ومَلحميةُ النصر، مُؤكِّدًا ومُشْهِدًا الأرضَ أن العالم ليس هو أوروبا، وأن النصر والسُّمو ليس معنى غربيًا خالِصًا، ليونيل ميسي الفتى القادم من بلاد الحُلم، يقول للعالم أنا ابنُ بلاد المعدن الإنساني الحالم، معنى الفضة الحقيقي، أنا الذي أقمتُ التوازُنَ وفتحتُ آفاقًا لمُقاوَمة العجز واليأس الجماعي، أنا الذي كتبتُ بقدمي جغرافيا الفرح وأقمتُ عدالة السعادة والنصر ورسمتُ للمجانين المَجاذيب في شمس بلادي قَوسَ قُزح. نعم هم أبناءُ الشمس، مهابيلُ المُدَرَّجات، العاطفيون جدًا، لا نفعيون ولا انتهازيون، العائِشون بروح الأخْفِياء، تَكفيهم أغنيةٌ ورغيفٌ وكرةٌ ليَكونوا نُبلاءَ السعادة في العالم.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.