}

عن كلّ العوالم الممكنة

تيموثي أندرسن 16 أكتوبر 2023
ترجمات عن كلّ العوالم الممكنة
الحياة الكاملة المثالية أقربُ إلى الجحيم (Getty)
ترجمة: لطفية الدليمي

فكرة العوالم المتعدّدة Multiple Worlds، التي لطالما كانت مادّة مخصوصة للتأمّل الفلسفي، حازت زخمًا فنّيًا وأدبيًا معاصرًا بتأثير الفيزياء الحديثة.

 

عندما كنتُ في أواسط ثلاثينات عمري، جابهني موقفٌ تطلّب منّي اتخاذ قرار صعب. كان لذلك القرار مفاعيل ستبقى آثارها معي لسنوات طويلة، وليست نادرة تلك الأوقات التي ملأ روحي فيها الندم بسبب ذلك القرار الذي استوجب أن أتّخذ خيارًا بين خيارين لعروض العمل المتاحة أمامي حينذاك: الأول هو العمل في  تجربة فيزيائية عملاقة تترتّب عليها نتائج حاسمة، ومكان العمل هو الساحل الغربي من الولايات المتّحدة في منشأة تدعى (منشأة تجارب الاحتراق الوطنية NIF وقد حصل أن حققت هذه المنشأة في عام 2014 انعطافة حاسمة في تجارب الاندماج النووي. أما عرض العمل الثاني فكان الانضمام إلى معهد بحثي في جامعة أميركية. أرهقني التفكير لأسابيع عدّة بشأن الخيار الصائب الذي ينبغي لي اتخاذه؛ فقد كان لكلّ من الخيارين حسناته وسيّئاته. عملتُ خلال هذه الأسابيع المضنية على الاستئناس برأي أستاذ فيزياء لي في مدرسة الدراسات العليا في جامعتي التي درستُ فيها. كان أستاذًا أكنُّ له احترامًا عظيمًا، وأرشدني إلى اختيار العمل في معهد البحث الجامعي، وهذا ما فعلته.
في السنوات اللاحقة، وحيثما بدا عملي باعثًا على الملل ومفتقدًا إلى الإلهام، أو متى ما دفعتني تقلّبات عملية تمويل البحوث إلى اتخاذ مسارات بحثية ومهنية ما كانت تروق لي، أو ـ وهذا أسوأ الأمور وأشدّها وطأة على روحي ـ عندما كانت أخبار نجاحات NIF المبهرة تتناهى إلى مسامعي فقد كان عقلي في كلّ تلك اللحظات يتساءل في حيرة واضطراب: ماذا لو...؟ تخيّلْ نفسك لو كنتَ قد اتخذت خيار العمل الثاني في ولاية أخرى تبعد آلاف الأميال عن ولايتك الحالية. تخيّل الحياة الأخرى المختلفة التي لن تعيشها أبدًا.
كنتُ أتساءل ثمّ أعود ثانية لأتملّص من مشقّات هذا السؤال والنتائج المترتبة عليه. كنتُ ألتمسُ الراحة والسكينة بالقول: من عساهُ يمكنُ أن يعلمَ شكل حياتي الثانية (المتخيّلة)؟ ربما ما كانت لتكون إلا أسوأ من حياتي الراهنة (الحقيقية).
كلّ حياة بشرية لا تخلو من الألم. حتى الحياة التي توصفُ بأنها (حياة مثالية Perfect Life) حيث يمكنك حيازة كلّ شيء ترغبه فيها، هي في النهاية حياة تخفي مشقّاتها ومكابداتها الفريدة من نوعها. كتب فريدريك نيتشه/ Friedrich Nietzsche في كتابه الأشهر "جينيالوجيا الأخلاق/ The Genealogy of Morals" عام 1887:
 "الإنسان: أشجع الحيوانات وأكثرهم عرضة للمعاناة، لا ينكرُ تأثير المعاناة فيه بكلّ ما هي عليه في حقيقتها؛ بل هو يرغبها، يرحّبُ بها، ويبحثُ عنها ويطلبها شريطة أن تنطوي على معنى، وأن تكون ثمّة غاية ومقصدٌ لهذه المعاناة....".
إنّ حياةً تبدو كاملة مثالية لهي أقربُ إلى الجحيم متى ما افتقدت المعنى والغاية. ستكون جحيمًا حقيقيًا حتى لو حفلت بكلّ أشكال الراحة.




في بحثنا عن المعنى في الحياة يحصلُ في الغالب أن تنتابنا تخيلات مثيرة أقرب لمشهديات فانتازية حول شكل مسارات الحياة وطبيعتها التي لم نختبرها. هذه الحيوات البديلة التي لم نعشها قد يكون لها زخم الواقع وقوته وسطوته؛ لكن بمفاعيلها الخاصة، وربما قد تكون واقعية بمقدار (واقعية) الحياة التي نعيشها!! في روايته التي أسماها مكتبة منتصف الليل/The Midnight Library المنشورة عام 2020 يستكشف مات هيغ/Matt Haig هذا المفهوم. نقرأ في الرواية عن امرأة تدعى نورا سيد، تُمْنَحُ لها إمكانية عيش الحيوات التي لم تعشها فيما لو كانت اتخذت خيارات أخرى غير تلك التي اتخذتها، وكلّ حياة بديلة من حيواتها ستكون محتواة في كتاب بمكتبة لانهائية. عندما تختارُ نورا كتابًا من تلك الكتب في تلك المكتبة فسيكون في مقدورها معاينة الحياة (البديل) التي لم تعشها في ذلك العالم (البديل)، وستبقى هذا القدرة متاحة لها طالما شعرت بالراحة. كلّ عالمٍ ممكن يصبحُ واقعًا حقيقيًا. تجربة مثيرة وفانتازية إلى أبعد الحدود المتصوّرة.

وظّف الفيلسوف التحليلي الأميركي المعاصر ألفين بلانتينغ الأفكار اللاهوتية للايبنز في إخراج عمله المميز بشأن العوالم الممكنة "طبيعة الضرورة"


لقرون عديدة، حلم الفلاسفة بعوالم بديلة؛ لكنّ مَقْدَم الفيزياء الكمومية، والحاجة إلى بلوغ تفسير تنبؤات النظرية المضادة للحدس البشري، هو وحده ما جعل إمكانية وجود العوالم البديلة تبدو أمرًا واقعيًا. نشأت بواكير هذه النظرية (تفسير العوالم المتعدّدة/ The Many Worlds Interpretation التي تُخْتَصر بالحروف الثلاثة MWI) في خمسينيات القرن الماضي، وأوّل من نادى بها هو طالب فيزياء أنهى دراساته العليا حديثًا هو هيو إيفيريت/ Hugh Everett. أثارت النظرية في بدايتها قليلًا من الضجة، ثمّ حصل ارتقاء وشيوع لمفاهيم هذه النظرية في سبعينيات القرن الماضي من جانب الفيزيائي Bryce DeWitt، إلى حدّ فجّرت فيه هذه النظرية المخيال الجمعي العام، وأثمرت عن طفرة نوعية مميزة في الفن والثقافة. إنها فانتازيا غريبة ومثيرة؛ إذ أنّ نظرية فيزيائية وضعها فيزيائيون لتلبية حاجة إلى تفسير سلوك الوحدات البنائية الأصغر في كوننا صارت هي ذاتها الدافع الأعظم الذي حفّز نقاشات ثقافية رفيعة بدأت من أعماق الفلسفة الأكاديمية والعلم ولم تنته مفاعيلها عند مكاتب النخبة الهوليوودية.
المفهوم الحديث للعوالم الممكنة يُنسَبُ إلى الفيلسوف الألماني الموسوعي متعدّد الاهتمامات المعرفية/ Polymath، والمشارك في ابتداع حساب التفاضل والتكامل، والندّ لإسحق نيوتن ـ ذاك هو غوتفريد فيلهلم لايبنز/ Gottfried Wilhelm Leibniz، الذي كتب عام 1710 كتابه الأشهر الثيوديسيا: مقالاتٌ في طيبة الرب، وحرية الإنسان، وأصل الشر/ Theodicy: Essays on the Goodness of God, the Freedom of Man, and the Origin of Evil.
عبارة (أفضل كلّ العوالم الممكنة) ترد في هذا الكتاب، وهي محاولة من جانب لايبنز لحلّ معضلة الشر في عالمنا عبر الافتراض بأنّ عالمنا هو أفضل عالمٍ ممكن، أو بعبارة أخرى: أيُّ عالمٍ ممكن آخر غير عالمنا سيحوي شرًّا أكبر من الشر المشهود في عالمنا؟





اعتمد لايبنز في عمله هذا على عمل آخر أنجزه الكاهن الجزويتي (اليسوعي) الإسباني لويس دي مولينا/ Luis de Molina، الذي عاش في القرن السادس عشر. رأى مولينا أنّ الربّ يعتمدُ معرفة وسطى/ Middle Knowledge وهي معرفة الرب لما سيفعله أي شخصٍ لو وُضِع في موقف ما. أفعالُ أيّ شخص منّا ثابتة في أيّ عالم ممكن؛ لكنّ هذه الأفعال قد تختلف عند الانتقالة من عالمٍ ممكن إلى عالم ممكن آخر بسبب اختلاف ظروف الحياة في كلّ من العالميْن؛ لذا فإنّ الرب منحنا نوعًا من الإرادة الحرّة التي تعدُّ متطلبًا ضروريًا لجعلنا مسؤولين عن أفعالنا؛ لكنّ الرب من جانبه، ولكونه يمتلك معرفة وثيقة بما سنفعله، فإنّه يضعنا في أفضل عالم ممكن لأكبر عدد من البشر. تكون خياراتنا كبشر في مثل هذا العالم محدّدة بصورة مسبّقة/ Predetermined، وتفترض الرؤية اللاهوتية لمولينا أنْ حتّى الرب يحتاج للتضحية ببعض البشر (الأقلية) من أجل خلاص الآخرين (الأكثرية).
وظّف الفيلسوف التحليلي الأميركي المعاصر ألفين بلانتينغا/ Alvin Plantinga الأفكار اللاهوتية للايبنز في إخراج عمله المميز بشأن العوالم الممكنة، والذي اختار له عنوان طبيعة الضرورة/ The Nature of Necessity، ونشره عام 1974. الأمر مع بلانتينغا شبيه بما فعله هيغ في روايته؛ فهو (بلانتينغا) يتصوّرُ وجود مكتبة عظيمة من الكتب، وكلّ كتاب فيها يعود إلى عالم ممكن. يعرّفُ بلانتينغا الكتاب العالمي (الشامل) بأنّه كلّ شيء حقيقي/ true (متضمّنًا كلّ شيء ضروري)؛ أي بمعنى كلّ شيء حقيقي في كلّ العوالم، وليس في عالم واحد بعينه، وكذلك كلّ شيء له واقعية مشروطة/ contengent (بمعنى أن يكون حقيقيًا في بعض العوالم فحسب، وليس في جميعها). إنّ كلّ عالم ممكن بحسب رؤية بلانتينغا له كتاب واحد (واحد فحسب!!) من الأشياء الحقيقية.

في "جينيالوجيا الأخلاق" لنيتشه، ثمّة غاية ومقصدٌ لمعاناة العيش... وفي "مكتبة منتصف الليل" لـ مات هيغ بحث عن "بديل" 


يصف بلانتينغا الفرق بين الحقائق (الضرورية) و(المشروطة) بالطريقة التالية: هل كان من الممكن أن يكون سقراط صرصارًا أو تمساحًا استوائيًا؟ نعم، من الممكن. ثمة عالم ممكن حيث يستيقظ فيه سقراط ليجد نفسه صرصارًا كما حصل في الرواية القصيرة (النوفيلّا) التحوّل Metamorphosis التي كتبها فرانز كافكا عام 1915 . نستطيع القول إنّ سقراط باعتباره كائنًا بشريًا ليس بالأمر الضروري اللازم، لكنه حقيقة تصادفية طارئة ومشروطة في عالم بذاته (هو عالمنا ـ المترجمة). على العكس من مثال سقراط فإنّ الاستلزامات الرياضياتية على شاكلة 1+1=2 وكلّ البراهين المنطقية هي صحيحة في كلّ العوالم. لماذا؟ لأنها ضرورية.
تعامل بلانتينغا مع فكرة العوالم المتعددة الممكنة مثلما فعل كلّ من لايبنز ومولينا؛ لكنه مع هذا أكّد وجود عالم حقيقي واحد. العوالم المتعددة الممكنة بقدر ما يختصُّ الأمر ببلانتينغا هي مفهوم مفيد للفلاسفة للتفكّر فيه واستخلاص نتائج مثيرة منه؛ لكنّ العوالم المتعدّدة لا توجد كعوالم حقيقية.
من جانب آخر، فإنّ تفسير العوالم المتعدّدة MWI في فيزياء الكم ينبئُنا بأنّ كلّ العوالم الممكنة توجد، وأنّ العالم الذي نعيش فيه لا يختلف عن أيّ عالم من العوالم الممكنة. تفيدنا واحدة من صياغات تفسير العوالم المتعددة بوجود نسخة ثانية مطابقة لك ولبيتك ولعائلتك في مكان ما. إنّ فكرة وجود العوالم المتعدّدة بالنسبة إلى الشخص العادي قد تبدو مربِكة له لأنها تنزع عنّا فردانيتنا الشخصية المميزة لكلّ واحد فينا؛ أما بالنسبة للفلاسفة على شاكلة بلانتينغا، ففكرة العوالم المتعددة مربِكة، لأنها تنتزع مفهوم وحدانية الحقيقة من مركزيته وجوهرانيته في التفكير البشري.


هامش:
تيموثي أندرسن/ Timothy Andersen: فيزيائي أميركي يقود فريقًا بحثيًا في معهد البحوث التابع لمعهد جورجيا التقني Georgia Institute of Technology. مؤلّف كتاب الكون اللامتناهي/ The Infinite Universe (2020).

المادة المترجمة أعلاه هي جزء من مادة مطوّلة نشرها أندرسن بعنوان (كلّ العوالم الممكنة All Possible Worlds) في موقع Aeon بتاريخ 15 يونيو/ حزيران 2023.
أدناه الرابط الإلكتروني للمادة المنشورة لمن يشاء قراءة المادة الأصلية كاملة:

https://aeon.co/essays/multiple-worlds-has-been-given-artistic-impetus-by-physics

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
16 أكتوبر 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.