ترجمة: سارة حبيب
إن القالب النمطي الرومانسي القائل بأن الإبداع يُعزَّز باضطرابِ مزاج هو قالبٌ خطير، ويتبدّد عندما يخضع إلى تدقيق متأنٍ
هل الإبداع مرتبط بطبيعته باضطرابات المزاج؟ يقول معتقد شائع اليوم بأن ثمة علاقة وثيقة بين الاثنين. لنأخذ مثلًا النماذج الشائعة في مجال الإبداع: فينسنت فان غوخ، سيلفيا بلاث، فيرجينيا وولف، إزرا باوند، آن سكستون (وآخرون لا يُحصَون)؛ هؤلاء جميعًا يبلغون ذرى إبداعية جديدة عندما يعانون من اضطراب عقليّ شديد من نوع ما. تعود فكرة الربط بين الإبداع واضطراب المزاج إلى الحقبة الرومانسية حين كان يُعتقد بأن الاضطراب العقلي هو علامة على الإبداع؛ وهي فكرة لا تزال حاضرة اليوم على نحو لافت. لكنْ، هل يوجد سبب علمي يدعونا للاعتقاد بوجود ربط؟ إن محاولة الإجابة عن هذا السؤال توضّح مدى صعوبة تناولِ مشاكل عويصة متعددة الطبقات مثل هذه باستخدام البحث العلمي. فالمسألة ليست بمباشرةِ مجرد معرفة فيما إذا كان "الإبداع" مرتبطًا ارتباطًا متبادلًا بـ"اضطراب المزاج". علينا أن نتعمق أكثر.
إن العلاقة بين الاثنين متغلغلة في عقل العامة لعدة أسباب. بالنسبة إلى الكثيرين، تأتي فكرة "الشخص المبدع" من وسائل الإعلام الشعبية التي تُغرِقنا بقصص إخبارية وتصوريات سينمائية عن الفنان الذي يعاني والعبقري المجنون. وثمة توصيفات قصصية أقرب إلى حيواتنا الحقيقية: الكثير منّا سمع قصصًا عن شخص ما يعاني من اكتئاب شديد– إنما أيضًا يبدع شعرًا جميلًا. إن سماع هذه التوصيفات بشكل متكرر يعزّز قالبًا نمطيًا. فعندما نرى شيئين فريدين يحدثان معًا مرارًا وتكرارًا (على سبيل المثال، إبداع استثنائي واضطراباتُ مزاج)، يصبحان مقترنين في عقولنا، ما يؤدي إلى خلق ما يسمى "علاقة متبادلة وهمية".
يتضاعف هذا الأثر بفعل ما يُدعى "التوافر الإرشادي" الذي نحكم فيه على مدى شيوع شيء ما من مدى سهولةِ وروده إلى الذهن. فإذا كان تمثيلنا العقلي لشخص مبدع مبنيًّا على فكرة ربط العبقرية والاضطراب، سيكون تذكر الأشخاص المبدعين الذين يعانون من اضطراب أسهل علينا من تذكر أولئك الذين لا يعانون من اضطراب. وهذا بدوره يجعل الربط يبدو أكثر شيوعًا. يحدث هذا النوعان من التحيز لا شعوريًا وغالبًا ما يكونان خارجين عن سيطرتنا. ووحدها دراسة المسألة علميًا، تلك التي تمكنّنا من الحد من تحيزنا إلى أكبر حد ممكن، هي ما تجعلنا نفهم حقًا فيما إذا كان الإبداع مرتبطًا باضطرابات المزاج.
إن الدراسة العلمية للإبداع واضطرابات المزاج محدودة. ثمة مراجعات وشروحات تناقش لماذا قد توجد علاقة وكيف توجد، لكنها أكثر بكثير من الدراسات التي تتفحص إذا كان ثمة علاقة على الإطلاق. كذلك، الدراسات التي تسأل بالفعل هذا السؤال الجوهري تعاني في أغلب الأوقات من مشاكل منهجية تسبّب تحيزًا ينجم في جزء منه عن الطرق المتوفرة لقياس الإبداع واضطرابات المزاج، وعن الالتباسات المتأصلة في المفاهيم ذاتها. لذلك، من المهم أن نفهم مدى صعوبة إثبات ارتباط يتمتع بدقة علمية.
يعرّف الباحثون في مجال الإبداع عمومًا "الإبداع" على أنه مبتكر (أصيل أو فريد) ومفيد (ملائم). لذلك، "الشخص المبدع" هو الشخص الذي يتمتع بالقدرة على إبداع منتجات أو أفكار مبتكرة ومفيدة، و"العملية الإبداعية" هي العمليات العقلية التي يتشكّل بواسطتها منتجات أو أفكار مبدعة. لكن، ولأن أيًا من هذه المفاهيم ليس قابلًا للقياس بشكل مباشر، على الباحثين أن يأتوا بمؤشرات للإبداع تمكنّهم من استنتاج ما إذا كان الشخص مبدعًا أو منخرطًا في عملية إبداعية أم لا. وهذا على وجه الخصوص أمرٌ دراسته مراوغة. الإبداع معقد، والتقييمات محدودة. وهي عادة تقيس مؤشرًا واحدًا للإبداع (مثل خصائص الشخصية الموجودة عادة في الأشخاص المبدعين أو الإبداع المقيَّم ذاتيًا لمنتج ما، مثل قصيدة) وفي مجال واحد فقط (كالعلم مقابل الفن). بالتالي، إذا قمنا بقياس إبداع شخص بأن نطلب منه أن يكتب قصيدة، لا يجب القيام باستنتاجات حول قدرة الشخص الإبداعية في العلم. يجب أن يُنظَر بعناية في منهج تقييم الإبداع، فبعض أنواع اضطرابات المزاج قد تكون مرتبطة ببعض أنواع الإبداع، إنما ليس أنواع أخرى.
كذلك، اضطراب المزاج ليس قابلًا للقياس بشكل مباشر. بالأحرى، يجب أن يُشخَّص بناء على سلسلة من التصرفات والأعراض التي هي في حد ذاتها يمكن أن تكون صعبة التحديد. تتميز اضطرابات المزاج بأنماط محددة من النوبات المزاجية: اكتئابية، هوسية، و/أو تحت هوسية. النوبات الاكتئابية يمكن أن تحدَّد بأشياء مثل تناقص المتعة بممارسة النشاطات المعتادة، التعب، وانخفاض القدرة على التركيز. من جهة أخرى، الشخص الذي يعاني من آلام نوبة تحت هوسية سيعاني من مزاج مرتفع أو انفعالي بشكل غير اعتيادي، طاقة متزايدة، اعتداد بالنفس مبالغ فيه، وأفكار متسارعة. أما النوبات الهوسية فمشابهة، إنما تدوم لزمن أطول وتكون أكثر شدة، حتى أنها أحيانًا تتطلب الدخول إلى المستشفى. التفسير المبسّط أكثر من اللازم لهذه الحالات هو أن شخصًا يعاني من نوبة اكتئابية قد يُشخّص بالاضطراب الاكتئابي الشديد، في حين أن شخصًا يواجه نوبة اكتئابية ونوبة تحت هوسية قد يشخّص باضطراب ثنائي القطب من النوع 2. أما الشخص الذي يعاني من نوبات هوسية (ويمكن أيضًا أن يعاني من نوبات اكتئابية) فيمكن أن يشخَّص باضطراب ثنائي القطب من النوع 1. إن كل نوع من أنواع الاضطراب يمكن - ويمكن ألا- يكون مرتبطًا بنوع محدّد من الإبداع.
يندرج البحث في رابط الإبداع/اضطراب المزاج ضمن ثلاث فئات متمايزة. الأولى تقارن حالات اضطرابات المزاج التي يُظهرها الأشخاص المبدعون بحالات اضطراب المزاج عند الأشخاص الأقل إبداعًا؛ الثانية تقارن إبداع الأشخاص ذوي اضطرابات المزاج بإبداع الأشخاص الذين ليس لديهم تلك الاضطرابات؛ والثالثة تتفحص ما إذا كانت أعراض اضطرابات المزاج ترتبط بالإبداع أم لا (عادة عند عموم الناس أو التلاميذ). وكل مقاربة من هذه قادرة على الإجابة عن سؤال مختلف. على سبيل المثال، سؤال: "هل يعاني الأفراد المبدعون من اضطرابات مزاج أكثر من غيرهم؟" هو سؤال مختلف عن: "هل يتمتع الأفراد ذوي اضطرابات المزاج بإبداع أكثر من غيرهم؟". إن الوصول بطريقة خاطئة إلى استنتاجات حول الإجابة عن أحد السؤالين من خلال دليل على أو ضد السؤال الآخر يُعرَف باسم "مغالطة العكس" التي هي شائعة جدًا في مسار البحث هذا. وهذا يفسّر، جزئيًا، لماذا تكون منطقة البحث هذه مشوشة للغاية.
للحصول على بعض الوضوح حول العلاقة بين الإبداع واضطرابات المزاج، أجريتُ ثلاثة تحليلات تَلوية (أي، تحليلات للدراسات التي أُجريت سابقًا)؛ واحدة لكلّ من مناهج البحث المذكورة في الأعلى. وهذا التكتيك جمع حجوم التأثير لكلّ الدراسات ذات العلاقة. في النتيجة، كما هو متوقع، كانت النتائج مختلفة بين تحليل الدراسات التي تقارن اضطرابات المزاج عند الأشخاص المبدعين والأشخاص الأقل إبداعًا وتحليل الدراسات الذي تقارن الإبداع عند الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات مزاج والأشخاص الذين لا يعانون. على الرغم من أن المبدعين يُظهرون بالفعل حالة اضطرابات مزاج من الأنواع الثلاثة أكثر من الأشخاص الأقل إبداعًا (باستثناء الاضطراب الاكتئابي المستمر؛ اضطراب اكتئابي مزمن وأقل شدة)، التحليل الذي يقارن إبداع الأفراد الذين يعانون من اضطراب مزاج والأشخاص الذين لا يعانون من أي اضطراب عقلي كانت فروقه دقيقة أكثر. إن إبداع الأشخاص الذين يعانون من اضطراب مزاج لم يختلف عن إبداع أولئك الذين لا يعانون. لكن، كان ثمة فروق في بعض مجالات الإبداع (الأشخاص الذين يعانون من اضطراب مزاج كانوا أكثر إبداعًا في مجال الأداء المسرحي أو الموسيقي والإبداع اللفظي) وفي اضطرابات محددة (اضطراب دَورويَّة المزاج واضطراب ثنائي القطب غير المحدد). لكن بالطبع، التحليلات التلوية بطبيعتها ترث القصور المنهجي للدراسات التي تحلّلها. لذلك، إذا كانت الدراسات التي تدخل في التحليل التلوي متحيزة، فإن خلاصات التحليل التلوي قد تعاني هي ذاتها من التحيز. لذلك، من المهم جدًا فهم سياق كل تحليل، لنقترب بذلك من فهم العلاقة النفسية.
"هل معاناتك من اضطراب مزاج تجعلك أكثر إبداعًا؟"- ذلك هو أكثر سؤال أسمعه في شأن العلاقة بين الاثنين. لكن، لأنه ليس بوسعنا التحكم بحالة اضطراب المزاج (أي، لا نستطيع أن نشغّلها ونوقفها، ونقيس إبداع الشخص في ظلّ كلا الحالتين)، على السؤال أن يكون بالفعل: "هل الأفراد الذين يعانون من اضطراب مزاج يُظهرون إبداعًا أكثر من أولئك الذي لا يعانون؟"... الدراسات التي تحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال مقارنةِ عبقريةِ الأفراد الذين يعانون من اضطراب المزاج والأفراد الذين لا يعانون منه قد اختلطت في الواقع.
الدراسات التي تطلب من المشاركين فيها أن يملؤوا استطلاعات عن الشخصية الإبداعية، السلوك أو الإنجاز الإبداعي، أو أن يملؤوا استبيانات قياسِ تفكيرٍ مختلفة (يطلب إليهم فيها توليد الكثير من الأفكار) غالبًا ما تجد أن الأفراد الذين يعانون من اضطرابات المزاج لا يختلفون عمن لا يعانون منها. لكن، الدراسات التي تستخدم "المهنة الإبداعية" كمؤشر للإبداع (بناء على افتراض أن أولئك الذين يعملون في تلك المهن هم نسبيًا أكثر إبداعًا من الآخرين) وجدت أن الأشخاص الذين يعانون من أنواع اضطراب ثنائي القطب مُمثّلون تمثيلًا زائدًا في هذه المهن. وهذه الدراسات لا تقيس إبداع المشاركين بشكل مباشر، بل تستخدم سجلات خارجية (مثل الإحصاءات السكانية والسجلات الطبية) لحساب عدد الأشخاص الذين لديهم تاريخ إصابة باضطرابات مزاج (مقارنة بمن ليس لديهم) ويبلّغون عن كونهم عملوا في مهنة إبداعية في مرحلة ما. تشمل هذه الدراسات عددًا هائلًا من الأشخاص وتقدم دليلًا ملموسًا على أن الأشخاص الذين سعوا للعلاج من اضطرابات المزاج يزاولون مهنًا إبداعية بدرجة أكبر من أولئك الذين لم يسعوا للعلاج. لكن، هل يمكن لـ"المهن" الإبداعية أن تقوم بدور وكيلٍ عن "القدرة" الإبداعية؟
|
تلاميذ الجامعة الذين تم إخبارهم بقصة قطع فان غوخ لأذنه قبل أن يتفحصوا لوحته "عباد الشمس" (1888) نظروا إليها باستحسان أكثر من أولئك الذين لم يتم إخبارهم بالقصة |
أغلب المهن الإبداعية التي تم النظر فيها في هذه الدراسات هي في مجال الفنون التي تمنح غالبًا درجة استقلال أكبر وبنية أقل صرامة من العمل الاعتيادي الذي يمتد من الساعة التاسعة حتى الخامسة. وهذا يجعل تلك الأعمال تفضي أكثر من غيرها إلى نجاح الأفراد الذين يتّسمون باتساق في الأداء بنتيجة اضطراب المزاج. الطبيب النفسي الأميركي أرنولد لودويغ اقترح أن مستوى التعبير العاطفي اللازم لتكون ناجحًا في مهن متنوعة يخلق "انحرافًا مهنيًا" (التطور التدريجي للخليط الوظيفي خلال فترة من الزمن). وأوضح أن نمط المهن التعبيرية المرتبطة بحدوث أكبر لتمظهرات اضطرابات عقلية هو نمط يتسم بالتكرار الذاتي. على سبيل المثال، ترتبط المهن في الفنون الإبداعية بتمظهرات اضطرابات عقلية أكثر من المهن في العلوم؛ في حين أنه، ضمن مهن الفنون الإبداعية، يُظهر المهندسون المعماريون معدلات انتشار تمظهرات اضطرابات عقلية خلال حياتهم أقل من الفنانين البصريين؛ وضمن الفنون البصرية، يُظهِر الفنانون التجريديون معدلات تمظهرات اضطرابات عقلية أقل من الفنانين التعبيريين. لذلك، من الممكن أن الكثير من الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات مزاج ينجذبون نحو هذه الأنواع من المهن، بغض النظر عن مقدرتهم الإبداعية أو ميولهم.
هل يتّسم المبدعون باضطرابات مزاج أكثر من غيرهم؟ للإجابة عن هذا السؤال، على الباحثين مقارنة حالة أو نسبة اضطرابات المزاج عند الأشخاص المبدعين قياسًا إلى الأشخاص الذين يعتبرونهم أقل إبداعًا. ورغم أن أنواع الدراسات هذه تقدم دعمًا متّسقًا إلى حد ما لرابط الإبداع- اضطراب المزاج، فإنها في الحقيقة مثار جدل كبير بين باحثي الإبداع.
لنأخذ مثلًا المنهج الذي يدعى "التشخيص التشريحي". في هذا المنهج يفحص الباحثون السجلات التاريخية والسيرية من أجل تقديم تشخيص بعد الوفاة للأشخاص المبدعين المشهورين. لكن إثبات وجود اضطراب عقلي عند شخص توفي منذ وقت طويل محفوف بالشك في كل خطوة من العملية. لكي يتم تصنيفه كشخص مبدع، على الشخص أن يمتلك إبداعًا ومواصفات نقرنها بالإبداع في ذلك الزمن. لذلك السياق التاريخي هام. على سبيل المثال، ثمة فترات زمنية معينة كان يُعتبر فيها كون المرء مزاجيًا ولا عقلانيًا دليلًا على وجود العبقرية ذاتها، لا سيما في مجال الفنون. لكن، خلال الحقبة الرومانسية كان الكتّاب أحيانًا ينمّون "هالة جنون" لكي يبدو متمتعين بمقدرة استثنائية. وكان من المرجح أكثر أن يُعرَف أولئك الفنانون بوصفهم يمتلكون درجة إبداع كبيرة، ولذلك سُجِّلوا في المصادر التي يستخدمها الكثير من الباحثين اليوم. لكن، ما من طريقة لمعرفة فيما إذا كان الفنان يعاني حقًا من اضطراب مزاج. لذلك، سواء كانت مواصفات الشخص المبدع تلائم بالمصادفة أيديولوجيا العبقرية خلال ذلك الوقت، أو سواء كانت تلك المواصفات، كما اقترح بعض الباحثين، يتم إظهارها بغرض تركِ انطباع، فإن احتمال أن يتم تمثيلها في السجلات التاريخية أكبر من احتمال تمثيلِ شخص يتمتع بقدر مساوٍ من الموهبة والإبداع إنما لا يلائم هذه الصورة.
ثمة عدة مشاكل في المنهج التشريحي. لا بدّ أن الأشخاص الذين يعرفون بكونهم مبدعين تاريخيًا والذين تضمهم دراسات اليوم قد كُتِب عنهم بقدر كاف لإثبات حالة تشخيصية، ومن الطبيعي أن يكون الأشخاص ذوي الحيوات الأكثر إثارة قد تمت الكتابة عنهم أكثر من غيرهم. الحيوات الرصينة لا تحقق مبيعات. في كتابها "خدعة الجنون: فضح أسطورة العبقري المجنون"(2012)، توضّح جوديث سليسنجر هذه النقطة: كتّاب سيرة عديدون تخلوا عن مشاريع حول عازف السَاكسُفون الأميركي باد شانك لأنهم لم يتمكنوا من كشف أي تفاصيل خلاعية عن حياته. بالإضافة إلى ذلك، على كتّاب السيرة أن يرووا قصة، لذلك هم حتمًا يبرزون تفاصيل من حيوات الشخص الذي يكتبون سيرته ويحرّفون تفاصيل لكي يجذبوا قراءهم (أو ربما ليلتزموا بتصوراتهم الرومانسية حول ماهية الإبداع).
أخيرًا، الموثوقية التشخيصية - درجة اتفاق أطباء سريريين وباحثين مختلفين حول تشخيص ما- مضلّلة فيما يخص المرضى الأحياء، ناهيك عن أولئك الذين ماتوا منذ قرون. يعتقد الكثير من الباحثين أن فان غوخ عانى من اضطراب ثنائي القطب. لكن عددًا كبيرًا منهم يصرّ بشدة على أنه في الواقع عانى من انفصام شخصية، صرع في الفص الصدغي، سفلس، داء مينيير، أو تسمم بالأفسنتين أو بالرصاص. في الحقيقة، في حدَثٍ جرى برعاية متحف فان غوخ في أمستردام عام 2017، لم تتمكن غرفة مليئة بالأطباء ومؤرخي الفن من الوصول إلى إجماع حول سبب معاناة الفنان. (من الجدير بالملاحظة أيضًا أن قاعدة غولدووتر في الجمعية الأميركية للطب النفسي تقترح أنه لا يجب أبدًا تقديم تشخيص يخصّ أشخاصًا لم يفحصهم الطبيب النفسي شخصيًا). بالتالي، النظر إلى الماضي لإثبات ارتباط بين الإبداع واضطراب المزاج هو، إن كان ممكنًا، أكثر صعوبة من تفحص الحاضر.
ماذا عن الدراسات التي تستخدم التشخيص الشخصي والتي تقول إن الأشخاص المبدعين يُظهرون حالات اضطرابات مزاج أكثر من الأشخاص الأقل إبداعًا؟ قد تكون تلك الدراسات عرضة للتحيز كذلك، بما أنها تفتقر غالبًا إلى أخذ العينات العشوائي و/أو إجراءات تعمية المجرِّب. فعلى الرغم من أن الباحثين النفسيين لا يستطيعون غالبًا سوى الاقتراب من تحقيق أخذ العينات العشوائي، الهدف هو ضمان أن يكون لكل شخص ضمن مجتمع إحصائي محدد فرصة مساوية بأن يتم اختياره ليشارك في الدراسة، وهذا ما لا يحدث. فمعظم الذين يتم اختيارهم ليكونوا ضمن المجموعات الإبداعية هم كتّاب أو فنانون ناجحون، في حين أن أولئك الموجودين في المجموعة الأقل إبداعًا هم عادة أشخاص عاديون يعيشون في مكان قريب من المكان الذي تجري فيه الدراسة. وهذا يشكّل مشكلة بما أنه توجد اختلافات قد تتفاوت بشكل منهجي بين المجموعات: على سبيل المثال، الأشخاص الذي حققوا نجاحًا إبداعيًا حقيقيًا يواجهون عادة توترًا ناجمًا عن كونهم محط أنظار الناس، في حين أن الشخص العادي لا يواجه ذلك. وذلك المكّون وحده يمكن أن يعلّل أي اختلافات في حالات اضطراب المزاج، نظرًا لأن التوتر هو سبب رئيسي لنشوء اضطرابات المزاج.
بالإضافة إلى ذلك، تُحدّد الحالة التشخيصية بانتشار الاضطراب طيلة عمر الشخص، أو إذا كان قد مرّ قط بالأعراض المرتبطة بالاضطراب. وإحدى المشاكل التي يواجهها الباحثون الذين يجرون مقابلات تشخيصية حين يطلبون إلى الناس تذكّر أعراضهم هي ما يُدعى "انحياز الاستدعاء". يعني هذا الانحياز أنه عندما يُطلب من الأشخاص المبدعين استدعاء فيما إذا كانوا قد مروا بأعراض اضطراب مزاج، فإن من المرجح كثيرًا أن يتذكروا أعراضًا يرون أنها تؤثر على إبداعهم، في حين أن الأشخاص في مجموعة المقارنة "الأقل إبداعًا" سيواجهون صعوبة أكبر في تذكر أعراض سابقة.
يقودنا هذا إلى العقبة الأهم أمام دراسة علاقة محتملة بين الإبداع واضطرابات المزاج. بما أنه ليس ثمة طريقة موضوعية متفق عليها لقياس أي منهما، الخلاصات التي تخصّ علاقتهما تنتهي إلى أن تكون مبنية على الأعراض. وانظر كيف يشكّل هذا مشكلة: أعراض مثل طاقة متزايدة، طلاقة في الأفكار، تناقص الحاجة للطعام أو النوم وانهماك في المهام للدرجة القصوى يمكن بدقة أن تصف نشاطًا إبداعيًا مكثفًا؛ أو نوبة هوسية/تحت هوسية. فأيّ منهما؟ يواجه الباحثون صعوبة في التحديد.
في الواقع، وجدت إحدى الدراسات أن نسبة 89% من عينة تضم كتّابًا وفنانين مبدعين أشارت إلى أنهم اختبروا أعراضًا تدل على نوبة هوسية/تحت هوسية ونشاط إبداعي (مثل الطلاقة في الأفكار)، لكن فقط نسبة 10% أشارت إلى أنهم اختبروا نوبات من الإنفاق المفرط والمتهور؛ والذي هو صفة مميزة للنوبات الهوسية/تحت الهوسية، إنما ليس للنشاط الإبداعي. كذلك، تم إدراج ازدياد التفكير الإبداعي كأحد أعراض حالة تحت الهوس ذاتها، على سبيل المثال في الطبعة الثالثة من "الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية" (1980). صحيح أن هذا التداخل في الأعراض قد يعكس هو ذاته سببًا كامنًا مشتركًا، لكن هذا أمر يصعب فحصه بما أنه من الممكن جدًا اختبار أعراض متشابهة تعود إلى أسباب كامنة متمايزة. لا أحد سيقترح مثلًا أن الإنفلونزا مرتبطة بطريقة ما بالحمل، لكن يمكن لكليهما أن يسبّبا التعب، ألم الرأس، والغثيان.
في النتيجة، لا أقصد أن أستخفّ بعمل الآخرين. فالبحث النفسي يتطلب قدرًا كبيرًا من الوقت والمصادر، وما من دراسة كاملة. لكن من المهم أن نفهم أن صعوبات دراسة هذا الحقل بدقة علمية يمكن أن تؤثر على الخلاصات. وإذا كان الاكتشاف التحليلي التلوي القائل بأن الأشخاص المبدعين يعانون من معظم أنواع اضطراب المزاج بمعدل متزايد يعكس ظاهرة حقيقية في العالم الواقعي، فإنه قد يشير إلى أن الناس الذين يزاولون مساعي إبداعية لا يتلقون دعمًا ومصادر كافية للحفاظ على صحة عقلية جيدة. أما إذا كان ذلك الاكتشاف يعكس ببساطة تحيزاتنا الخاصة وتصوراتنا الرومانسية عن الإبداع واضطرابات المزاج، فهذا بحاجة لأن يوضَّح من خلال بحث سليم منهجيًا. على أية حال، القالب النمطي القائل بأن الإبداع بطريقة ما يُعزَّز باضطراب مزاج هو قالب خطير، لأولئك الذين يعانون من اضطرابات مزاج ولأولئك الذين يمارسون الإبداع.
الاعتقاد بأن الإبداع يعود إلى عامل كامن غير قابل للضبط يعزّز فكرة أن قلة من الناس قادرون على الإبداع الحقيقي، ما يمنع الكثيرين من إدراك إمكانياتهم الخاصة. كما أنه أيضًا يقلّل من أهمية المهارة والجهد الذي تتطلبه المساعي الإبداعية، إن كان بوسعنا ببساطة أن نعزوها لنتيجةِ اضطراب. كذلك، الربط بين اضطرابات المزاج والإبداع يؤثر على الطريقة ذاتها التي ننظر بها إلى عمل الآخرين الإبداعي: تلاميذ الجامعة الذين تم إخبارهم بقصة قطع فان غوخ لأذنه قبل أن يتفحصوا لوحته "عباد الشمس" (1888) نظروا إليها باستحسان أكثر من أولئك الذين لم يتم إخبارهم بالقصة. على نحو مماثل، وضع التلاميذ سعرًا أعلى لقطعة فنية عندما ذكرت سيرة الفنان الذاتية المختَلقة باختصار أنه كان "يوصف غالبًا على أنه غريب الأطوار".
إن هذه رسالة خطيرة لأولئك الذين يزاولون المساعي الإبداعية، وللمبدعين الذين يعانون بالفعل من اضطراب مزاج: إذا اعتقدوا أن العلاج سوف يُنقص قدرتهم الإبداعية، يمكن أن يمنعهم ذلك من السعي لتلقيه. لذلك، الفحص المُدقّقٌ والخالي من التحيز للإبداع وعلاقته باضطرابات المزاج يجب أن يؤخذ على محمل الجد، ويجب أن يلتزم بمعايير علمية عالية. إنها ليست مهمة سهلة.
كريستا إل. تايلور: باحثة أميركية وحاصلة على دكتوراه في علم النفس. مشاركة أبحاث بعد الدكتوراه في مركز جامعة ييل للذكاء العاطفي. أجرت الكثير من الأبحاث النفسية التي تتفحص فيها الإبداع، المزاج، الابتكار، العواطف، اتخاذ القرارات، وغيرها. تعمل اليوم كمستشارة أبحاث وتقيم في الولايات المتحدة.
رابط النص الأصلي:
https://aeon.co/essays/is-there-any-evidence-linking-creativity-and-mood-disorders