}

الكتابة معرفة روحية

جون فوسيه 4 نوفمبر 2023
ترجمات الكتابة معرفة روحية
جون فوسيه، الفائز بجائزة نوبل للأدب 2023 (Getty)
ترجمة: نجيب مبارك
أفهم القليل جدًّا. ومع مرور السنين، أفهم أقلّ فأقل. هذا صحيح. ولكن العكس هو الصحيح أيضًا، فمع مرور السنين، أفهم المزيد والمزيد من الأشياء. نعم، صحيح أيضًا أنّه مع مرور السنين أفهم أشياء كثيرة، كثيرة لدرجة أنّني أشعر بالخوف تقريبًا. والحقيقة أنّني أشعر بالإحباط بسبب الأشياء القليلة التي أفهمها، وأكاد أشعر بالخوف من كثرة الأشياء التي أفهمها. كيف يمكن أن يكون كلاهما صحيحًا، أنني في الوقت نفسه أستطيع أن أفهم أقلّ فأقل وأكثر فأكثر؟
سيخبرنا التفكير التأملي بلا شك أنّ فهم بعض الأشياء يعني أيضًا فهم الكثير، وأعتقد أن هذا صحيح بمعنى ما، ربما بالمعنى الغنوصي للمصطلح، ما لم يخبرنا هذا التفكير التأملي نفسه بوجود نوعين من الفهم. وربما كان الأمر كذلك. يمكننا أن نقول ببساطة إنه من خلال هذا الشكل من الفهم، الذي يلجأ إلى المفاهيم والنظريات، فإنني أفهم أقلّ فأقل، وأن نطاق هذا الشكل من المعرفة يبدو محدودًا بالنسبة لي أكثر فأكثر، بينما من خلال هذا الشكل الآخر من الفهم الذي يستخدم الخيال والشعر أفهم أكثر فأكثر. ربما هكذا هو الأمر. وعلى أية حال، هذا ما أشعر به، لأنني بعد أن كتبتُ عددًا من المقالات النظرية، تخلّيت تدريجًيا عن هذا الشكل من الكتابة لصالح لغة لا تهتمّ في المقام الأوّل بالدلالة، ولكنّها قبل كلّ شيء "موجودة"، هي بذاتها، تشبه الحجارة والأشجار والآلهة والناس إلى حد ما، ولا تمنح معناها إلا في المقام الثاني. ومن خلال هذه اللغة التي هي موجودة منذ البداية، وذات دلالة، يبدو أنني أفهم أكثر فأكثر، بينما من خلال اللغة العادية، التي تقتصر فقط على نقل المعنى، أفهم أقلّ فأقل.




هذا يرجع أساسًا إلى تجربتي وحكايتي الخاصة. ولتوضيح الأمور، بدأتُ كتابة القصائد والقصص الصغيرة في سن مبكرة لدرجة قد تكون محرجة، نعم، محرجة بسبب صورة الصبي الصغير الذي، في الثانية عشرة من عمره، ينسحب إلى غرفته حيث يُترك دون إزعاج، ليكتب قصائد وقصصًا صغيرة بمفرده، صورة تتوافق تمامًا مع الأسطورة التي من المفترض أن يتماهى معها الفنان، والتي تقول إنه إذا لم يولد المرء فنانًا، فإن عليه على الأقل أن يصبح فنانًا في سن مبكرة جدًا. وفي ما يخصني، فهذا الأمر مناسب تمامًا. رغم أنني متشكك دائمًا في كل شيء يناسبني تمامًا. ومع ذلك، هذه هي الحال. منذ شبابي المبكر كنت أكتب باستمرار، وكانت الكتابة دائمًا غاية في حد ذاتها بشكل من الأشكال، لم تكن نشاطًا أمارسه لقول شيء ما، أو للتعبير عن رأي، ولكن تقريًبا كطريقة للوجود في العالم. كما لو كان المرء يوجد في العالم، كما لو كان يوجد فيه بشكل مُرضٍ، من خلال ما يكتبه، وهذا الذي يكتبه بدوره يوجد هناك، بشكل بديهي، في كامل حضوره. ذلك أنني عندما أكتب نصًا يبدو لي مكتوبًا بشكل جيّد، فذلك يعني أنّني أتيت بشيء جديد إلى العالم، شيء لم يكن موجودًا من قبل، كأنني خلقت حضورًا بطريقة ما، وهذه المتعة التي تجلبها كتابة الشخصيات والقصص، وحتى العوالم التي لم يعرفها أحد من قبل، ولا حتى أنا، تفاجئني وتسعدني. لم يكن أحد يعرف ذلك قبل أن أكتبه أنا. لكن من أين أتى؟ لا أعلم، لأن هذا جديد حتى بالنسبة لي أيضًا. لم أفكر في الأمر من قبل. وهكذا تصبح الكتابة، الكتابة الجيدة، هي المكان الذي ينشأ فيه وجود غير معروف، شيء لم يكن موجودًا من قبل. هذه هي الكتابة كحالة يبزغ منها شيء يمكن أن نسميه تقريًبا بالكون (العالم) يظهر للوجود لأول مرة، وهذا بلا شك هو ما يجعلني، في الكتابة، أجلب لنفسي أعلى درجات المتعة. عالم كامل ينشأ في كل مرة تكتب فيها شيئًا جيدًا. لأن كل نص جيد، حتى لو كان قصيدة، هو بطريقة ما عالم كامل، لم يكن موجودًا من قبل، وينكشف من خلال الكتابة الجيدة.
كثيرًا ما أفكر في الكتابة باعتبارها انحرافًا، كما لو كانت الكتابة مظهرًا من مظاهر هذا الانحراف، مثل الإدمان تقريبًا. لأنك كما يمكن أن تدمن أي شيء، سواء كان جمع الطوابع، أو القمار، أو الهيرويين، كذلك يمكن أن تدمن الكتابة.
بمعنى أن الأمر بهذه البساطة. أنا بالتأكيد أشعر بالتقدير الذي يظهره لي الناس، ربما أشعر بذلك أكثر مما أريد الاعتراف به، لكنه في الوقت نفسه يزعجني، لأنه عندما يكتب المرء كثيرًا، ويصبح شاعرًا وروائيًا وكاتبًا مسرحيًا معروفًا إلى حد ما، وعندما يتمكن حتى من كسب عيشة كريمة من هذا الانحراف، من هذه الكتابة، يمكنه أن يتساءل عما إذا كان هذا ليس هو الهدف من الكتابة، أي كسب المال، أو بلوغ المجد والشهرة، كما يقولون. ومع ذلك، لا. أنا لست راضيًا عن ذلك، إنني ببساطة لا أريد أن أكون أفضل من الآخرين، حتى قد أشعر ببعض المتعة الإجرامية عندما أكون أسوأ منهم. لكن قبل كل شيء، أود أن أكون حيث يكون الآخرون، بعيدا عن الأنظار قدر الإمكان. أود أن أكون مثل الآخرين، وأود أن يتركوني بسلام مع نفسي، مع أهلي، ومع كتابتي.

جاك دريدا (Getty)

ثم يتبيّن أن كون المرء كاتبا ليس على هذه الصورة. في النرويج، على الأقل، إذا كنت تكتب، إذا كنت منشغلا بالكتابة، فإما أنك أسوأ من الآخرين، أو أنك تكتب لأنك لا تستطيع أن تجد مكانك في الحياة، إذ تعني الكتابة أنك قريب من حدود المرض النفسي، إذا لم تكن قد تجاوزتها بالفعل، أو أنك أفضل من الآخرين، لديك موهبة خاصة، شيء يجعلك كائنًا نعجب به، ويجعل ما تكتبه يستحق أن يدرس في المدارس، ويجلب لك جوائز مرموقة، ويحوّل حياتك إلى نوع من الظاهرة الفريدة التي يتباهى الناس بلقائها عندما يجتمعون في مقاهيهم العصرية.
أنا يغلبني الإحباط. ومرة أخرى، مثلما نكون في الثانية عشرة من عمري، نلجأ إلى الكتابة. هذا المكان الذي خلقناه لأنفسنا في الحياة، هذا المكان الذي نسعى فيه، بالتخلي عن المفاهيم والنظريات وكذلك الوفاق الاجتماعي وتسلسل قِيَمه، إلى الدنوّ من مكان لا نفهمه، حيث الغياب شبه الكامل للفهم، والذي انطلاقًا منه، عبر الحركة والإيقاع، أو شيء آخر لا أعرفه، نحاول تقديم شيء ما "موجود" فقط، وبالتالي فهو أيضًا يشكّل نوعا من الفهم، ليس الفهم الذي يتوافق مع هذا المفهوم، أو ذاك، مع هذه النظرية أو تلك، بل فهم تصير فيه اللغة تعني بدورها الشيء ونقيضه، ثم شيئًا آخر من جديد. إن المكان الذي تأتي منه الكتابة هو المكان الذي يعرفُ أكثر بكثير مما أعرف أنا، لأنني كشخص أعرف القليل جدًا، وربما كان هارولد بلوم على حق عندما قال إن مكان الكتابة، ما يعرفه مكان الكتابة، يشبه ما كان يعرفه الغنوصيون القدماء، والذي كان هو أصل معرفتهم الروحية. أي معرفة ما لا يوصف. ولكن قد يكون من الممكن التعبير عنها كتابيًا. فهذه المعرفة ليست شيئًا نعرفه، أو نمتلكه، بالمعنى المعتاد للكلمة، لأن هذه المعرفة لها دائمًا موضوع، ولكنها على العكس من ذلك، معرفة من دون موضوع، وهي فقط "موجودة". وهكذا، فإن ما لا نستطيع قوله، يجب أن نكتبه، كما قال الفيلسوف الفرنسي المعروف جاك دريدا، معيدًا صياغة مقولة الفيلسوف النمساوي فيتغنشتاين.
وطبعًا، فإن الحديث عن الكتابة بصفتها معرفة روحية هو مجرّد محاولة لقول شيء عمّا تعرفه الكتابة. ومع ذلك، ومن دون أن أرى نفسي غنوصيًّا (أو أي شيء آخر)، يبدو من العدل أن أقول ذلك بهذه الطريقة. وأما حقيقة أن الكتابة، الكتابة الجيّدة، كما نقول، تشبه الصلاة، فتبدو واضحة تمامًا بالنسبة لي. ولكن مع ذلك، يبدو وكأنّها نوع من الصلاة الإجرامية تقريبًا.


*جون فوسيه: الفائز بجائزة نوبل للأدب 2023.

أبريل/ نيسان 2000.

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
4 نوفمبر 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.