ترجمة: لطفية الدليمي
أحدُ التوجّهات التي شهدناها خلال القرون القليلة الماضية هو تزايد نزعة التخصّص والخبرة المعمّقة في حقل معرفي واحد، وما برح هذا التوجّه يتعاظم يومًا بعد آخر. مثالُ إنسان عصر النهضة Renaissance Man ـ أو الفرد واسع المعرفة والاهتمامات Polymath والشغوف بحقول معرفية عديدة ـ صار وكأنّه مثالٌ ينتمي إلى نوع بشري منقرض لا عهد لنا به. لم يعُدْ لنا في عصرنا هذا ما يكافئ مثال ليوناردو دافنشي (الذي كان شخصية مميزة ومتفرّدة للغاية حتى في عصر النهضة ذاته)؛ بل لم يعُدْ لنا ما يمكن عدّه نظيرًا لغاليليو غاليلي.
إنّ من الحقائق التي لم تشهد شيوعًا واسعًا (وبالتالي صارت أقرب لحقيقة مجهولة) أنّ غاليليو كانت له معرفة واسعة بالإنسانيات إلى جانب مكتشفاته التي شكّلت منعطفات ثورية في علم الفلك والميكانيك. دَرَسَ غاليليو الرسم (تلك المهارة التي وظّفها غاليليو لاحقًا لعرض جهوده في رصد القمر)، كما أبدى شغفًا واسعًا بأعمال الشاعرين العظيميْن دانتي وأريوستو (عندما كان غاليليو في عمر الرابعة والعشرين ألقى محاضرتيْن حول جحيم دانتي). إلى جانب هذا، كتب غاليلي مقالة يقارنُ فيها فنّ الرسم بفنّ النحت، ولطالما تمّت استشارته من قبل رسّامين عظماء معاصرين له من أمثال تشيغولي/ Cigoli، وأرتيميسيا غينتيليشي/ Artemisia Gentileschi.
هل ثمّة حاجةٌ لأمثال "أناس عصر النهضة" هؤلاء في عصرنا هذا؟
تدلّنا مساءلة استكشافية دقيقة لبحث أجراه عالم النفس في جامعة شيكاغو ميهالي كسيزينتميهالي/ Mihaly Csikszentmihalyi أنّه ربما توجد مثل هذه الحاجة. فقد أجرى عالم النفس المشار إليه دراسة بحثية معمّقة لطبيعة الإبداع البشري من خلال تجميع استنتاجات محدّدة حصل عليها من ما يقاربُ مئة حوار مع أفراد معروفين بقدراتهم الإبداعية الخلاقة في طيف واسع من الحقول المعرفية والمناشط الإنسانية. انتهى هذا الباحث السيكولوجي إلى أنّ كون المرء ذا قدرة عبقرية لا يبدو شرطًا مسبقًا لازمًا لتحقيق إبداع مشخّص في إحدى مراحل حياته؛ لكنّ الشرط الذي بدا أنّه لازمٌ لكلّ فعالية إبداعية هو فضول وشغف متميّزان ولا حدود لهما. في هذا الشأن، لاحظ العالم السيكولوجي: "من الناحية العملية، فإنّ كلّ فردٍ حقّق مساهمة إبداعية غير مسبوقة في أي حقل معرفي لا بدّ أن يتذكّر دومًا شعوره بالرهبة والشغف إزاء أحجيات الحياة الغامضة، ويمتلك دومًا خزينًا من الحكايات حول جهوده الحثيثة في البحث عن حلول مناسبة لهذه الأحجيات...".
عندما تفكّرُ في هذا الأمر فإنّ هذه الحقيقة ـ حقيقة أنّ الفضول والشغف قد يكون الشرط المسبق اللازم لكلّ فعل إبداعي، وإن كان ليس بالشرط الكافي لوحده ـ قد لا تبدو حقيقة باعثة على ذلك القدر العالي من الدهشة. في نهاية المطاف، فإنّ كلّ الأفعال الابداعية تنقدحُ في العقل غالبًا عبر توظيف أفكار من حقل معرفي محدّد وتطبيقها في حقل معرفي آخر. إنّ امتلاك القدرة على تحقيق هذا الفعل الإبداعي يتطلّبُ التمرّس في حقول معرفية خارج نطاق الحقل التخصصي للفرد. تقدّمُ لنا قصّة المختص بالكيمياء الفيزيائية، والحاصل على جائزة نوبل، إيليا بريغوجين/ Ilya Prigogine، مثالًا مدهشًا على المسار المعقّد (لكن الذي يُؤتي ثماره في نهاية الأمر)، الذي يمكن من خلاله أن يقود الشغف والفضول إلى تحقيق منجزات إبداعية خلّاقة.
تتشابه حال غاليليو وبريغوجين من حيث اهتماماتهما الموجّهة للإنسانيات؛ لكنّ الضغط العائلي الذي لاقاه بريغوجين من جانب عائلته دفعه لدراسة القانون تلبية لرغبة العائلة (لنتذكّرْ هنا أنّ والد غاليليو أجبره على دراسة الطب). قادت دراسة القانون إلى تعظيم اهتمام بريغوجين بفيزيولوجيا العقل الإجرامي، وهذا ما دفعه إلى الاستغراق المكثّف في دراسة الكيمياء العصبية/ Neurochemistry، كمحاولة حثيثة من جانبه لفكّ ألغاز العمليات التي تحصل في الدماغ البشري، وقد تقود بعض هذه الأدمغة إلى اقتراف أفعال إجرامية. عندما أدرك بريغوجين أنّ العلم العصبي ليس في طور من التقدّم يمكنه تفسير السلوك الإنساني، أو التنبّؤ به، فقد اعتزم حينها، وكفعل تعويضي عن دراسة الكيمياء العصبية، البحث في تفاصيل العمليات الأكثر أساسية في الطبيعة، وهذا ما قاده إلى دراسة الكيمياء الأساسية للنُظُم ذاتية التنظيم/ Self – Organizing Systems. في هذه النظم حقّق بريغوجين أعظم مساهماته العلمية والتي جعلت منه أحد أعظم العقول العلمية في هذا المبحث المعرفي.
تبدو الرحلة الفكرية لغاليليو شبيهة في بعض جوانبها مع رحلة بريغوجين. شعر غاليليو بالملل الغامر في دراسة الطب التي كانت تتطلّبُ في وقته قبولًا أعمى ـ ومن ثمّ التسليم المطلق ـ بالقواعد والآراء التي سطّرها عالم التشريح الإغريقي الأشهر جالينوس. كلّما كانت مناسيب الملل تتعاظم في روح غاليليو كان يتذكّرُ أنّ والده (الذي كان يعمل في حقل النظريات الموسيقية) تحدّث بين حين وآخر عن أعاجيب الرياضيات، وبعد أن تنصّت غاليليو بكيفية غير مقصودة على بضع محاضرات في الرياضيات أصابه التيه حبًّا بالرياضيات، ورغبة متفجّرة لدراستها، وحينها تملّكته قناعة كاملة بأنّ الرياضيات هي اللغة التي كُتِب بها الكون.
قبل ما يقاربُ الخمس سنوات، وبعدما أجريتُ حواراتٍ مع تسعة أفراد معروفين بشغفهم الطاغي وإنجازاتهم الابداعية الفائقة (منهم: الفيزيائي الشهير فريمان دايسون/ Freeman Dyson، وعازف الغيتار ذائع الصيت بريان ماي/ Brian May) اكتشفتُ أنّ هؤلاء التسعة جميعًا تشاركوا سماتٍ مشتركة منها قبول الانغمار في شتى أشكال التحدّيات المعرفية في حقول بحثية ومهنية جديدة ليست لهم بها معرفة مسبقة، أو مراسٍ قديم. على سبيل المثال، فإنّ بريان ماي ـ فضلًا عن مهنته الموسيقية اللامعة، وكونه عضوًا في أحد الفرق البحثية لوكالة ناسا ـ هو أحد المدافعين عن حقوق الحيوان (وهو في هذا الحقل لا يبدو أنّه يتعب، أو يملّ، أو يتقاعس)، هذا إلى جانب أنّ ماي هو أحد الخبراء العالميين في التصوير المجسّم/ stereophotography في العصر الفيكتوري.
الاهتمامات متنوّعة الأطياف، والمعرفة الواسعة يمكن أن تشعل فتيل الإبداع العبقري. هذه الحقيقة تدفعنا إلى المناداة بإحياء فكرة "أناس عصر النهضة/ People Renaissance"، وجعلها أمثولة مختبرة في عالمنا الحديث.
هل تعني هذه المناداة التوقّف عن التخصّص في حقل معرفي محدّد؟ كلّا بالتأكيد!!. منجزات عظمى تتحقّق كلّ يوم على أيدي خبراء يخصّصون جزءًا ليس بالقليل من حياتهم لحقل معرفي واحد؛ لكن برغم هذه الحقيقة فإنّ تطوّريْن عظيمي الأهمية في العقود الأخيرة أبانا أنّ من الممكن أن يكون الفرد متخصّصًا وفي الوقت ذاته أحد "شخوص عصر النهضة". أحد هذين التطوّرين يكمن في حقيقة أننا نعيش أطول ممّا عاشه أسلافنا في عصر النهضة؛ لذا فإنّ لدينا المزيد من الوقت للانغمار في البحث عن معرفة إضافية، وإتقان مهارات جديدة. التطوّر الثاني أنّ لدينا قدرة عظيمة اليوم في إمكانية الولوج إلى مناجم هائلة من المعلومات والمعرفة التي هي طوعُ رغبتنا متى ما شئنا بلوغها سريعًا في وسيلتنا الحاسوبية.
جوهر الأمر كله ـ ببساطة ـ هو أن نتعلّم ملاحظة كلّ شيء والتدقيق في كلّ جزئية حتى لو بدت عابرة ليست بذات أهمية. الفيزيائي الأشهر الحاصل على جائزة نوبل ريتشارد فاينمان/ Richard Feynman عبّر عن الأمر بأفضل ما يمكن عندما كتب: "أتطلّعُ دومًا في كلّ شيء ـ مثل أيّ طفل مسكون بالشغف ـ بحثًا عن الأعاجيب التي أعلم أنني سأجدها. قد لا أجدها في كلّ الأوقات؛ لكني أعلم أنني سأجدها بين الحين والآخر...".
مصادر إضافية للقراءة:
- Livio, M. (2020). Galileo and the Science Deniers. New York: Simon & Scuster.
- Livio, M. (2017). WHY? What Makes Us Curious. New York: Simon & Schuster.
(*) المادة المترجمة في هذه المقالة منشورة بعنوان (Back to the Renaissance) في مجلّة Psychology Today بتاريخ 31 تمّوز/ يوليو 2020.
الرابط الإلكتروني للمقالة المنشورة :
https://www.psychologytoday.comr/us/blog/why/202007/back-the-renaissance
ماريو ليفيو/Mario Livio ، PH. D: أستاذ فيزياء فلكية. ولد في بوخارست (رومانيا) عام 1945. ألّف عددًا من الكتب، منها: غاليليو ومنكرو العلم/ Galileo: And the Science Deniers، الذي حقّق مبيعات كبرى. متحدّث كثير الاستضافة في برامج شعبية وحلقات علمية، مثل: 60 Minutes وNova وThe Daily Show.