}

ليون شيستوف: مُحطّم العقلانية!

إسكندر حبش إسكندر حبش 23 مايو 2023
تغطيات ليون شيستوف: مُحطّم العقلانية!
بورتريه لشيستوف بريشة بوريس غريغورييف، 1920

"أقدم لكم السيد شيستوف.

إنه الرجل الذي تجرأ على كتابة أعنف نقد وُجه إليّ يومًا –

وهذا هو سبب صداقتنا".

[إدموند هوسرل]


تتابع منشورات "Le Bruit du Temps" في العاصمة الفرنسية، إعادة إصدار أعمال الفيلسوف الروسي ليون شيستوف، التي باتت مفقودة في طبعاتها الأولى. وقد جاء هذا المشروع بفضل ابنته، ناتالي – بارانوف شيستوف، التي أسست الدار (غابت في نهاية العام الماضي) برفقة زوجها (وهو ابن الشاعر الفرنسي الراحل فيليب جاكوتيه).
يتيح لنا هذا المشروع إعادة اكتشاف واحد من أكثر الفلاسفة تفرّدًا، والذي ذهب بعكس الطرق التي عبدتها الفلسفة قبله، منطلقا من فكرة نقد العقلانية، أو حتى تحطيمها؛ إذ غالبًا، ما نربط، وبشكل غريزي، اللاعقلانية إما بالعاطفية، أو بالتصوف الديني، أو حتى بالأصولية والظلامية. إذ يجد الفلاسفة أن العقل هو الذي يضمن حرية الفكر. هذه هي ارتباطات الأفكار والتناقضات التي عودتنا عليها التيّارات الفكرية العظيمة. فالتحفظات على العقل، التي عادة ما تكون ذات طبيعة دينية، والتي عبر عنها العديد من المفكرين العظماء، الروس والغربيين، تمّ حلّها دائمًا من خلال التوفيق بين العقل الخالص والعقل العملي، أي بين العقل والأخلاق. هنا يفاجئنا شيستوف ويخيفنا. لقد كسر مع التقاليد الفلسفية والدينية العظيمة، لذا فإن كفاحه ضد العقل يقود إلى الآخر، ضد الأخلاق وضد المبادئ الأخلاقية العظيمة.
هنا مقالة تحاول أن تطل على هذا الفيلسوف الروسي الذي اعتبره ميشيل إلتشانينوف (المتخصص في شؤون الفلسفة الروسية) في مقالة نشرها عام 2015 في "حياة الأفكار" (La vie des Idées) بأنه واحد من الذين يشكلون المراجع الأساسية لفكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. 

I

باريس، العام 1937. لم يكن الفيلسوف الروسي ليون شيستوف، يُدرك بالطبع، أن الحياة قررت أن تغادره بعد سنة. كان كلّ شيء يسير وفق النظام اليومي المعهود. من هنا، جاء قراره بإعادة طبع الترجمة الفرنسية من كتابه "أثينا وأورشليم" [1]، الذي كان يُعدّ بمثابة وصيّته الفكرية. جاءت هذه الترجمة لتسدّ ثغرة أساسية في تكوين مشهد واضح عن المفكر والفيلسوف الذي كان عليه؛ ولتجعل قراءته ممكنة، بعد أن غاب هذا الكتاب، لفترة طويلة، عن رفوف المكتبات. مع العلم أن "أثينا وأورشليم" لم يصدر بلغته الأصلية، الروسية، إلا في العام 1951. سنة واحدة بعدها، وغادر الوجود، لكنه لم يغادر – في العمق – تاريخ الفلسفة، على الأقل من حيث تأثيره على كلّ من جان بول سارتر وألبير كامو وموريس ميرلو – بونتي وجورج باتاي وغيرهم. ناهيك عن أنه هو من أدخل فلسفة إدموند هوسرل والظواهرية إلى الفكر الفرنسي المعاصر.   

ليون شيستوف واحد من أبرز مفكري العالم، وفلاسفته، في تلك الحقبة من التاريخ (ولا يزال الكثير من فكره حاضرًا إلى أيامنا هذه)؛ بيد أن هذا التاريخ، كان قد لعب معه لعبته "الحمقاء"، إذا جاز القول، إذ تركه لمصيره: مصير المنفى، بعد أن طردته الثورة البلشفية من بلاده، ليذهب إلى ألمانيا أولًا، ولفترة قصيرة، قبل أن يختار باريس ويقيم فيها، إلى آخر أيام حياته. ربما نحسب اليوم، أن شيستوف، غاب قليلًا في دهاليز النسيان. لكن في الواقع، ثمة محاولة حثيثة لتهميشه: لأنه قطع، وبحدّة، مع ذلك التقليد الفلسفي المؤسس على العقلانية والقائم على هيمنة فكر الحاجة والضرورة ليعلن رفض طغيانه في كتابه "أثينا وأورشليم".

في ثلاثينيات القرن العشرين، كان حضور شيستوف، على الساحة الفكرية، حضورًا حقيقيًا، مثلما يشهد على ذلك كتاب ابنته [2] التي كتبت فيه حول السنين الأخيرة من عمر والدها. هناك كتبه، ومحاضراته، الدروس التي كان يعطيها في "السوربون" والتي أثارت الكثير من الاهتمام. كانت لديه علاقات صداقة متينة مع هوسرل (على الرغم من أنه هاجمه بقوة). لقد التقى بمؤسس الظواهرية في باريس وفرايبورغ حيث تعرف هناك على هايدغر أيضًا. وبعد رحلة إلى فلسطين (العام 1938)، جاء الاحتفال بعيد ميلاده السبعين ليُشكل مناسبة عالمية للتعبير عن تقدير وإعجاب العديد من مفكري العالم وكتّابه بهذه القامة الوارفة. في تلك الفترة، التي تتحدث ابنته عنها، أي الأعوام الممتدة بين 1928 – 1938، اكتشف شيستوف أعمال كلّ من مارتن بوبر (1878-1965) وسورين كيركغارد (1813 - 1855) الذي أوسع لنفسه مكانة كبيرة في أعمال الفيلسوف الروسي، وبخاصة في أعماله الأخيرة ولا سيّما في "أثينا وأورشليم".

في نص يسبق نص "أثينا وأورشليم"، كتبه الشاعر إيف بونفوا على سبيل التقديم للكتاب، يقول إن شيستوف "لا يملك سوى همّ تدمير لُحمة الزمن". فأن يعود لله معناه الهروب من طغيان الزمن

II

قبل فوكو ودولوز ودريدا بفترة طويلة، جاء، في بداية القرن الماضي، شخص قَلَب، بشكل خاص ومتفرد، كلّ نقاط استدلالنا كما قَلَب كلّ يقينياتنا، جاء واحد من أولئك "المحازبين"، "غير المنضبطين"، أو من "مغامري الفكر [3]"، الذين تُفضّل كتب الفلسفة تجاهلهم باستمرار. "آه شيستوف الأسئلة التي يعرف كيف يطرحها، النيّة السيئة التي عرف إظهارها، عجز الفكر الذي يضعه في قلب الفكر [4]"، بهذه الطريقة تساءل جيل دولوز بتعجب، في كتابه "الفرق والمعاودة"، مُذكّرًا بالمبادئ الهدّامة لخطّ كامل من منتقدي المنطق الكلاسيكي في فترة ما بعد الحرب، ومن الذين لا نتردد بوضع اسمهم معهم، اليوم، فوكو ودريدا. لكن إن كان مبدأ "الترحل" (الذي أصبح شهيرًا بفضل دولوز)، أو"التفكيكية" (المرتبط بأعمال دريدا)، أو أيضًا الـ "جينالوجيا" (كما عند فوكو)، تبدو مؤهلة لترجمة مقترب شيستوف الغريب قياسًا إلى تاريخ الفلسفة الكلاسيكية، فلِمَ إذًا هذه الصعوبة الكبيرة، في أيامنا، في أن نجد أقل مرجع عن ذاك الذي أشار ليس فقط إلى "العبث" بل إلى "ما بعد الحداثة" أيضًا في الفكر الفرنسي؟

ربما يأتينا الجواب عن هذا السؤال، بحسب أحد المعلقين المنتبهين لـ "هوامش" الفلسفة المؤسساتية، إذ يرى أنه يعود إلى "الخوف، إلى الخجل" [5]، لأن "وحشيّة" أقوال ليون شيستوف، لا تزال تزرع الرعب، بعد كلّ هذه السنين من رحيله. ثمة أمر آخر، فكلّ هؤلاء الفلاسفة، الذين تمّ ذكرهم أعلاه، أو كما يُطلق عليهم "مفكرو الخارج" في القرن العشرين، كلّهم ومن دون استثناء، دخلوا في حوار خاص مع نيتشه وأعلنوا عن انتمائهم لقطيعة افتتاحية مع الميتافيزيقا. من هنا كان شيستوف يُشكلّ خوفًا فعليًا وأكثر من كلّ ورثة "المعرفة المرحة" التي أعلنت موت الله وغسق الحقائق المطلقة. إذ لم يعد الأمر متعلقًا في استنتاج الأساس الأنتولوجي للعالم وقلب كلّ قيمنا؛ بل علينا أن نحاول بعد أن نتقدم إلى ما وراء الحدود المعتادة من دون دعم المُثُل الأخلاقية التي تدفع إلى الطمأنينة، كما مثل العلوم والعقلانية. ففي هذه المناطق القصيّة للفكر، لا يمكن للإنسان أن يدخل إلا بمعرفته الخاصة، إذ سيكون مدفوعًا عندها بشرّ ما، نتيجة لـ "دعسة خاطئة" مأساوية، لصدع في نظام الأشياء الثابت ظاهريًا والذي يُنتج بطريقة غير متوقعة، وهذا مثل كلّ ما يحيلنا – بحسب شيستوف – إلى هذه "الفجائية" الغامضة عند أفلوطين وإلى "نشواته" خارج العقل وخارج قوانين المعرفة العقلانية.

"اثينا وأورشليم" بنسخة جديدة لمنشورات "Le Bruit du Temps" والنسخة الأصلية التي باتت مفقودة في طبعاتها الأولى


III

العقلانية، هي العدو الأكبر بالنسبة إلى شيستوف. حتى أن كيركغارد [6] لم يستطع مقاومة إغواءاتها (وإغراءاتها) بشكل كامل. كان فيلسوف العبث قد استخدم أسلحته الكاملة لكي يواجهها ويحتج عليها، ما يشكل ذلك، في العمق، طريقة في الانحناء أمام أحكامها. جميع المفكرين، المتعذر تصنيفهم ووضعهم في خانة معينة، قاموا بالأمر عينه، بمن فيهم الألماني نيتشه، الذي حين وصل إلى نهاية رحلته الخارقة والمدهشة، امتدح وأثنى على الـــ "amor fati" أي على قانون الضرورة، الذي يُشكل في النهاية الأخ التوأم للعقل؛ البريطاني ديفيد هيوم أيضًا، والذي بعد أن عمل مطولًا على إثبات الأفعال التعسفية (ذات العلاقة بالغائية) عاد وخضع للعقل بدوره. أضف إلى ذلك كلّه: ألم يحاول مفكرو العصر الوسيط – وبعناد واضح – أن يصالحوا ما بين الوحي الإلهي (التوراتي والانجيلي، أو كما تبدّى في "العهدين القديم والجديد") وبين الحقيقة العقلانية التي توارثوها من الإغريق. من هنا تبدو كلمة "أثينا وأورشليم" وكأنها كلمة المرور السريّة العائدة للفلسفة الدينية وكما لو أنها تشكل عقدة النقص هذه وتغذيها.

في مواجهة سيطرة العقل هذه إذًا، يبدو شيستوف وكأنه يستجمع قواه كلّها ليدخل في معركته الأخيرة. يقول: "المهمة التي اتخذتها على نفسي، تتلخص في أن أبرهن ادعاءات امتلاك الحقيقة التي يقدمها العقل الإنساني أو التي تقدمها الفلسفة التخمينية". من هنا، نجده في كتابه هذا، "يستعمل أسلحة الخصم"، متزودًا بإلمامه الفلسفي الكبير، لكنه على العكس من كيركغارد، يحاول ألا يسقط في فخاخه.

لم يكن شيستوف يرى أنه يجب "إخضاع الحياة للمعرفة"، بل على العكس من ذلك، فقد كان يجد أن علينا أن نتحقق كلّ يوم من معرفتنا هذه عبر الحياة. إذ، عند كلّ صباح، عند كلّ استيقاظ، لدينا سبب في العيش، وهذا السبب ليس العقل، بل بالأحرى هو الحياة. لذا يمكن لنا أن نفقد، هذا السبب، عند كلّ مساء. بائس هو ذلك الشخص، بحسب شيستوف، الذي يستيقظ في غلاف العقل ويكون قد نسي أرض الحياة: فعاجلا أم آجلا لن نزيل سوى ريح العاصفة. فبالنسبة إليه، لن تروي دماء الروح أبدا مجموع زوايا أي مثلث، بل ما يبقى "أبلها"، "مستحيلا"، وغير متوافق.

من هنا، فإن ما رآه شيستوف، يبدو عنده، وكأنّ هناك سبب لإيقاظ، لا ذاك الشخص النائم البسيط، بل إيقاظ هذا الميت الذي يحمله كلّ واحد منّا في داخله. لذا، ما يجب القيام به، مع شيستوف، هو بالضبط ما قام به هو نفسه مع دوستويفسكي. علينا أن نتوقف، أن نتوقف عن قراءته. وإلا لبدا الأمر مستحيلًا، بخلاف ذلك: إذ لا نستطيع عندها أن نتقدم إلى الأمام أي خطوة أخرى. في أيّ حال، والسؤال الذي يطرح نفسه حقًا: هل يمكن لنا فعلًا أن نتقدم؟ إذ ما أن نقول ذلك، ما أن نهمس به، وفق شيستوف، بصوت هامس، أو بدون صوت بتاتًا، حتى يجعلنا ذلك، نتخطى الأمر دفعة واحدة. لكن ماذا نتخطى؟ فها نحن هنا. يسحبنا إليه. يجعلنا نفقد أنفاسنا ونستعيدها من جديد. "يا أيها العصر الكبير، ها نحن هنا [...] وقد أصبحت جباهنا عارية" (سان – جون بيرس).

أن نتحرر من العقل، معناه أن نعود لنجد هذه الحرية، لذا علينا أن نختار، وفق شيستوف، أورشليم لا أثينا، أن نؤمن بأنه يمكن لله أن يمحو الماضي

IV

يؤخذ على الفلاسفة في أغلب الأحيان أنهم لا يعيشون وفق التصنيفات التي يفكرون من خلالها، ربما كان من الأنسب – أو لنقل من الأمتن – أن نتهمهم بأنهم لا يفكرون وفق التصنيفات التي يعيشونها والتي ينسون فيها الشرط الإنساني: "إنهم يتطلعون إلى شرح العالم، بطريقة يصبح فيها كلّ شيء واضحًا وشفافًا، بطريقة لا تخفي فيها الحياة (بأقل ما يمكن) أي إشكالية أو أي سرّ غامض". وفق شيستوف، علينا أن نقوم بالأمر على العكس من ذلك: أن نبرهن بأن هذا الأمر الذي يبدو بالنسبة إلى البشر واضحًا ومفهومًا، هو في الحقيقة لغز وغامض. "تكمن المأساة في أنه قياسًا لتقدم وتطور معارفنا، نجدنا نبتعد عن ألغاز الحياة". كذلك، تنصب جهود الفلاسفة على إيجاد الراسخ. لهذا السبب ينسجون سلسلة طويلة من الضروريات، ينظرون إلى الخلف. إلا أنهم بذلك، يعذبون الإنسان، يجعلوا منه شخصًا مذنبًا، يحرمونه من حريته. أن نتحرر من العقل، معناه أن نعود لنجد هذه الحرية، لذا علينا أن نختار، وفق شيستوف، أورشليم لا أثينا، أن نؤمن بأنه يمكن لله أن يمحو الماضي.

بالنسبة إلى شيستوف، لا ينهض الفكر من تنظيم وضعي، فالفكر ليس نظام المعرفة، كما أنه لم يطالب بإلغاء مختلف أنواع المعارف الأخرى، وليس له أن يضع نفسه في صفها. لكن عليه أن يُدخل بُعد المستحيل. لأن ليس هناك أي وعاء لغوي يمكن له أن يحتويه. ومن المستحيل أيضًا أن تفكر حول شيستوف. أن ترمي عليه شِباك القوانين: لقد مزقها. أضف إلى ذلك أيضًا، لقد حطم الأطر. فهو، العالم، المتأدب، المتعلم، كان يترك لكي يأتي إلى داخله (وفق عبارة القديس أغوسطين الذي يستشهد به مرارًا) ذاك الجاهل الذي سوف يبهج السماء.

من كتب شيستوف المترجمة إلى العربية، ومن النسخ الجديدة لكتب شيستوف التي تعيد منشورات "Le Bruit du Temps" في العاصمة الفرنسية إصدارها

V

في أي حال، لو عدنا إلى كتاب "أثينا وأورشليم"، هو بدون شك أكثر كتب شيستوف بناء، من حيث أسلوبه – (يعتبره البعض أفضل تحقق للنثر الفلسفي الروسي) – كما من حيث طروحاته الأساسية التي تقودنا كلها إلى المذهب الوحيد الذي تقوم عليه تأملاته وفلسفته: لا يمكن أن نصل إلى خلاص الإنسانية، إلا عبر رفض المعرفة المتمثلة بــ "شجرة المعرفة" لصالح الإيمان و"شجرة الحياة". من هنا نرى شيستوف، في دفاعه عن فكرته، وفق هذا المنظور، يدافع عن نوع من "الدينية الفلسفية" القريبة من "إيمانية" باسكال، كما من "الوجودية اليهودية – المسيحية" أو "الوجودية المؤمنة" التي تبدت عند كيركغارد، ليقابل ما بين العقل (أثينا) والإيمان (أورشليم)، إذ أن ذلك يشكل الدرب الوحيد للوصول إلى الحقيقة والحرية.       

في نص يسبق نص "أثينا وأورشليم"، كتبه الشاعر إيف بونفوا على سبيل التقديم للكتاب، يقول إن شيستوف "لا يملك سوى همّ تدمير لُحمة الزمن". فأن يعود لله معناه الهروب من طغيان الزمن. "فمن يملك الإيمان يستطيع أن يحرك الجبال. لا شيء مستحيلًا أمامه". هو الإيمان الذي يوقظنا، لا العقل الخادع. بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان شيستوف نفسه مؤمنًا؟ كان يعرف أن لا طريق آخر أمامه، لذا لم يكن أمام محطم العقلانية هذا، سوى سلوك الدرب، لم يكن باستطاعته الهرب منه. لذا، فإن ما يغلف هذا النص الآسر، بأسره، هو اليأس أكثر من سلام الروح.

وفق الفيلسوف الروسي المعاصر باسيل زينكوفسكي، يشكل هذا الكتاب: "الصورة الحقيقية" لفكر شيستوف الذي "يذهب فيه إلى آخر أفكاره" التي تقوم "على أن الفلسفة الحقيقية تنساب من الخالق" وهي التي تقربنا من "الكائن الحقيقي".

كان ليون شيستوف يتفلسف انطلاقًا من دوستويفسكي ونيتشه

VI

ينطلق شيستوف في نصه هذا من فكرة أن الخطيئة الأولى، الأصلية، لم تكن نتيجة عدم الطاعة. فالأمر الأساس ليس هنا. بل على العكس من ذلك، فنتيجة الإفراط بالخضوع، نرتكب الخطيئة. لذا نجده يفضل، على العلاقة الحيّة والحرة للإنسان مع الله، الطمأنينة المريحة العائدة لقوانين الميتافيزيقا العامة كما قوانين الفيزياء. أي أنه يُفضل، بدلًا من العلاقة التي قد يخاطر فيها، الثبات البارد العائد لقوانين الطبيعة.  

"الضرورة، مثلما يقول أرسطو، لا تترك نفسها تُهزم". في هذا الحيّز، نعتقد بأن العلم جدير بالثقة: فهو يهتم بما لا يمكن له أن يكون، بما هو موضوعي، بما لا يترك لنفسه المجال بأن ينثني عبر صلواتنا، عبر رغبتنا كما عبر مناشداتنا للرحمة. لذا علينا أن نصبح نحن أيضًا بمثابة حاجة وضرورة: علينا "ألا نضحك أبدًا، ألا نبكي أبدًا، ألا نكره أبدًا، بل أن نفهم"، يقول سبينوزا.

في إحدى رسائله، يقول سبينوزا أيضًا، بل يشرح لنا بالأحرى، إنه في الجهل الذي نحن أسبابه التي تجعلنا نقرر، نشبه الأحجار التي – بعد أن تُرمى من جُرف وبعد أن تمتلك وعيًا بشكل مفاجئ – تجيب من يسألها ماذا تفعل: "إنني أسقط"، معتقدة بذلك أنها تقوم بحرية ما دفعتها إلى القيام به قوى الطبيعة. في حين أن هكذا نوع من التفكير، الذي يوكل الإنسان إلى حاجات القوانين الخارجية، هو، بدقة، مثلما يقول لنا شيستوف، بمثابة أفكار حجارة موهوبة بالوعي. إذ أن سبينوزا يقارن من يؤمنون بالحرية بأحجار موهوبة بالوعي. ويجيب شيستوف: من يقول هو كذلك. إذ في الواقع، يجب أن يمتلك قلبًا من حجر من يتفوه بهذه الكلمات "ألا نضحك أبدًا، ألا نبكي أبدًا، ألا نكره أبدًا، بل أن نفهم".

لذا، يدعو شيستوف الإنسان الذي تسحقه الحاجة، الإنسان الذي يخنقه مصيره، إلى أن يضحك ويبكي ويكره لكن لا يدعوه أبدًا إلى أن يفهم. "De profundis ad te, Domine, clamavi" ("من أعماق الهُوّة، أصرخ تجاهك، يا سيدي"). مع شيستوف، نجد أن المزمور هو الذي على حق في مواجهة العلم، هو النشيد مقابل الخطاب، أي باختصار هي "أورشليم" التي على حق مقابل أثينا"، لأن إبراهيم – الذي "بعد أن رحل وبدون أن يعرف إلى أين ستؤدي به الطريق" – هو من يُربك سقراط شديد الحذر. ففي النهاية هو أيوب، لأنه تجرأ وصرخ لله ببراءته الجريحة، هو أيوب الذي يزن ألمه وعذابه أكثر من رمال البحار، وهو أيوب في النهاية، المحق في وجه أصدقائه المزعومين، ضد كلّ أولئك الذين يرغبون في تكميم وكبت الإنسان المتضرع ليعيدوه إلى العقل.

نجد آثار التحدي للعقل والمعرفة في كلّ لحظة من تفسير شيستوف لكيركغارد، لا سيما في هذا العمل المذهل العائد للعام 1936: "كيركغارد والفلسفة الوجودية" 


VII

بالنسبة إلى شيستوف ليس الفكر لعبة بناء، بل "على المرء أن يسعى". هذا ما كان يكرره دومًا. "السعي": طيلة حياته كان يُذكر بذلك. "تأخرت مهنتي ككاتب وفيلسوف. كنت في السابعة والعشرين من عمري عندما نشرت "شكسبير أمام ناقده برانديز" (قبل ذلك كنت قد كتبت فقط رسالة الدكتوراه في القانون حول قوانين العمل الجديدة). في ذلك الوقت كنت أقرأ كانط وشكسبير والكتاب المقدس. على الفور شعرت بأن كنط خصمي. أما شكسبير، فقد أزعجني لدرجة أنه لم يعد يسمح لي بالنوم. وذات يوم، قرأت في مجلة روسية ترجمة لبضعة فصول من كتاب برانديز المخصص حول شكسبير. دخلت في حالة من الغضب الشديد" [7].

"الغضب" هي، بالضبط، الكلمة التي تُميّز شيستوف. كان فكره كلّه مجرد غضب، صرخة. منذ البداية، يكشف هذا الفكر عن طاقة، عن تمرد. إنه حركي في مواجهة الأنظمة الساكنة، إلى حدّ ما. أيضًا، لا يظهر عمل شيستوف كمبنى مشيد بل يبدو كجمر. إنه لا يشكل ملجاً للأفكار بجدرانه وسقفه: لقد علّمه شكسبير ألا ينام، لذا، وبدءا من تلك اللحظة، بدأ شيستوف يكشف عن نفسه طوال الوقت.

VIII

نجد آثار هذا التحدي للعقل والمعرفة في كلّ لحظة من تفسير شيستوف لكيركغارد، لا سيما في هذا العمل المذهل العائد للعام 1936: "كيركغارد والفلسفة الوجودية" والذي حمله عنوانًا فرعيًا هو "Vox clamantis in deserto" (صوت صارخ في البرية). ففي كتابه هذا يعبر شيستوف عن مشروع الفلسفة الوجودية التي اكتشفها في أعمال كيركغارد. في مراجعة لهذا العمل، عبر إيمانويل ليفيناس (وكان لا يزال شابا بعد) يكشف بقوة خاصة عن معنى التحدي "الشيستوفي" (نسبة إلى شيستوف)، الذي يعطي فكره هذه "النبرة" المحددة للغاية:

في عالم مستنير ومفسر بالعقل، لا أهمية سوى للعام: ليس لـ "مصيري" أي أهمية، و"ألمي" ليس استثنائيًا، و"يأسي" ليس فريدًا؛ لأني إذا كنت أحمل الحزن أو العار في أعماق روحي، فهذا لا يزعج نظام الكون. يخصص تخميني لهذه الظواهر مكانًا في"الكلّ"، وحكمتي الوحيدة يمكن أن تتمثل فقط في خضوع نفسي لهذه القوانين. لكن قبل التكهن أنا موجود. يتحقق وجودي بالضبط في هذا الألم، في هذا اليأس. فبعيدًا عن التوافق مع الكلّ الذي من شأنه أن يحتضنه، إنه كلّ شيء بالنسبة إليّ. لديه تاريخه، حقيقته، وزنه، متطلباته الخاصة. يمكنني قمعه، لا أحذفه أبدًا. صوته يدمع وجودي على الرغم من خضوعي للضرورة العالمية. علاوة على ذلك، هل تخميني نفسه مستقل تمامًا عنه؟ هل يمكن تجريده شرعيًا من الحالة الإنسانية، من مصيره، ومن موته؟

IX

يرى ليفيناس في مقتربه لفلسفة شيستوف بأنه "مهما كانت الإجابة التي نعطيها عن كلّ هذه الأسئلة، إلا أن المسألة هي في طرحها، إنها مسألة احترام المعنى الداخلي للأحداث التي تشكل وجودنا، قبل تفسيرها وفقًا للنظام الكوني الذي بناه العقل" [8].

في قولته هذه، يشير ليفيناس إلى مشروع شيستوف بأكمله: أن نكون مخلصين لما هو أصيل في الوجود، لما يجعله فريدًا بشكل غير قابل للاختزال و"حاجبًا لأي انعكاسية محتملة". لذا فإن المسألة لا تتعلق بتعريف جوهر الكائن البشري أو استخراج جوهره، بل يتعلق بتأكيده على تفرده والاعتراف به باعتباره الموضوع الوحيد لهذا الوجود. وبهذا المعنى، فإن الأمر يتعلق دائمًا بإنصاف شخص يختبر الصراع، والتمرد في النهاية، ضد ما ينكره في حياته وفي جسده.

X

..."كان ليون شيستوف يتفلسف انطلاقًا من دوستويفسكي ونيتشه، وهذا ما كان يسحرني. [...] لقد أحسّ بالصدمة من نفوري الغاضب من الدراسات الفلسفية وكنت أستمع إليه بطواعية حين يقودني بحسّ عالّ في قراءة أفلاطون. أنا مدين له بأساس معارفي الفلسفية، ومن دون أن أمتلك حقًا هذه السمة لتندرج تحت هذا التعبير، إلا أنها [أي معارفيٍ] وعلى المدى الطويل أصبحت واقعية بشكل أكبر. مثلي مثل جميع أبناء جيلي، انضوينا كلّنا تحت لواء الماركسية. لقد كان شيستوف مهاجرا اشتراكيا فابتعدت عنه، إلا أنني أحتفظ له بعرفان كبير، فما نجح بقوله لي عن أفلاطون، هو بالضبط ما كنت أحتاج إلى سماعه"[9].

هوامش:

(1) Léon Chestov, Athènes et Jérusalem (Ed, Aubier)

(2) Nathalie Baranoff-Chestov, Vie de Léon Chestov, Les Dernières années 1928 – 1938 (Ed. La Différence).

(3) Boris de Schloezer, "Un penseur russe : Léon Chestov", in Mercure de France, 1-X-1922, p. 82-115.

(4) 2. Gilles Deleuze, Différence et répétition, Paris, PUF, 1994, p. 171.

(5) Cf. infra le texte de Michel Surya, "Chestov et Nietzsche".

(6) راجع كتاب ليون شيستوف "كيرككورد فيلسوف ديني" (من ترجمتنا)، منشورات "الرافدين" 2019

(7) H. Raichman, "L’esprit du paradoxe", dans Europe. Revue littéraire mensuelle, avril 2009, p. 42-50.

(8) E. Levinas, "Recension de L. Chestov, Kierkegaard et la philosophie existentielle (Vox clamantis in deserto)", dans Revues des études juives, 1937, p. 139.

(9) G. Bataille, Œuvres complètes,T. VIII, Gallimard 1976, p.563

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.