}

"ملاذ من الزمن": أول رواية بالبلغارية تفوز بالبوكر الدولية

سناء عبد العزيز 28 مايو 2023
كان الفارق الزمني بين بريطانيا وبلغاريا ساعتين حين أعلنت ليلى سليماني، رئيسة لجنة تحكيم جائزة البوكر الدولية، في حفل أقيم في سكاي غاردن في لندن مساء 23 مايو/ أيار، عن فوز رواية "ملاذ من الزمن" للكاتب البلغاري جورجي غوسبودينوف. إنها الجائزة التي تمنح مناصفة بين الكاتب ومترجمه لسد الفجوة في جائزة البوكر العالمية المقتصرة على تكريم الأعمال المكتوبة في الأصل بالإنكليزية، في محاولة لاستيعاب مؤلفين من مختلف بقاع الأرض، واعترافًا بدور الترجمة كجسر للعبور إلى ثقافات أخرى، وطريقة مثالية لفهم الآخر والتفاعل معه، والأهم من ذلك كله، الرغبة العارمة في تطوير الذات.
قرب منتصف الليل، وصل خبر فوز أول كاتب بلغاري بالجائزة المرموقة مع مراسم الاحتفال بعيد الأبجدية السيريلية؛ اليوم الذي تحتفل فيه البلاد بمحو الأمية والتعليم والثقافة، وهو ما أجج مشاعر البلغاريين، وأشعل وسائل التواصل بالتعليقات الحماسية، منها مثلًا "أنا فخور حقًا بأصل بلغاريا وتراثها وأدبها وثقافتها"، "بلغاريا فخورة بك"، "دع اللغة البلغارية تُسمع!". تردد الصدى عبر الأثير، وسرعان ما تلقى البلغاريون التهاني من بلدان أخرى؛ "كاتبي المفضل. تهانينا من الهند"، "فوز غوسبودينوف يمثل اختراقًا للأدب البلغاري على المسرح الدولي". وما بين يوم وليلة قفزت مبيعات الرواية على نحو خرافي، لتعكس القيمة الفعلية التي تحققها جائزة في وزن البوكر للفائزين بها منذ انطلاقها عام 2005 فضلًا عن قيمتها المادية المغرية.
لم يكن أي من هذا ممكنًا لولا أنجيلا روديل؛ المترجمة الأميركية التي تصدرت مع جورجي صفحة الجائزة، ومعظم الصحف العالمية، وهما يمسكان معًا وجنبًا إلى جنب بالكتاب الفائز. حصلت روديل على الجنسية البلغارية في عام 2014 لمساهمتها الملحوظة في ترويج الثقافة البلغارية بترجماتها الدقيقة للأعمال التي تصور حياة البلقان وتاريخها، وسلطت الصحف المحلية الضوء على أهمية عملها: "لقد تعرف العالم على بلغاريا وكتابها على وجه التحديد من خلال ترجمات أنجيلا روديل"، لكن هذه ليست المرة الأولى التي  يفوز فيها الثنائي بجائزة، سبق أن ترجمت رودل رواية غوسبودينوف الثانية "فيزياء الحزن/ The Physics of Sorrow"، وفازت بثلاث جوائز، كما تعاونا معًا في عدد من القصص القصيرة، والمقالات، والمسرحيات، ونصوص أوبرا، على مدى سنوات طويلة. لهذا لم يكن من المستغرب أن تقوم روديل بترجمة الرواية مجزأة بمجرد أن ينتهي جورجي من كتابتها، وتقول روديل في حوار معها على صفحة الجائزة: "لطالما كان تعاوننا الوثيق ممتعًا وملهمًا فكريًا".

الهروب من الزمن وإليه
بدأت الرواية الثالثة لجورجي بفكرة عن عيادة للماضي يتم فيها علاج المصابين بالخرف اعتمادًا على ذاكرة الجسد، من الروائح والأصوات والمشاهد المختزنة في الحواس على نحو يتعذر محوه، أو كشطه، أو تشويهه. وجاءت الأحداث المزعجة، كخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي تنتمي إليه بلده منذ 2007، وتنصيب دونالد ترامب رئيسًا في أميركا، كي تختمر في ذهن صاحبها بعد عقد من ورودها لأول مرة، مقلقلة المخاوف المستقرة داخله عن أهوال الحرب منذ طفولته.




كان غوسبودينوف وزوجته يتابعان نتائج الانتخابات الأميركية في غرفة بفندق في فيينا، وما إن أعلن عن فوز ترامب حتى  انفجرت زوجته في البكاء. يقول في حوار معه نشرته الغارديان البريطانية: "كانت تبكي من أجل ابنتنا. لم نكن نريد هذا لها، وانتابنا إحساس باليأس والعجز". وفي زمن اليأس والعجز يجهد الخيال للهروب من أسر الواقع بخلق مساحات آمنة كما فعل الدكتور غوستين في عيادته في زيوريخ في سويسرا، المخصصة لإراحة الأذهان من محاولات التذكر غير المجدية، بعد جائحة أصابت ذاكرة المسنين بالعطب، مثل هذا التناول، ألا يذكرنا بما طرحه ساراماغو في روايته "العمى"؟!



الكل يريد قطعة من الزمن
تعتمد فكرة غوستين على استرجاع الزمن، ذلك السهم المنطلق دائمًا وأبدًا إلى الأمام على نحو ثابت ومنتظم بحيث لا يمكن زحزحته خطوة واحدة للوراء إلا عبر الذاكرة والتداعي. وحتى يسلك طريقًا آمنًا للعودة بعيدًا عن الخيال العلمي والفجوات الزمنية الغامضة، كان عليه أن يقاطعه مع المكان كإحداثين أساسيين لا يمكن للتجربة الإنسانية إلا العبور خلالهما. المكان إذًا شرط أساسي لتفعيل الزمن، ويأتي في رواية جورجي على شكل عيادة مكونة من طوابق عدة، كل طابق منها يستنسخ عقدًا بأدق تفاصيله؛ الأثاث، طريقة ترتيبه، الأرضيات، ورق الحوائط، المصابيح، وماركات السجائر، المشروبات وأطباق الطعام، الصحف الأرشيفية، وحتى الروائح والأصوات وطريقة الكلمات، فهل يكفي هذا لاستجلاب الذكريات إلى عقول متآكلة؟! يجيب الراوي: "الماضي ليس ما حدث لك فقط. في بعض الأحيان يكون هذا هو ما تخيلته للتو".
مع نجاح الفكرة، يتوافد المرضى وغير المرضى من مختلف أنحاء العالم على أمل الهروب من أهوال الحياة الحديثة، وتتلقفها الدول فتجري استفتاءات لتحديد العصور التي يريدون العودة إليها، ويسبح العالم في حلم العودة إلى روائح الزمن الجميل، وتروج الأحزاب السياسية لعقود مختلفة في تاريخها القومي، الكل يريد قطعة من الماضي، تختار السويد السبعينيات، بينما تختار معظم دول أوروبا الوسطى أواخر الثمانينيات، عندما كان الأمل بالتغيير يلوح في الأفق، وتستقر بلغاريا، المنقسمة بين الاشتراكية المتأخرة وعصر الأبطال شبه الأسطوريين، على المزج بينهما. في الوقت نفسه يتبين أن بعض المرضى يحملون ذكريات من الأفضل نسيانها، كما المرأة التي يلاحظ غوستين عدم تحملها الاقتراب من الحمامات بعد أن نجت من المحرقة، وهو ما يدفعه إلى التفكير في أن الذاكرة ليست ملاذًا في حد ذاتها، وأن هنالك نوعًا من النسيان ضروري جدًا لشفاء صاحبه. يقول غوستين: "كلما تمدد الماضي، ضاقت الذاكرة".

بروست القادم من الشرق
ظهرت فكرة التلاعب بالزمن مع ملحمة مارسيل بروست "البحث عن الزمن المفقود"، أوائل القرن العشرين، واستطاع جيمس جويس أن يطورها على نحو رائع في روايته "عوليس"، ربما لهذا أطلقت بعض الصحف على غوسبودينوف لقب "بروست القادم من الشرق"، مع كل التلاعب الذي قام به بطله في عجلة الزمن، وتركه رهينة للاختيار. في مقالته لصحيفة الغارديان البريطانية، يصف باتريك ماكغينيس مؤلف الرواية بأنه "كاتب يتمتع بقدر كبير من الدفء والمهارة"، إذ كان من الممكن أن تصبح مجرد لعبة فكرية ذكية تفتقر إلى المشاعر الحقيقية كما نلحظ في معظم الروايات الديستوبية، غير أنها استطاعت أن تحقق التوازن بين تلك المنطقة الضبابية وجيشان الرغبة الإنسانية في الخلاص. تطرق ماكغينيس في مقاله أيضًا إلى العلاقة الوثيقة بين الرواية وصاحبها: "غوسبودينوف نفسه: بلغاري، ولد عام 1968، ولا تزال نهاية الشيوعية بالنسبة له قائمة، حيث تظل بطريقة شبحية في هذه الرواية، نقطة التقاء بين الماضي والحاضر. عاطفته في تلك الفترة صادقة ولكنها تخلو من الأوهام أيضًا. يمكنه استخلاص شخصيات ذات أبعاد كاملة من التفاصيل المشظاة لذكرياتهم المفتتة".
كتب جورجي روايته الديستوبية في الفترة ما بين استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والغزو الروسي لأوكرانيا، وهو ما دفع النقاد إلى وصفه بالمتنبئ، يعلق جورجي ضاحكًا: "ما اعتقدت أنه سيحدث غدًا بدأ يحدث الآن، والمشكلة مع الروايات البائسة في زمن ديستوبي أنها أصبحت كتبًا وثائقية".
هذه هي المرة الثانية على التوالي التي يقع فيها اختيار لجنة التحكيم على رواية كتبت بلغة لم يسبق تكريمها بالجائزة، ففي العام الماضي فازت "ضريح من رمال" للكاتبة جيتانجالي شري، لتسجل أول ظهور في الجائزة للغة الهندية، وهناك تطور غير عادي يحدث، تقول فياميتا روكو، مديرة الجائزة، وإننا "نراه في إصدارات الناشرين المستقلين بلغات لم نشهدها من قبل".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.