}

في ذكرى رحيله: يوسف كارش رائد البورتريهات الفوتوغرافية

تغطيات في ذكرى رحيله: يوسف كارش رائد البورتريهات الفوتوغرافية
(يوسف كارش، Getty)

ولد المصوّر الفوتوغرافي الكندي، الأرمني التركي الأصل، يوسف كارش، في مدينة ماردين الأرمنية، في 23 كانون الأول/ ديسمبر عام 1908. كان الابن الأكبر لتاجر أميّ. وعندما بلغ الخامسة عشرة، سُمِحَ لوالديه وأبنائهما يوسف ومليك وسليم وجميل بالرحيل عن تركيا إلى سورية. وبالفعل، هربت العائلة إلى سورية طلبًا للحرية في رحلة لمدة شهر في مقطورة كردية. وعندما حطت العائلة الرحال، أرسله أبواه إلى شيربروك، في كيبيك، للعيش والعمل مع خاله المصور الفوتوغرافي، جورج ناكاش. الغريب، أنه عندما رحل يوسف إلى كندا عام 1924 لم يكن وقتها يتحدث الإنكليزية. كان يعرف القليل من الفرنسية، وكانت تحدوه رغبة عارمة في أن يصبح طبيبًا، وليس مصورًا فوتوغرافيًا أو مساعدًا لخاله الذي لم يكن قد رآه من قبل قط، لكن الظروف المادية لم تمكنه من تحقيق رغبته وحلمه بامتهان الطب.

بعد سنوات قليلة من الإقامة والعمل مع خاله، انتبه الخال إلى موهبة ابن شقيقته في فن التصوير. فقام ناكاش بإرسال يوسف، وهو في العشرين من عمره، إلى أميركا، تحديدًا إلى بوسطن، لمدة ستة أشهر، وذلك للتدريب على يدي صديقه المصور الفوتوغرافي الشهير آنذاك، جون إتش. جارو. وكان واحدًا من كبار أساتذة التصوير الأرمنيين في أميركا، لكن التدريب استمر لثلاثة أعوام كاملة، تعلم خلالها كارش كل صغيرة وكبيرة متعلقة بتقاليد المهنة.

تعلم كارش من جارو استراتيجية استخدام وتوظيف الضوء والظلام، والتناقض فيما بينهما. وهي خاصية مميزة جدًا نراها بجلاء في أعمال كارش. كذلك نبهّه جارو وعلمه كيفية استخدام الضوء الطبيعي في التصوير. ونصحه بضرورة دراسة أعمال فيلاسكيز ورمبرانت. ومن المزيا الأخرى الهامة التي اكتسبها كارش في أثناء عمله مع جارو احتكاكه المباشر بمشاهير المدينة آنذاك الذين كانوا يترددون على الاستوديو. كان لتعرض كارش في مطلع شبابه وبداية حياته المهنية للمشاهير من السياسيين والكتاب والزعماء والطبقة الاجتماعية في بوسطن انطباع لا يمحى، ومساهمة ذات أثر كبير في مسار حياته المستقبلية. وكان كارش في أثناء وجوده في بوسطن يتردد على معارض الفن التشكيلي والمتاحف، ويقضي معظم الوقت في المكتبة العامة، وفي المساء ينكب على كتب الفن.

عاد الشاب الموهوب والمتعطش إلى كندا عام 1931، وافتتح أستوديو متواضعًا في العاصمة الكندية أوتاوا عام 1932. إلى جانب عمله في الاستوديو كان يُنجز بعض المهام لصالح "مسرح أوتاوا الصغير". مكنه عمله مع مسرح أوتاوا من عقد صداقات ومعرفة الكثير من صفوة رجال الحكومة والسياسة والثقافة والفن في العاصمة الكندية، الذين بدؤوا في التردد على محله. كما التقى هناك زوجته الأولى سولانج جوثير لأول مرة عام 1932. وتزوجا بعد ذلك عام 1939. وقد توفيت سولانج عام 1941 بالسرطان، ولم ينجبا أطفالًا. ثم تزوج كارش من إسترليتا ماريا ناتشبار عام 1962.

لفت كارش النظر إليه بموهبته بعد افتتاحه لمحله. في البداية كان زبائنه من سكان أوتاوا الذين جاؤوا ليس فقط من أجل التصوير لاستخراج الجوازات، بل أيضًا لالتقاط صور الأفراح، وأخرى عائلية وغيرها. كانت صور المناسبات الاجتماعية التي يصورها كارش جيدة وجذابة، وساهمت في ذيوع شهرته لدى السياسيين، حتى وصلت إلى رجال الحكومة الكندية. كان من بين من استرعت انتباههم رئيس الوزراء الكندي في ذاك الوقت، ماكنزي كينج، الذي أعجب بذوق المصور المجهول نسبيًا، وراح يعمل على مساعدته في زيارة الوجهاء من أجل التقاط الصور لهم. كان ماكنزي هو أول مرشد وناصح لكارش، وأول من أتاح له الفرصة للتقرب بشدة من رجال الدولة الكندية، حتى أصبح في النهاية المصور الرسمي للحكومة الكندية.

أول كتاب لكارش، والمنشور تحت عنوان "وجوه القدر" (1946) 


ظل كارش يمارس مهنته كغيره من المصورين الفوتوغرافيين في كندا حتى كانون الأول/ ديسمبر عام 1941، إذ تبدلت حال كارش كلية، وتغير مسار مستقبله المهني أيضًا من مجرد مصور فوتوغرافي في محل صغير في أوتاوا إلى ما صار إليه بعد ذلك. حدث ذلك عندما حضر إلى أوتاوا رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، ونستون تشرشل، الذي كان يقوم بجولة لحشد الحكومات في أميركا الشمالية ضد ألمانيا النازية. كان رئيس الوزراء ماكنزي قد رتب دون علم تشرشل لجلسة تصوير خاصة به بمناسبة حضوره إلى كندا. وبالفعل، بعد انتهاء تشرشل من خطابه في مجلس العموم، وفي أثناء تواجده في مبنى البرلمان في أوتاوا فوجئ تشرشل بأحد المصورين الشباب يطلب منه التصوير. اغتاظ تشرشل جدًا وانفعل لعدم أخذ إذنه مسبقًا، لكنه وافق في النهاية على مضض، وقال للشاب في غضب: سأمنحك دقيقتين فقط، أسرع دقيقتين فقط لا غير. وشرع في إشعال سيجاره وهو يزمجر متذمرًا: "لماذا لم يطلعني أحد على هذا؟"، لكن كارش لم يعبأ بما كان تشرشل يقوله، وطلب منه أن يطفئ سيجاره، فلم يكن كارش يريد تصوير تشرشل بطريقة تقليدية يظهر فيها كما ظهر في كثير من صوره الشهيرة ممسكًا بسيجاره. تقدم منه كارش ممسكًا بمطفأة سجائر، لكن تشرشل استمر في التدخين، ورفض طلب كارش بإزالة السيجار من فمه. عندئذ، وكان كارش في الثالثة والثلاثين من عمره، اقترب من الرجل المهيب وقال له: "اعذرني، يا سيدي". وبهدوء انتزع السيجار من بين شفتيه. وبينما كان تشرشل بين الحيرة والاندهاش من هذا الفعل المفاجئ من جانب الشاب الوقح الجريء، والتجهم والعبوس الشديدين يعتريان وجهه، كان كارش أمام الكاميرا، يلتقط الصورة بسرعة شديدة.

عن هذا كتب كارش في أول كتاب له، والمنشور تحت عنوان "وجوه القدر" (1946): "لم يكن تشرشل في حالة مزاجية تسمح بالتصوير، ودقيقتان هما كل ما سمح لي بهما من وقته. كانت الدقيقتان ضئيلتين جدًا، ويجب عليّ فيهما أن أحاول أن أضع على الفيلم رجلًا كان بالفعل كتب وكتبت عنه مكتبة كتب كاملة، رجلًا حيّر كل كتاب سيرته، وملأ العالم قاطبة بشهرته، وكنت أنا، بهذه المناسبة، متهيبًا جدًا". ويضيف متذكرًا اللقاء: "نظر تشرشل إلى كاميرتي كما لو كان ينظر إلى عدو ألماني، وبالغريزة، قمت بإزالة السيجار من فمه. وفي هذه اللحظة ازداد عبوس تشرشل عمقًا، كان رأسه مدفوعًا إلى الأمام على نحو قتالي، وقد وضع يده على وركه في موقف ينم عن الغضب".

تشرشل، الذي أحس بأنها كانت صورة رائعة، قال لكارش وقد تغير مزاجه فجأة: "بإمكانك حتى أن تجعل من أسد يزأر أن يقف ساكنًا ليُصوّر". دفعه هذا التشجيع إلى التقاط صورة أخرى، وهو جالس. ترتب على تلك الواقعة التقاط ذلك البورتريه الشهير جدًا لتشرشل وعلى وجهه ذلك التعبير العدواني الغاضب كمتحد لا يقهر. وأصبح البورتريه من أكثر صور رئيس الوزراء البريطاني انتشارًا وقتذاك، وحتى يومنا. وقد اعترف تشرشل نفسه بعد ذلك بجمال وروعة ذلك البورتريه، الذي استخدم آنذاك على طوابع البريد في ستة بلدان في الكومنولث. وأصبحت صورة تشرشل تلك رمزًا لروح زمن الحرب، والشعب الإنكليزي الذي لا يقهر.

جعل البورتريه الخاص بتشرشل من كارش مصورًا فوتوغرافيًا مشهورًا وموهوبًا في التقاط البورتريهات تحديدًا. كان كارش يعرف أنه قام بعمل ممتاز، لكنه في ذلك الوقت لم يكن يعرف كيفية تسويقه. طلب نصيحة من ب. ك. ساندويل، ناشر مجلة "مساء السبت" الكندية الشهيرة. لكن كل ما نصحه به ساندويل وقتها أن يحصل لنفسه على وكيل لتسويق أعماله. وسواء عمل كارش بنصيحته أم لا، فقد تمكن من بيعها في النهاية بنفسه إلى مجلة من أشهر المجلات الأميركية وهي مجلة "لايف"، التي نشرتها لأول مرة في صفحة داخلية. ثم بعد ذلك كغلاف في 21 أيار/ مايو 1945. وكان لذلك أبلغ الأثر في التفات العالم إلى اسم كارش كمصور فوتوغرافي قدير.

من البورتريهات التي قدّمها كارش  


في أثناء الحرب العالمية الثانية، وبناء على طلب الحكومة الكندية، ذهب في رحلة عبر الأطلنطي كي يلتقط سلسلة من البورتريهات الفوتوغرافية لعدد من الشخصيات البارزة في تلك الفترة. وبالفعل، انطلق كارش لتصوير كبار الشخصيات في بريطانيا زمن الحرب، وغيرها من البلدان. كان من بينهم الجنرال مونتغمري، والجنرال أيزنهاور، وجورج السادس، ونويل كاوارد، وإتش. جي. ويلز، وبرنارد شو. تمكن كارش في رحلته التي استغرقت 60 يومًا من التقط 43 بورتريهًا، أصبحت فيما بعد نواة لكتالوجه الأول "وجوه القدر". بعد بورتريه تشرشل، أدركت الشخصيات المشهورة أنه المصور الذي يعتمد عليه في إبراز جوهر شخصياتهم. وبعدما كان كارش في السابق هو من يتهافت على الذهاب إليهم أو دعوتهم إلى الاستديو الخاص به بغية تكوين مجموعته الخاصة لبورتريهات المشاهير، تغير الأمر. أصبحوا هم من يتوقون إلى الانضمام إلى مجموعته المتميزة التي ضمت صفوة مشاهير عصرنا. كان كارش يقول، على سبيل الدعابة، فيما يتعلق بأفضل صورة التقطها: "أفضل صورة، ربما تلك التي سألتقطها غدًا". مع ذلك، يعتبر كارش البورتريه الخاص بتشرشل من بين ثلاثة بورتريهات محببة إلى قلبه. البورتريه الثاني لجورج برنارد شو، والثالث لإلينور روزفلت.

قدم لنا كارش، خلال 65 سنة من حياته المهنية، متحفًا ضخمًا من الصور الفوتوغرافية المتميزة، وبورتريهات رائعة للعديد من المشاهير. صوَّرَ كارش على مدار تاريخه المهني أكثر من خمسة عشر ألف شخصية شهيرة. ملوك، ورؤساء، وسياسيون، وفنانون، وموسيقيون، وكتاب، ونحاتون. مثلا، ونستون تشرشل، دبليو سومرست موغام، مارثا جراهام، إرنست هيمنغواي، تشارل ديغول، بيتر لور، يوري غاغارين، جي. إف. كنيدي، ألبرت أينشتاين، مارتن لوثر كنج، جورج واشنطن، مارشال ماك لهان، نورمان شوارزكوف، نيلسون مانديلا، بيل كلينتون، هيلاري كلينتون، إلينور روزفلت، ألبرتو جياكومتي، هيلين كيلر، بابلو بيكاسو، فرانسوا مورياك، جان كوكتو، الملكة اليزابيث، فيدل كاسترو، نيكيتا خروتشوف، شارلي شابلن، كلارك جيبل، أودري هيبورن، آنا مانياني، صوفيا لورين، غريس كيلي، هامفري بوجرت، خوان ميرو، آنيتا إكبيرج، وجميع الباباوات (باستثناء يوحنا بولس الأول)، جيمي كارتر، رونالد ريغن، الملك فيصل... وغيرهم الكثير ممن خلدتهم عدسة كارش، وجعلت من وجوههم أيقونات أبدية.

رغم شهرته في التقاط البورتريهات الشخصية تحديدًا، إلا أن كارش نفَّذَ عدة أنواع أخرى من الصور. إذ تضمنت أعماله صورًا لعدة مدن كندية، وأخرى لعمال المصانع، ولأغراض دعائية لبعض الشركات مثل "كوداك"، وبعض أغلفة المجلات. إن صوره، الملتقطة في الغالب بكاميرا مقاس 8 × 10 بوصة، تحقق أكبر قدر من التجانس بين الضوء والظلام، وبين الشكل والمكان. وقد اتحدت ثقافة كارش وموهبته وحساسيته إزاء الموضوعات التي يصورها بمهارته التقنية الرائعة، ما أتاح لنا رؤية شخصيات كثيرة من عصرنا بشكل إنساني قريب ومحبب يلتصق بالذاكرة. وهي، في النهاية، عبارة عن ذكريات تكشف عن شيء ما خاص بطبيعة عصرنا والمشاهير الذين ينتمون إليه. ما جعل كارش أول مصور فوتوغرافي يقام لصوره معرض خاص بمفرده في كندا. وذلك عام 1967 تحت عنوان "أناس صنعوا عالمنا". وكان معرضًا ضخمًا ضم أكثر من مائة بورتريه، وطاف المعرض أرجاء أوروبا وأميركا الشمالية.

كما نشر كارش أيضًا العديد من الكتالوجات لبورتريهاته الفوتوغرافية، لاعتقاده بأن عرضها معًا مجتمعة في كتاب مسلسل يعطي الصور قوة بصرية لا يستطيع البورتريه الوحيد بمفرده أن يمنحها. في كل مجموعة ضمها كتابه الأول، "وجوه القدر" (1946)، كانت البورتريهات مصحوبة بنص مكتوب بقلم كارش بناء على الجلسة والحوار الذي عقده مع الشخصية صاحبة البورتريه. وشرح كارش أن هدفه كمصور فوتوغرافي للوجوه كان القيام بتصوير بورتريهات للمشاهير "بالطريقة التي يبدون لي بها". ومع أن معظم شخصيات كارش من المشاهير إلا أنه قال مرة: "أحب تصوير الأرواح العظيمة، سواء أكانت لمشاهير أو لأناس متواضعين".

من البورتريهات التي قدّمها كارش  


كما أصدر كارش بعد ذلك مجموعة أخرى من الصور الفوتوغرافية في كتالوج بعنوان "بورتريهات العظمة" (1959). وبعد ذلك بثلاث سنوات، نشر سيرته الذاتية تحت عنوان "بحثًا عن العظمة". وفي عام 1984، نشر كارش كتالوجًا آخر له بعنوان "كارش، أساطير أميركية" ضم ثلاثة وسبعين بورتريهًا لشخصيات أميركية شهيرة من الرجال والنساء في منازلهم؛ مثل ليونارد بيرنشتين، وبيل وهيلاري كلينتون، ونورمان شوارزكوف وغيرهم. وبعد صدور ذلك الكتالوج الذي غطت صوره الفترة من 1989 وحتى 1991، أغلق كارش الاستديو الخاص به في فندق "تشاتيو لورير"، قرب البرلمان في أوتاوا، وهو في الثالثة والثمانين من عمره، وذلك بعد ستين عامًا على افتتاحه. ثم تقاعد عن العمل في نفس العام- 1992. وغادر بعدها أوتاوا للاستقرار في نيويورك، حيث توقف عن قبول أي طلبات للتصوير، وأعلن: "الآن لن أصور إلا الذين أرغب في تصويرهم فحسب".

*****

فيما يتعلق بطرقه أو أساليبه في العمل، أكد كارش على حاجة المصور إلى التآلف: "في البورتريه الناجح للشخص الذي يجلس للتصوير يجب على المُصَوِّر أن يكون مستعدًا ومتسلحًا بالمعرفة قدر المستطاع عن الشخص الذي يُصَوِّرُه حتى يصبح التآلف الفوري مدركًا، لأن القلب والعقل هما العدسة الحقيقية للكاميرا". وكتب كارش عما يؤمن به من لحظة صدق في أثناء التصوير قائلًا: "هناك لحظة قصيرة، يكون فيها عقل الإنسان وقلبه وروحه منعكسة في عينيه، ويديه، ووضعه الجسماني. هذه هي لحظة التقاط الصورة. اللحظة الجديرة بالتسجيل، هذه هي "لحظة الصدق" المحيرة والمراوغة". من هنا، كان كارش يفضّل تصوير الناس في بيئتهم الخاصة، ويحاول أن يعرف قدر الإمكان من يصوّره قبل الشروع في جلسة التصوير. وفي أثناء الاستعداد للتصوير كان يقرأ قدر المستطاع عن الشخصية قبل إجلاسها للتصوير، لكنه يتجنب، في الوقت نفسه، كما يقول: "امتلاك أي فكرة مسبقة عن الكيفية التي سأقوم من خلالها بتصوير أي شخصية".

"كل ما أعرفه هو أنه بداخل كل رجل أو امرأة سر خفي، ومهمتي كمصور إماطة اللثام عنه إن استطعت". يوضح هذا أن عمل كارش اعتمد ليس على موهبته وحرفيته فحسب، بل على الشخصية التي يصورها أيضًا، ومدى تعاونها معه في خلق البورتريه المُراد. وقد وظف كارش ببراعة كل ما يتعلق بلغة التصوير من إشارات اليدين، وحركات الوجه وسكناته، ولغة الجسد وحركاته وإيماءاته، واتجاه تحديق العينين، لينقل لنا بوضوح وبشكل مترابط الرسالة المتعلقة بمن يجري تصويره. وعبر الإضاءة والتأثيرات التي خلقها، استطاع أن يُبرز ويسرد قصة الشخصية صاحبة البورتريه وأهم سماتها. لذلك، نجد مثلا أن صور السياسيين الذين صورهم يبدون لنا كأولياء سياسيين، إن جاز التعبير. فوجوههم محاطة بهالة من الضوء أسبغ عليهم صفة دينية. كما راعى كارش أن يبرز لكل شخص ما يناسبه وما يلائمه. فالممثلون المسرحيون كانت تأخذ لهم لقطات حية بالملابس الخاصة بالأدوار. وكذلك بعض الأدباء، مع كتاب أو بنظارة القراءة. والموسيقيون مع آلاتهم. والرسامون والنحاتون مع نماذج من أعمالهم.

قال رولان بارت: "إن مصوري البورتريهات العظام هم علماء ميثولوجيا عظماء". إنه قول ينطبق تمامًا على كارش الذي تعتبر صوره الفوتوغرافية، خاصة البورتريهات، بمثابة طبقات طبوجرافية لعصرنا، إن جاز التعبير. لذلك، فقد كانت جديرة بوضعها على الطوابع والعملات، وفي المجلات، وعلى الأغلفة، وفي المطبوعات والمؤلفات الخاصة، وغيرها من وسائل الدعاية والإعلام.

بالطبع في حياة أي مصور لحظات سعادة أو كآبة من الطبيعي أن يمر بها كغيره، لكن ماذا عن طبيعة لحظات كهذه بالنسبة لمصور كبير يتعامل مع المشاهير ورجال الصفوة في المجتمعات؟ من أكثر اللحظات الكئيبة بالنسبة لكارش عندما ذهب لتصوير ألبرت أينشتاين، في جامعة برنستون، عام 1948. آنذاك، كان العالم تعتريه المخاوف من خطر القنبلة الذرية، والتوترات القائمة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. سأل المصور الفيزيائي النوبلي عما يمكن أن يعنيه كل هذا للعالم. فرد أينشتاين: "لن نصبح قادرين على الاستماع إلى موسيقى موزارت لو لم نحتفظ بعقولنا". وقال كارش متذكرًا: "كان أينشتاين محبطًا بشدة من المشهد العام آنذاك". ومن أكثر الأشياء التي شعر كارش بالأسف عليها فيما يتعلق بمهنته، عدم سماح الظروف له بتصوير الرئيس ماو. ومن بين الصور التي تحدث عنها كارش بإعجاب شديد إلى درجة الافتتان تلك التي التقطها في نفس العام لهيلين كيلر. "قبلتها على جبينها، فاعتراها الخجل، واحمرّت كالأطفال. ثم وضعت يديها على وجهي وقالت لي: "إنني أصورك الآن بلمساتي"، كانت تلك اللحظة من بين أكثر اللحظات تأثيرًا في حياتي".

كان معروفًا عن كارش أنه يقوم بتحميض صوره مستعينًا بمساعدين. وكان يوقع صوره بالحبر الأسود على الواجهة. وعادة ما كانت تدمغ أو تختم بختم الاستديو في الخلفية، بعد أن كانت صوره المبكرة يتم توقعيها بالحبر الأبيض على الصورة نفسها. وكان من بين الصور الأخيرة التي التقطها كارش قبل تقاعده تلك التي لنيلسون مانديلا، والرئيس بيل كلينتون، بعد وقت قليل من انتخاب هذا الأخير في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1992.

أقيمت لكارش الكثير من المعارض في كندا، وبريطانيا، وأستراليا، والصين، وأميركا. وقد بلغ إجمالي إنجازه 370 ألف نيجاتيف تقريبًا. و12 ألف شريحة ملونة. و50 ألف مطبوعة أصلية.  تحصّل الأرشيف القومي الكندي في 1987، عندما بلغ كارش من العمر ثمانين عامًا تقريبًا، على ما يزيد عن 370 ألف نيجاتيف، و17 ألف بورتريه تقريبًا، صورها كارش على مدار ستة عقود، والكثير من المطبوعات والصور الخاصة به التي تغطي الفترة ما بين 1933 و1987. وكذلك كل ما يتعلق بمقتنياته من الصور الفوتوغرافية، والأعمال الفنية، والأوراق الشخصية، والرسائل الخاصة، والقصاصات، والجوائز والأوسمة، والمقابلات المسجلة. كما تبرّع كارش أيضًا بمئة صورة تقريبًا إلى "الجاليري الوطني الكندي"، الذي سمح له في عام 1960 بالقيام بأول معرض فردي. وقد خصصت إحدى الحجرات في "معرض البورتريه القومي الكندي"، عندما افتتح عام 2005، لتعرض فيها صور كارش. كما اقتنى متحف العلوم والتكنولوجيا في كندا كل معدات وأدوات التصوير الخاصة بكارش، وذلك بعد وفاة يوسف كارش في ماساتشوسيتس، في بوسطن، إثر مضاعفات أعقبت عملية جراحية أجريت له لإيقاف نزيف في الأمعاء يوم 13 تموز/ يوليو عام 2002.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.