}

شكسبير: سيرة غامضة وتكهنات لا تنتهي بشأن هويته!

سناء عبد العزيز 5 يوليه 2023
تغطيات شكسبير: سيرة غامضة وتكهنات لا تنتهي بشأن هويته!
شكسبير أثناء أداء "سيدان من فيرونا" أمام إليزابيث الأولى(1594/Getty)
أفضت ندرة المعلومات المتوفرة عن حياة شكسبير إلى اشتغال الخيال بفيض من التكهنات عن هويته الحقيقية. جزء من هذا يرجع إلى عدم اضطلاع أي من معاصريه، أو أصدقائه، بتوثيق سيرته الذاتية على نحو يتناسب مع ما حازه من شهرة واسعة يتعذر مقارنتها بأي كاتب آخر، والجزء الأهم يتعلق بشكسبير نفسه، الذي لم يكن من بين أهدافه أن يقدم معلومات عن نفسه. مات وليم شكسبير بعد معاناة مع الحُمى، وقرعت كنيسة ستراتفورد أجراسها لإعلان موته في 23 أبريل/ نيسان 1616، اليوم الذي ولد فيه قبل 53 سنة، ودفن على عمق 17 قدمًا، خوفًا من عدوى التيفوس، وكانت هذه آخر وصية كتبت على شاهد قبره: "أيها الصديق الطيب، كرمى ليسوع لا تحفر هذا التراب المسّور ههنا، مبارك من يحفظ هذه الأحجار، وملعون من يحرك عظامي".

أشباح شكسبير
شكسبير (1564 ـ 1616) يقرأ "هاملت" لعائلته (حوالي 1600/ Getty)


بعد نصف قرن تقريبًا على رحيله، ظهرت بوادر الاهتمام بابن صانع القفافيز الذي ولد في ستراتفورد على نهر آفون عام 1564، وتربى ومات فيها، وأصبحت مقصدًا سياحيًّا شهيرًا لحوالي 5000 سائح من كافة أنحاء العالم يزورونها كل عام لرؤية مسقط رأس الكاتب الذي غزت أعماله الثقافات كافة، وعبرت القرون. بدأ وليم حياته بتأدية أدوار صغيرة في فرقة "رجال اللورد تشامبرلين"، كما قام بمعالجة نصوص مسرحية، ثم أصبح كاتبًا لعروض من بنات أفكاره. غير أن هذه السير المبكرة اتسمت بوجود فجوات كثيرة لم يتمكن البحث من ملئها إلا بحفنة من التخمينات التي لم ترقَ أبدا إلى درجة اليقين في ظل غياب الحقيقة الموثقة.
مع منتصف القرن التاسع عشر، اشتعل الجدل لأول مرة حول نسب أعمال شكسبير إليه بعد أن أطلق عليه لقب أعظم كاتب في التاريخ، وهو ما أثار حفيظة بعض الكتاب والمسرحيين، منهم مارك توين، وهنري جيمس، وبول كلوديل، الذين استنكروا أن تصدر هذه الأفكار السامية والخيال العبقري عن شخصية متواضعة مغمورة مثل ابن صانع قفافيز. في هذا الصدد، عبر رالف والدو إمرسون في محاضرة ألقاها في 1846 عن عدم قدرته على التوفيق بين سمو أبيات شكسبير الشعرية، وصورة الممثل الريفي الكوميدي الذي يدير فرقة مسرحية.




كان طبيعيًا أن يذهب هؤلاء المتشككون إلى اقتراح بديل أفضل من حيث النشأة والثقافة والتعليم تتوافر فيه الشروط المرجوة، لا سيما الأصل الأرستقراطي، وألفة البلاط والقصور، كما وردت في أعمال شكسبير. فإذا بحفنة من الأشباح وصل عددها إلى 80 اسمًا تخرج من قبورها لتتربع على عرش شكسبير، بمن فيهم الكاتب فرانسيس بيكون، وكريستوفر مارلو، وغيرهما من المؤلفين الرجال بالطبع، لكن سؤالًا أخيرًا ومربكًا طرحته الصحافية والباحثة إليزابيث وينكلر في مقال نشرته صحيفة الأطلنطي ذهب بشكسبير إلى أغوار بعيدة، ربما لأنه يحاول أن يفصل لأصابعه الرقيقة قفازًا من المخمل، ويحشر قدميه الصغيرتين في حذاء رفيع مدبب: ماذا لو أن شكسبير كان امرأة؟
تدعي وينكلر أن المشككين في هوية شكسبير ذهبوا إلى المكان الخطأ، فلم ينتبهوا إلى الطبيعة النسوية لمسرحياته وقدرته المدهشة على تجسيد المرأة بأبعادها الثلاثة كما لو كان "امرأة تجيد الكتابة"، ألم يتمكن بالفعل من سبر أغوار جولييت المراهقة، والليدي ماكبث، وكليوباترا، وروزاليند، وبورشيا، وبياتريس، وميراندا، ناهيك عن كاثرينا في ترويض الشرسة، وهيرميا في "حلم ليلة صيف"، والقائمة تطول. نساء شكسبير خالدات بالفعل، يتحركن من مناطق مدهشة، ويعبرن إلى عوالمهن بشفافية مذهلة. لقد استطاع شكسبير أن يجسد "جوهر" الأنوثة بشكل واقعي، ولكنها أحد أسرار عظمته التي لا محالة تتجاوز النوع، إلى طبيعة الإنسان ذكرًا كان أو أنثى، وبؤس صراعه على مدار رحلته الأرضية وهزيمته الحتمية. لكن وينكلر تحدوها رغبة طفولية في أن يكون شكسبير بالفعل امرأة، "امرأة مثلي" تقول، كما لو أن قضية المرأة ستكسب أرضًا جديدة بانضمام شكسبير إليها!

شرط الحضور إلى حفل التفاهة

تتخيل فيرجينيا وولف أن يكون لشكسبير أخت على الدرجة نفسها من الموهبة والعبقرية والخيال، أطلقت عليها اسم "جوديث"


في كتابها "غرفة تخص المرء وحده"، تتخيل فيرجينيا وولف أن يكون لشكسبير أخت على الدرجة نفسها من الموهبة والعبقرية والخيال، أطلقت عليها اسم "جوديث" ومع امتلاكها المؤهلات التي قادت شكسبير إلى العالمية، فهذه الأخت المتخيلة لن تقودها سوى إلى الحضيض، فقط لأنها امرأة اختارت اللعب في عالم الرجال من دون أن تتعلم أصول اللعبة. مع العلم بأن تلك الأصول يتعذر تعليمها لأي أنثى في عصر جوديث ما دامت تصحو وتنام داخل الحيز الضيق الذي أتاحته لها الأسرة طوال فترة تنشئتها. ينتهي خيال وولف المعروف بخصوبته نهاية كلاسيكية لا تقل مأساوية عن نهايات شكسبير. جوديث تتعرض للمضايقة والسخرية. تصبح حاملًا من مخرج ادعى أنه سيساعدها. وفي النهاية تنتحر!
كيف لم يخطر على بال وولف، التي اتخذت من التجريب منهجًا، سيناريو آخر قد يبدو أكثر طرافة مع امرأة بعبقرية شكسبير ودهائه لديها الوعي الكافي بأنها في مجتمع معاد للمرأة ويجد أيما لذة في تسفيه أفكارها، ناهيك عن أن يكلف خاطره بقراءة تلك الأفكار، ألم ينصح ناشر هاري بوتر الكاتبة جوان رولينغ في عصرنا الحالي، أي بعد أربعة قرون على موت شكسبير، بأن تتنكر في اسم رجل، لأن الشباب لن يكون اختيارهم الأول بالطبع قراءة خيال امرأة. فمن تكون جوديث التي تنكرت تحت اسم شكسبير؟
تقترح وينكلر أن تكون الشاعرة إميليا باسينو، التي ولدت عام 1569، وصاحبة البصمة الأنثوية التي دمغ بها شكسبير أعماله. باسينو ابنة لموسيقي مهاجر يعمل في بلاط الملك، وتعيش هناك ككونتيسة، ويقال إنها على علاقة حميمة مع ابن عم الملكة، رب عمل شكسبير في الفرقة التي كان يعمل فيها. باسينو أيضًا واحدة من الشاعرات الأوائل اللائي نشرن أعمالهن، سافرت إلى مناطق كثيرة، وتمكنت من إجادة لغات عدة، منها الإيطالية، كما هو مفترض في كاتب أعمال شكسبير التي تضمنت اقتباسات من الإيطالية من دون ترجمة إلى الإنكليزية، فمن أين لوليم، الذي لا يعرف سوى الإنكليزية، وبعض اللاتينية، بتلك الصياغة المحكمة والمعرفة الوثيقة بأخلاق المحكمة، والسياسة، واللغات الأوروبية، والقانون، وجغرافيا إيطاليا، وهو لم يغادر بلده قط؟ لم تعدم وينكلر دليلًا من أعمال شكسبير على توقيع صاحبة البصمة الأنثوية، اسم إميليا موجود في مسرحية "عطيل"، واسم بسانيو في "تاجر البندقية". إنه البوح الذي أجادته المرأة عبر التشفير!
لم تكن وينكلر تتوقع بالطبع حجم رد الفعل على مثل هذا الخيال الجامح، في غضون 48 ساعة من نشر المقال، تقول "حاصرني جيش (معظمهم من الذكور) من المتصيدين على تويتر"، ولم يكن الأساتذة الأكاديميون أكثر تحضرًا، فقد وصفوها بمدبرة المؤامرة، وقارنوها بمنكري الهولوكوست، ومناهضي التطعيم. وذهب آخرون أنها "في قبضة التخيلات العصابية".

الباحثون عن الحقيقة
ترى وينكلر أن الشك عادة فضيلة في عالم البحث، "ولكن عندما يتعلق الأمر بشكسبير، يصبح الشك خطيئة". من هنا جاءتها فكرة كتابها "شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى: كيف أصبح الشك في الشاعر الملحمي أكبر تابو في الأدب"، الصادر في مايو/ أيار 2023 (Simon & Schuster). كتاب وينكلر لا يتوسع كثيرًا في اقتراح امرأة كبديل لشكسبير بقدر ما يتحرى منهج التقصي في كل ما دار حوله، ولأجل تحقيق تلك الغاية، سافرت الكاتبة إلى جميع أنحاء إنكلترا، والتقت بأساتذة ستراتفورد الذين لا يستسيغون الجدل حول هوية شكسبير المحسومة بالنسبة لهم على الأقل، كما التقت بهؤلاء المتشككين الذين قدموا اقتراحات لائقة لتلك الأعمال عدا عن أن يكون شكسبير نفسه هو من كتبها.





يصف إسحاق بتلر حوارًا لبنكلر في مراجعة للكتاب في صحيفة "سلايت" الأميركية بأنه الأكثر إزعاجًا، فهي تحاول استجواب ستانلي ويلز البالغ من العمر 90 عامًا، والرئيس الفخري لصندوق شكسبير بيرث بليس في ستراتفورد أبون آفون حول كتاب ألفه منذ سنوات عدة. وتستخدم وينكلر احتجاجاته المستمرة بأنه لا يستطيع تذكر المصادر التي تتحدث عنها لتنفيه باعتباره "شاهدًا". كتبت تقول: "إننا نأخذ معرفتنا بالماضي من مصادر نثق بها، والقليل منا يعود إلى التحقق من كيفية التوصل إلى "حقيقة تاريخية "، وما إذا كانت صحيحة".
في حوارها مع مارغوري غاربر،‏ مؤلفة كتابي "شكسبير بعد كل شيء"، و"أشباح مؤلفي شكسبير"، رفضت غاربر مناقشة سيرة شكسبير، أو مسألة التأليف، لأن "شكسبير مفهوم ـ وبنية ـ وليس مجرد مؤلف". وعندما سألت وينكلر غاربر عما إذا كانت متأكدة من أن شكسبير هو من كتب هذه الأعمال، أجابت غاربر: "أنا لست باحثة في السيرة الذاتية، ولا أقوم بادعاءات تتعلق بها، أنا شكسبيرية فحسب، ولا أهتم سوى بالمسرحيات". تشعر وينكلر بالحيرة من عدم الاكتراث بمسألة التأليف، وهنات البحث العلمي، فما يهم حقًا، وما ينبغي أن نوليه كل الاهتمام، هو ثراء ما تركه شكسبير. وهو ما يصفه بتلر بـ"أنه هدية عظيمة للعالم، تنتظر من كل جيل أن يتسلمها. لقد تم اختزال مؤلفها، سواء عن عمد، أو بمحض الصدفة، إلى ظل متوار خلفها. ما لم تظهر أدلة جديدة، فلنتركه هناك، بعيدًا عن الكواليس في الظلام، ونركز على ما يهم حقًا".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.