}

عن آلة السوناتة

تيموثي هامبتون 22 أغسطس 2023

ترجمة: سارة حبيب

 

تحتوي السوناتة دراما عاطفية فيها وهم وخداع، مأزق وحل، وهي مصنوعة ببراعة لجعلنا نفكر ونشعر.


"هل لي أن أقارنكِ بيوم صيفي"؟ هذه الجملة الافتتاحية لسوناتة وليام شكسبير الأكثر شهرة قد تجعلك تعتقد أنك على وشك قراءة تقرير عن حالة الطقس. لكنّ ذلك ليس سوى جزء مما هو بانتظارك. إن سوناتة شكسبير - مثل كل السوناتات - هي آلية؛ نوعٌ من الآلة. وأجزاؤها تعمل معًا وتعمل ضد واحدها الآخر لكي تمرّن عقل القارئ. فعندما تتعامل معها، وبينما تدخل عالمها، تحصل على المقابل الأدبي لتمرين في النادي الرياضي.

إن تاريخ الشعر هو تاريخ الأشكال، تلك التي نتعلم الكثير منها في المدرسة: القصيدة الغنائية التي تمدح شخصًا أو شيئًا؛ المرثية التي تندب فقدان حبيب أو موتًا؛ الهايكو مع عدد مقاطعه الصوتية المحدود؛ أو القصيدة القصصية التي تروي قصة ما. لكن، أيٌّ من هذه الأشكال لا يقوم بالقدر ذاته من العمل الإدراكي الذي تقوم به السوناتة المتواضعة. "لا تزدرِ السوناتة"، كتب ويليام ووردزوورث، وكان يعرف عمّ يتحدث.

ظهرت السوناتة أول مرة في إيطاليا بالقرن الثالث عشر. وعادة يُعزى الفضل لرجل دين يدعى جاكومو دا لينتيني بكونه أول كاتب سوناتة. وقد ساعده معاصره دانتي أليغييري في تحسين الشكل، قبل أن يبدأ الأخير بكوميدياه الإلهية الأكثر طولًا. تعني كلمة سوناتة "صوت صغير". ويبدو أنها تطورت من شكل إيطالي أسبق كان يُدعى "سترامبوتو" ويتألف من مقاطع يحتوي كل منها ستة أو ثمانية أسطر. تضمنت السوناتة جمع اثنين من هذه المقاطع لصنع قصيدة قصيرة مؤلفة من أربعة عشر سطرًا، مقسمة إلى ثمانية أسطر وستة أسطر - أوكتاف (ثُمانيّة) وسُداسيّة- مع فاصل في المنتصف يدعى فولتا.

قد تبدو هذه التجميعات العددية مجردة، لكنها ما يجعل السوناتة تقوم بعملها. إن هذه التجميعات تتيح للكاتب أن يقسّم العالم الشعري إلى عالمين؛ أن يصوّر صيغتين من الحدث ذاته، أو حالتين عاطفيتين لا يمكن أن توجدا معًا إلا في حالة توتر. "أحبك بجنون وأقسم بالإخلاص الأبدي [أوكتاف] لكن [فولتا] أرى الآن أنك خائن ماكر"[سداسية]. أو بالعكس: "أعرف أنك خائن ماكر [ثمانية أسطر] لكني مع هذا أحبك بجنون [ستة أسطر]". ما يحدث في الأوكتاف سوف يتم نقضه في السداسية؛ أو تأكيده، أو توسيعه، أو محاكاته على نحو ساخر. بكلمات أخرى، تعمل السوناتة وفق حركة مزدوجة. لكن، أحيانًا، يكون الرهان كبيرًا جدًا. يوبخ جون دون "روحه الشريرة" بسبب إثمها، لكنه بعد ذلك يطمئنها، عبر الفولتا، أنه لم يضع كل شيء: "مع هذا، إذا ندمتِ، لن تفقدي الرحمة".

أن تقرأ السوناتة يعني أن تُواجَه باختبار كفاءة، بمساءلة لقدراتك الإدراكية والأخلاقية. إنها تعبّر عن مرونة الذات. على سبيل المثال، تأخذنا سوناتة شكسبير عن اليوم الصيفي في اتجاهات مفاجئة. إنه يكتب عن صديقته الصيفية المحبوبة مقارنًا إياها بالصيف: "أنتِ أكثر جمالًا منه وأكثر اعتدالًا...". حتى الآن، الأمور جيدة. لكن، مع تكشّف الأوكتاف، يشير شكسبير إلى أن الأيام الصيفية ذاتها متفاوتة، والجمال الطبيعي سريع التقلب: بعض الأيام أكثر حرارة مما يجب، بعضها ليست حارة بما يكفي:

الرياح العنيفة تهزّ براعم أيار الأثيرة،
ومدة بقاء الصيف قصيرة للغاية.
أحيانًا تسطع عين السماء حارة للغاية،
وكثيرًا ما تبهت بشرته الذهبية؛
وكل جمال يطغى عليه جمال،
وبفعل الصدفة، أو تغيرات الطبيعة، يغدو أشعث.

نبدأ هنا بالشعور بالقلق من أن المقارنة المُستحسِنة بيوم صيفي قد لا تكون إطراء عظيمًا في آخر الأمر. "هل لي أن أقارنك بيوم صيفي؟ حسنٌ، ليكن، سوف أفعل؛ لكن اعلمي أن هذه الأيام ليست كلّها مثالية للغاية وأن الخريف، على أية حال، سوف يأتي ولن تدوم تلك الأيام طويلًا". لكن التغيير الذي يصنعه مرور الزمن يتم إيقافه فجأة، تمامًا عند الفولتا التي تعيد تشكيل كل ما أتى قبلًا:

لكن صيفك الأبدي لن يذوي،
ولن تفقدي الجمال الذي تملكينه،
ولن يتبجح الموت بتجولك في ظلاله،
حين تكبرين في هذه السطور الخالدة.

الكلمة الرئيسية هنا هي "لكن"، تمامًا حيث يُفسح الأوكتاف المجالَ للسداسية. تخبرنا تلك الكلمة أنه ليس على المحبوبة أن تقلق في شأن التقدم في العمر أبدًا - سواء كانت يومًا صيفيًا أم لا- بما أن قصيدة شكسبير سوف تعيش إلى الأبد:

طالما بقي في البشر نفس، أو في العيون نظر،
ستعيش هذه القصيدة، وهذه القصيدة سوف تهبك الحياة.

يتبين أن القصيدة التي بدت أول الأمر قصيدةً عن الطقس الجيد، الأيام الدافئة وإيقاعات الطبيعة، هي في الواقع احتفاء بقوة الشعر. إن آليةَ تبديلٍ واحدة موضوعة في مكانها المناسب- كلمة "لكن"- توقف الزمن.

أول كتّاب السوناتة النجوم كان وريث دانتي الأدبي، الشاعر بترارك من القرن الرابع عشر الذي كتب أكثر من 300 سوناتة كانت كلها مهداة لامرأة تدعى لورا 


لاحقًا، وما إن طوّر كتّاب السوناتات طرقًا لوضع جزأي القصيدة في مواجهة واحدهما الآخر، جرّبوا تقسيم كل نصف إلى أفكار فيها المزيد من التعارض. ويمكنك تنفيذ ذات الخدعة مع السداسية، مانحًا إيانا ثلاثة أسطر تقول شيئًا واحدًا، ثم ثلاثة أسطر تغيّر المنظور. "لكي أجد الخلاص من جديد،" تقول الشاعرة الفرنسية من القرن السادس عشر لويز لابيه في سداسيةِ واحدةٍ من أكثر قصائدها قوة: "عليّ أن أعيش خارج ذاتي/ أو أن أتأكد من بقائي بعيدة عنك قدر المستطاع". ما من مهرب من الحب، ولا حتى في البرية.

الكثير من السوناتات العظيمة، مثل سوناتات شكسبير، أو جون دون، تتقلب جيئة وذهابًا، مغيّرة الأحكام مرة بعد أخرى بينما يتبع كل سطر السطر السابق له. "أوه. اجعلي نفسك سوداء بالندب المقدس"، يقول دون لروحه التي تطلب الرحمة. "أو اغسلي نفسك في دماء المسيح"، يضيف مستحضرًا قدرة دم المسيح المخلص على جعل الأشياء ناصعة البياض. إن حركة القصيدة، سطرًا تلو الآخر، تعكس اضطراب الروح الآثمة المستميتة من أجل الراحة. بالتالي، قراءة السوناتة تعني أن تصبح مجبرًا على الاحتفاظ بمقولات مختلفة في العقل، ووضعها واحدة قبالة الأخرى، لترى كيف تشكّل كل واحدة منها الأخرى. إن القصيدة أداة لتنمية الأحكام.

أول كتّاب السوناتة النجوم كان وريث دانتي الأدبي، الشاعر بترارك، من القرن الرابع عشر الذي كتب أكثر من 300 سوناتة كانت كلها مهداة إلى امرأة تدعى لورا. أتاح شكل السوناتة لبترارك أن يصف فرادة حبه وأن يستعرض الضرر الذي كان يسببه ذلك الحب لروحه في الآن ذاته. كذلك، اخترع بترارك استخدامًا جديدًا للسوناتة من خلال رصف قصائده معًا لتشكّل حكاية مفككة. وفي وقت لاحق، بنى شعراء مثل ألكسندر بوشكين وفيكرام سيث روايات كاملة من سلاسل من السوناتات. إنه منهج يتيح للكتّاب أن يلعبوا بمسألتي الاستمرارية والقطع، فارضًا على القارئ وجهات نظر متمايزة بينما يتنقل عبر القصة، وقاطعًا الحدث بتعليق ساخر.

كان بترارك سيد هذه التقنية. إنه راسمُ خرائطِ الروح المعذبة. وما يشكّل اضطرابًا عاطفيًا للشاعر هو بمثابة أحجية إدراكية للقارئ الذي يتبعه باهتمام. يقول بترارك في الأوكتاف إن وجود محبوبته يهدئ رغباته ويخفف من عذاباته، لكن، في اللحظة التي تكون فيها بعيدة (في السداسية) تكون روحه بائسة. إنها تغادر جسده بشقاء عندما يفكر بمحبوبته. التباين بين الحالتين ليس سيَرِيًا وحسب، إنه روحي ونفسي، حربٌ بين الواجب والرغبة. وربما يكون من الحماقة أن يظل مستيقظًا، في حين أن عليه أن ينال بعض الراحة التي هو في أمس الحاجة إليها. لكن الاستمتاع بالحياة للحدّ الأقصى يعني أحيانًا فقدان القدرة على النوم. هكذا، علينا كقراء أن نعرف أيهما أفضل، له ولنا.

إن ثيمة الوهم مقابل الحقيقة هي، حسب رأيي، من صلب السوناتة تقريبًا. إنها السبب في أن السوناتات كانت شائعة على وجه الخصوص في سياقات شكّلها القلق الاجتماعي؛ أوروبا عصر النهضة مع طقوسها البلاطية المعقدة هي أحد الأمثلة. كان بترارك بصورة أو بأخرى ممارسًا فريدًا للشكل في كتابة السوناتة. لكن كتّاب السوناتات العظيمين في عصر النهضة، مثل توماس وايات وفيليب سيدني، استخدموا الشكل لاستكشاف التحديات العاطفية للعيش في البلاط حيث تشكّل المنافسات وألعاب السلطة الحياةَ الاجتماعية. وقد عبّروا عن التباين المثبِّط بين أوهامهم عن السلطة والمتعة ("أنتِ جميلة مثل ظبية") وإحباطاتهم ("لكنك، للأسف، خليلة الملك"). أصبحت ثيمة الإحباط نوعًا من الهوس في القرن التاسع عشر عندما استخدم الشاعر الفرنسي شارل بودلير السوناتة كأداة للثورة ضد المجتمع البرجوازي بورعه الزائف وفساده العميق. كان بترارك ووايات مجروحين من الحب: بودلير كان مجروحًا من الحياة نفسها. وسوناتة "الحسناء" التي كتبها تبين المخاطر التي يواجهها كل من يكتب، وينخدع بالطريقة التي بها الحسناء "تلهم الشاعر حبًا فريدًا/ خالدًا وأبكمًا كالمادة". مع هذا، لا يأتي أبدًا أي كشف للحقيقة، إذ أن شخصية الحسناء عند بودلير لا تقدم أي شيء سوى "مرايا صافية" لتغوي الشاعر بالأوهام.

يصل شعر بترارك، وايات وبودلير للجميع لأننا جميعًا تعرضنا لخيبة الأمل والخداع في مرحلة ما. تصوّر سوناتاتهم الإخفاق ونقيضه، الوهم والحقيقة، التمني وخيبة الأمل، الرغبة والخداع. وبقراءتها، يتم إخضاعنا لتحدٍ مستمر يدعونا لأن نضع أنفسنا في موضع الشاعر وهو يتعامل مع مراحل متدرجة من الأمل والحزن. إنه تمرين يهزك كقارئ مُخرجًا إياك من حالة الراحة وطالبًا منك، لمسافة سطر أو اثنين، أن تفكر بما قد يحدث عندما ينقلب عالمك رأسًا على عقب.

علاوة على ذلك، يزداد تعقيد التحديات الإدراكية التي أربطها بقراءة السوناتة عندما نفكر بالقافية. الكثير من القصائد الغنائية والمرثيات مكتوبة وفق أزواج مقفاة، أو على شكل شعر مرسل (غير مقفى). إنما ليس السوناتة. فهي، بسبب شكلها المعقد والمكثف، أرضُ عجائبَ حقيقية من الأصوات المقفاة. فالأوكتاف الموثوق، بتركيبته المتوازنة المؤلفة من مقطعين يحتوي كل منهما أربعة أسطر، يمكن أن يمنحنا قوافي محصورة
(abba) أو قوافي متناوبة (abab). وكلا النمطين ينشئان روابط بين الأصوات، بحيث يجري استدعاؤنا من السطر الثالث أو الرابع، إلى السطر الأول، لنفكر بهذه الارتباطات. ثم، تمامًا حين تتم تهدئتنا بنمط الأوكتاف، تأتي السداسية الجامحة في القسم الثاني من القصيدة لتغيّر كل شيء. قد تعطينا السداسية أنماطًا من ثلاثة أسطر(efg, efg) أو تعكس ذلك وتعطينا (efg, fge) ساحبة إيانا للخلف بينما نحاول أن نتقدم؛ مجبرة إيانا على أن نتوقف ونفكر بما قد يكون مشتركًا بين السطر التاسع والسطر الرابع عشر، ولماذا اختار الشاعر أن يقفيهما. إن التراكيب المقفاة المعقدة للسوناتة تظهر لنا أن القصيدة تجري محادثة مع ذاتها، مرجعةً صدى أصواتها الخاصة، مستجيبة لموسيقاها الخاصة.

تذهب الشاعرة المعاصرة جين بيرفن خطوة أبعد من خلال وضع "شبكة" أو مصفاة، فوق نص سوناتات شكسبير، محولة إياها إلى سوناتات أخرى 


كذلك طوّر الشعراء الفرنسيون تقنيات جديدة تتضمن وضع زوجٍ من الأسطر المقفاة تمامًا في وسط القصيدة، معزولين عن كل شيء آخر، بعد الأوكتاف، في الأسطر 9 و10. وهما يقدمان غالبًا عبارة متماسكة، منغلقة على ذاتها؛ خاتمة أو نقطة استراحة أو ملخص، مثل لازمةِ أغنية شعبية. يمكننا أن نبحث عنهما، ننتظرهما، نأخذ نفسًا ونسترخي معهما، بعد الاضطراب المحوِّر للأسطر الافتتاحية. في منتصف السوناتة، تضع لابيه مرساة قصيدتها حول الهرب من حبيبها من خلال إخبارنا أنها وجدت حلًا لألمها، "وألهي نفسي عن أفكار الحب/ في الأحراش التي أجد فيها أقصى درجات الوحدة". إنها تقفي كلمة (distraire) التي تعني "إلهاء" مع كلمة (solitaire) التي تعني "وحيد"؛ وهو تلخيص يجد حلًا لألمها العاطفي على ما يبدو. إذا كنتَ غير سعيد، غادر البلدة فحسب. لكننا ندرك عندها أننا لا نزال في منتصف القصيدة، ولا يزال أمامنا أربعة أسطر. فربما لا تكون مغادرة البلدة هي الحل في آخر الأمر. فهل سُينشأ نمط جديد من القوافي؟ هل سيتردد صدى ما قرأناه للتو؟ وأي تعقيدات جديدة ستُطرح قبل أن نصل إلى السطر 14؟

حلّت السوناتة الإنكليزية هذه المشكلة المتعلقة بكيفية صنع النصف الثاني من قافية القصيدة. وذلك من خلال إنشاء زوج من الأسطر المقفاة، ليس في المنتصف، كما فعل الفرنسيون، إنما في النهاية. وهذا يحوّل القصيدة إلى بنية من ثلاثة مقاطع في كل منها أربعة أسطر، يتبعها سطران. استخدم شكسبير هذا النمط ليقدم تعليقًا أو خاتمة للدراما العاطفية التي كنا نقرأ عنها للتو. فبعد مقارنة محبوبته بيوم صيفي، لا لشيء إلا ليعكس أن هذا يخضعهما لإتلافات الزمن، يختتم بالقول إن كون المحبوبة تُمدح من قبله أفضل لها من كونها جميلة وحسب: الشعر، في نهاية المطاف، يدوم أكثر من الطقس الجميل. "طالما بقي في البشر نفس، أو في العيون نظر،/ ستعيش هذه القصيدة، وهذه القصيدة سوف تهبك الحياة". إنه زوج من الأسطر يمكن أن تستخلصه من البقية. يمكن أن تحفظه غيبًا وتحمله في رأسك، حتى لو نسيت بقية القصيدة. يعتقد شكسبير أن الشعر خالد، والسوناتة الإنكليزية المقفاة تتيح له أن يدافع عن قضيته تلك أثناء ربط كل شيء معًا. ما من شكل شعري آخر يمكنه فعل هذا.

السوناتات آليات؛ آلات تتحدى حالاتنا العاطفية وقدراتنا الإدراكية. لا يمكنك أن تقرأها بسرعة، فهي تُبطئنا. تدفعنا في هذا الاتجاه وذاك، مجبرة إيانا على إعادة النظر في تفكيرنا طوال الوقت. وشكل القصيدة المكون من أربعة عشر سطرًا والذي يبدو بسيطًا ظاهريًا يحتوي داخله دراما عاطفية كاملة فيها الوهم والخداع، المأزق والحل. أكوان تظهر وتندثر.

لكن، إذا كنا قد تمكنا من تفكيك السوناتة إلى أربع قطع؛ لمَ لا نذهب أبعد من ذلك، كما فعل الشاعر الأميركي تيد بيريغان في مجموعته "السوناتات" (1964)؟ جمع بيريغان نثرات من شعر أصلي، أسطرًا من أغاني إعلانات مقفاة، وشذرات من محادثات هاتفية، وألصقها معًا على نحو لا تعرف فيه إن كان عليك أن تبدأ القراءة من البداية، النهاية، أو المنتصف. في واحدة من سوناتات بيريغان، يمكنك أن تبدأ القراءة عند السطر 14 ومن ثم ربما تقفز إلى سطر 6، ثم إلى سطر 9، وهكذا.

في كولاج جو برينارد سهمهُ الأبيض
إنه ليس فيه، الطبيب الميت الجائع.
لمارلين مونرو، أسنانها البيضاء
أنا منزعج جدًا لأن مارلين
وأكلتُ فوشار كينغ كورن"، كتبَ في
المصنوعة من الزجاج في كولاج جو برينارد
دكتور، لكن الكلمات تقول: "أنا أحبك"
والسوناتة ليست ميتة.
يحوّل العينين عن الكلمات الرمادية،
يومياته. القلب الأسود قرب القطع الخمسة عشر
مونرو ماتت، لهذا ذهبت إلى عرض نهاري لفيلم من الدرجة الثانية
مغسولة بالأبيض بيدي جو المرتجفتين. "اليوم
ما فيه هو ست عشرة صورة ممزقة
لا يشير إلى ويليام كارلوس ويليامز.

في الواقع، السوناتة ليست ميتة. لكن، كيف تصنع هذه الأجزاء كلًّا؟ إن عبارة "لمارلين مونرو" في السطر الثالث تبدو آخر جزء من السطر 13 ("ما فيه هو ست عشرة صورة ممزقة"). علامات الاقتباس المغلقة بعد كلمة "فوشار" في السطر 5 تنفتح في الأسفل في السطر 12 الذي ينتهي بكلمة "اليوم". إن لهذه السوناتة بنية شكلية متكررة تنطوي على نفسها؛ ينبثق المعنى إذا قرأت سطر 1، ثم السطر 14؛ سطر 2 ثم سطر 13؛ سطر 3 ثم سطر 12، وهكذا.

إن ما فعله الشعراء السابقون مثل شكسبير بالقافية - طالبين منا أن نحتفظ بالصوت منذ بداية القصيدة في آذاننا لكي نسمع تردُّد صداه لاحقًا- يفعله بيريغان ببناء الجملة والقواعد. إنها طريقة جديدة للقراءة، إذ يمكن للقارئ أن يجمع ويعيد الجمع كما يشاء، مولّدًا صيغًا جديدة من القصة. تذهب الشاعرة المعاصرة جين بيرفن خطوة أبعد من خلال وضع "شبكة" أو مصفاة فوق نص سوناتات شكسبير، محولة إياها إلى سوناتات أخرى (نلاحظ أن كلمة "سوناتات/ sonnets" في الإنكليزية تحتوي كلمة "شبكات/ nets") من خلال حذف بضع عبارات وجعل أخرى تبرز. هكذا، تولّد بيرفن مجموعة جديدة من القصائد مبنية على شذرات من سوناتات شكسبير.

إن قراءة الشعر هي طريقة جيدة لإمضاء الوقت. وهي تنظّف الحنك العقلي وتزيل خيوط العنكبوت العاطفية. والسوناتات صحيّة على وجه الخصوص لأنها تتحدى أحكامنا ومقدرتنا الإدراكية، وتركلنا - من النصر إلى التراجيديا؛ من البؤس إلى الفكاهة- على امتداد أسطر قليلة. في عالم السوناتة، لن تجد السامي أو التراجيدي، أو الذرى البطيئة للقصيدة الغنائية أو المرثية. لكنك ستجد دراما مكثفة لحركات القلب وهو يتدحرج عبر الحياة.

عندما كنتُ أصغر عمرًا، قبل تولي مسؤوليات العائلة واجتماعات الهيئة التدريسية، كانت لدي ضروب تعبّد يومية في دين السوناتة. اشتريتُ دفتر ملاحظات كبيرًا مجلّدًا بصفحات بيضاء؛ النوع الذي يستخدمونه لرسم الاسكتشات. ورحت كل صباح، بينما أشرب قهوتي وأخطط ليومي، أنسخ سوناتة عن واحد من شعرائي المفضلين. كنت أدونها، كلمة كلمة، في وسط الصفحة، ثم أكتب تعليقًا عند الحواف. وكنت أرسم خطًا يصل بين الكلمات التي تبدو مرتبطة ببعضها، أضيف أقواسًا، نجومًا ودوائر، وأحاول أن أخربش أفكارًا مفيدة أو أسئلة. هكذا، أصبحت سوناتاتي اليومية نوعًا من التمرين، مثل الهرولة أو التأمل. لقد مكّنت عقلي من التركيز وتحدّت عواطفي. ولم أتمتع يومًا بالشعر أكثر مما تمتعت به بهذه الطريقة. إنني أنصح بها كتمرين يومي.

تيموثي هامبتون: أستاذ في الأدب المقارن واللغة الفرنسية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. من كتبه "تخييلات السفارة: الأدب والدبلوماسية في بدايات العصر الحديث في أوروبا" (2011)، "بوب ديلان: كيفية عمل الأغنيات" (2019) و"البهجة: تاريخ أدبي وثقافي" (2022).

رابط النص الأصلي:

https://aeon.co/essays/sonnets-are-machines-for-thinking-through-complex-emotions

 

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
22 أغسطس 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.