}

مشكلتنا الكبيرة ليست في المعلومات الخاطئة بل في التعالم

جونثان ماليسيك 29 أغسطس 2023
ترجمات مشكلتنا الكبيرة ليست في المعلومات الخاطئة بل في التعالم
(gettyimages)

ترجمة: سارة حبيب

يعرف الجميع أننا نعيش في عصر معلومات خاطئة. لكن الجميع مخطئون، وها هو السبب في أن تلك هي أكبر مشاكل عصرنا.

لقرابة عقد تقريبًا، عبّر باحثون وكتّاب عبر العالم عن حسرتهم إزاء التفشي المتزايد للمعلومات الخاطئة، المذهب المؤامراتي، الأيديولوجيا، انعدام الثقة بالخبراء، الفقاعات المعرفية (وهي بنى معرفية اجتماعية تهمَل فيها الأصوات الأخرى) وغرف الصدى (وهي بنى معرفية اجتماعية يُشكَّك فيها بالأصوات الأخرى وتحجب الثقة عنها). وكانت هذه الكوارث تزيد من صعوبة حلّ أي مشكلة متعلقة بالسياسة، المناخ، الثقافة، أو الصحة العامة، لأنها تثبّط البحث عن حقيقة معترف بها على نطاق واسع. نعرف إذًا أن ثمة خطأ ما في الطريقة التي نعرف بها.

لكن، تغفل تفسيراتُ أزمةِ المعرفة هذه حقيقةَ أن عناصرها المختلفة تنشأ من مصدر مشترك. فمشكلتنا لا تتعلق بالطريقة التي ننتج بها المعرفة فحسب، بل كذلك بموقفنا إزاء المعرفة، بالكيفية التي نقدم بها أنفسنا إلى الآخر بوصفنا عارفين. ووراء هذه الأزمة المعرفية تكمن أزمة سيكولوجيّة أكثر عمقًا: مشكلة التعالم (Knowingness). التعالم، كما يعرّفه الباحث في شؤون الفلسفة والمحلل النفسي جونثان لير في كتابه "منفتح العقل" (1998)، هو موقف "أعلم سلفًا" دائمًا؛ موقف زعمِ معرفةِ الإجابات حتى قبل أن يُطرَح السؤال. فعندما تتكشف حقائق جديدة، يبقى الشخص المتعالم رابط الجأش. قد تنصدمون بهذا، لكنه كان يعرفها مسبقًا.

التعالم مستفحل في ثقافة القرن الواحد والعشرين. إننا نراه عند المؤمن بنظرية المؤامرة الذي يرفض الأدلة المخالفة لنظريته بوصفها "راية زائفة" (أي عملًا يُرتَكب بنيّة التستّر على المصدر الحقيقي للمسؤولية وإلقاء اللوم على طرف ثانٍ). ونراه عند المدوّن الصوتي الذي يعتبر أن "الرأسمالية المتأخرة" تفسّر كل الويلات الاجتماعية. إن التعالم هو الأيديولوجيّ الذي يعرف أن لوسائل الإعلام تحيزًا ليبراليًا، أو تحيزًا لمالكي شركات وسائل الإعلام. إنه الوسطي السياسي قبل كل شيء، الواثق من أن الحقيقة توجد بالضرورة بين الحدين الأقصيين لـ"كلا الطرفين". والتعالم هو الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي زعم، مرارًا وتكرارًا، أن "الجميع يعلم" أشياء هي، في الحقيقة، غير معلومة، غير مثبتة، وغير صحيحة.

التعالم خطر بصورة خاصة عند أولئك الذين يقوم عملهم على إخبارنا. على سبيل المثال، البروفيسور المختال بنظريته التي لا تقبل الجدال، أو الطبيب الذي يدخل غرفة الفحص واثقًا من أن مشاكل المريض ناتجة عن الحالة التي يصادف أن الطبيب خبير بها. "تمامًا كما ظننت"، يقول أخصائي الأورام المتعالم للمريض الذي جاءت نتائج فحصه غامضة. "إنه سرطان الساركوما الليفية. إنه دائمًا سرطان الساركوما الليفية".

يمكن للتعالم أيضًا أن يأخذ شكل مسافة تهكمية أو تشاؤمية، شكل شخص يبدو كما لو أنه قد عاش كل شيء وتجاوزه. إنه موقف خبير الثقافة الرائجة الذي سمع سلفًا كل فرقة جديدة. وهو بالمثل موقف المتحدث في سفر الجامعة الإنجيلي الذي بالنسبة إليه "ليس تحت الشمس جديد".

في كل حالة من تلك الحالات، يرى جونثان لير أن "موقف 'أعلم سلفًا' يؤدي وظيفة تحصين: إذا كنتَ تعلم سلفًا، لا حاجة بك لأن تكتشف شيئًا". التعالم، إذًا، هو ادعاء زائف بالمعرفة يؤدي إلى استحالة تعلم أي شيء جديد. والتعالم هو السبب في أن الحروب الثقافية في الوقت الحاضر باتت مملة للغاية. لا أحد يحاول أن يكتشف أي شيء. فعلى الرغم من أنه ما من اتفاق مشترك حول الحقائق، يتصرف الجميع كما لو أن كل الوقائع محسومة سلفًا.

يمكن أن تكون نتائج التعالم كارثية، لأنه يبتر المزيد من التقصّي نحو معرفة المجهول. ومثال لير عن هذا الاتجاه هو أوديب، طاغية طيبة في مسرحية سوفوكليس المسماة على اسمه. إن مشاكل أوديب، كما يرى لير، ليست "أوديبية". فسقوطه التراجيدي ليس نتيجة شهوة لقتل والده وممارسة الجنس مع والدته. بالأحرى، عيبه القاتل هو أنه، طوال الوقت، يرفض قبول معلومات جديدة، لأنه يفترض دومًا أنه سلفًا يعرف ما يحتاج لمعرفته. "ما يغيب عنه تمامًا هو فكرة أن 'تعالمه' هو أساس متاعبه: ما لا يعرفه هو أنه لا يعرف"، يكتب لير.

تبدأ المسرحية بكاهن يخبر أوديب بأحوال المرض والمجاعة عند الطيباويين. فيجيب حاكمهم: "أخباركم، أيها الأطفال الجديون المساكين، ليست جديدة بالنسبة إليّ. أعرفها جيدًا". وبعد ذلك بوقت قصير، تقترح الجوقة أن العرّاف تايريسيس قد يساعد أوديب في معرفة الشخص الذي قتل الملك السابق وبالتالي جلب اللعنة على المدينة. "أنا أعلم"، يجيب أوديب مرة أخرى. ومن ثم يسأل الجوقة عن الإشاعات التي تعرفها حول موت الملك. "لقد قتله المتشردون"، تخبره الجوقة. فيقول أوديب: "سمعتُ ذلك، أيضًا".

عيب أوديب القاتل هو أنه، طوال الوقت، يرفض قبول معلومات جديدة، لأنه يفترض دومًا أنه سلفًا يعرف ما يحتاج لمعرفته


بسبب رفضه الغبي لأن يعلم، تستمر مشاكل أوديب في الازدياد. إنه واثق أنه لا يمكن أن يكون القاتل، ولذلك يغفل الأدلة الموجودة أمام ناظريه: النبوءة القديمة بأنه سوف يقتل والده، الندوب على قدميه وحتى اسمه ("قدم متورمة")؛ كلها تشير إلى أنه كان الطفل الذي قيده الزوجان الملكيان وتخليا عنه عند سفح التل قبل عقود. إن تفكير الطاغية هنا معيوب بشدة، بل ومريض. "يُستخدم المنطق للقفز إلى خلاصة"، يكتب لير، "كما لو أن الكثير من القلق يكتنف الاكتفاء بطرح سؤال وانتظار الإجابة عنه من العالم". أوديب، وفقًا لرأي لير، هو "أول فيلسوف صنعي" شبيه بصانع محتوى على يوتيوب؛ صانعٍ سريع الكلام ويبدو كما لو أن لديه كل الأجوبة.

تُظهر مسرحية سوفوكليس أن التعالم ليس شيئًا جديدًا. وأنه يمكن أن يصيب أي شخص تعتمد مكانته على الذكاء الظاهر. أوديب، في آخر الأمر، زعم أحقيته بالعرش لأنه حلّ الأحجية التي طرحها أبو الهول. والآن، في "عصر المعلومات"، نحن جميعًا في وضع مشابه. فنحن نحب أن نعتقد أن كلّ المعرفة البشرية في متناول أيدينا دائمًا، على جهاز في جيبنا. المعلومات قريبة جدًا منا لدرجة أننا بالكاد نضطر إلى البحث عنها. نحن أكفّاء لدرجة أننا نعرفها سلفًا.

لكن، في الحقيقة، يُظهر عصر المعلومات مدى قلة ما نعرفه سلفًا. التعالم، بالتالي، قد يكون طريقة للتحكم بسيل المعلومات. ربما يكون ثمة الكثير مما نعرفه، مما علينا معرفته ربما، لدرجة أن الأسهل غالبًا أن نتظاهر ببساطة بأننا نعرف. وإذا كان الجميع يتظاهرون مثلنا، لن يُقبض علينا قط متلبّسين بجهلنا. لكننا، بالطبع، سنكون عندها عالقين في العيش مع هذه الأكاذيب ونتائجها: من الوباء إلى الاضطراب السياسي؛ مواضيع التراجيديا ذاتها.

قد يكون التعالم مغريًا للغاية لأنه يقوم بدور اجتماعي. فوفقًا للكلاسيكي سايمون غولدهيل التعالم هو "غراءُ الخطابِ الاجتماعي". فكروا بكلماتنا الشائعة فيما يخص التعاطف: "أعلم، أعلم ما تقصده". إن الزعم بأننا سلفًا نعلم ماهية ألم شخص آخر هو محاولة لجعله يشعر بأننا نفهمه أكثر وبالتالي جعله أقل وحدة.

لكن الترابط الاجتماعي ليس الغاية القصوى للخطاب. فنحن نشتكي لأطبائنا ومشرّعينا لا لكي يتعاطفوا معنا وحسب، إنما على أمل أن يجدوا حلًّا لمشاكلنا. في الحياة العامة، يكون موقف "أعلم سلفًا" مفيدًا إذا كان الهدف هو تكوين جمهور، أو تعزيز تماسك الجماعة بين أولئك الذين هم "على دراية"، الذين "يفهمون الأمر". لكنه يسمّم التداول الصادق والبحثَ عن الحقيقة.

للتغلب على التعالم، نحتاج إلى موقف أكثر تواضعًا وأكثر فضولًا إزاء المعرفة. ولا يعني هذا أن علينا أن ندّعي الجهل، أو أن نعطّل كل معرفتنا عندما نُصدر حكمًا حول حالة جديدة. على سبيل المثال، لا تعتبر الحالة تعالمًا عندما يخبر طبيب مريضًا أنه: لا، في الحقيقة العلاج بالأعشاب لن يشفي إصابته بالسرطان.

لمحاربة التعالم، إذًا، علينا ألا نتجاهل معرفتنا التجريبية الراسخة أو توجهاتنا النظرية التي تساعدنا في فهم المعلومات الجديدة. بالأحرى، علينا أن ندرك حدود ما نعرفه ونكون فضوليين إزاء ما لا نعرفه. وعلينا، في أثناء تعلمنا المزيد حول مجال خبرتنا، ألا نقصي العيوب ببساطة، بل أن نلاحظ أنها قد تشير إلى حاجة لمراجعة وجهة النظر التي أفادتنا كثيرًا، أو حتى حاجة لإعادة صنعها. وعلينا، قبل كل شيء، أن نتخلى عن الاعتقاد بأننا، المتفردون بين جميع البشر، محقون دائمًا.

في مقالة له، يلمح لير إلى طريقة لتجاوز التعالم. لقد كان جمهوره الأصلي مؤتمر محللين نفسيين. وأولئك، في أسوأ حالاتهم، "يعلمون سلفًا" ما يحدث في عقول مرضاهم: عصاب وسواسي، فلنقم بالفحص. لكن، عندما يفترضون أنهم يعرفون مقدمًا، فإنهم يخونون ما هو عليه التحليل في جوهره. التحليل، بدلًا من كونه حشدًا للمعرفة، هو، كما يشرح لير:

... شكل خاص من النشاط العقلي، شكل خاص من التحدث والاستماع، شكل خاص من الحياة. إنه يتضمن، قبل كل شيء، شكلًا معينًا من الاستماع: استماع المرء لذاته، واستماعه للآخر.

في النتيجة، لا يبدو أن لير نفسه قد جلب للثقافة تشخيصًا لتعالمٍ موجود سلفًا في العقل. لقد استمع إلى الأعراض الثقافية وقدم اقتراحًا: هذا ما أعتقد أنه يحدث.

في انفتاحه على ما لدى الثقافة أن تقدمه، لا يعرض لير مزايا المحلل الجيد فحسب، بل كاتب المقالات الجيد أيضًا. إن سادة هذا النوع - ميشيل دي مونتين، رالف والدو إمرسون، جوان ديديون، زادي سميث- يكتبون بطرق استقصائية، تجريبية، تواقة لمعرفة المزيد. "أطرح أفكارًا معلقة وبلا شكل، لا لأبرهن الحقيقة بل لأسعى إليها"، كتب دي مونتين. إن كتّاب المقالات في هذا التقليد يبنون القناعات ببطء، ثم ينشرون رؤاهم ليُظهروا شيئًا جديدًا عن العالم. إنهم يسعون لاستمالة الجمهور؛ بالأدلة والمنطق السليم، بالتأكيد، إنما أيضًا بروح الدعابة والحساسية لما قد يريده القراء.

يتبنى كاتب المقالات موقفًا، أيضًا. لكنه موقف "لا أعلم بعد"؛ موقف الانفتاح على عجائب عالمنا الشاسع المشترك، وأهواله، ونفائسه.


جونثان ماليسيك
: حاصل على دكتوراه في الدراسات الدينية. يدرّس الكتابة في جامعة تكساس، دالاس. صحافي، باحث، وكاتب مقالات في مجلات ومواقع مثل الغارديان، نيويورك تايمز وغيرهما. مؤلف كتابيّ "الإيمان السري في الساحة العامة: دفاعًا عن إخفاء الهوية المسيحية" (2009)، "نهاية الإنهاك: لماذا يستنزفنا العمل وكيف نبني حياة أفضل" (2022).

 

رابط النص الأصلي:

https://psyche.co/ideas/our-big-problem-is-not-misinformation-its-knowingness

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.