كان فيلم "عقيدة/Tenet" من إنتاج 2020 آخر إطلالات نولان السينمائية. حصل عنه على جائزة أوسكار أفضل مؤثرات بصرية، في الدورة الـ93. بعد ذلك بأشهر، تصدر اسم نولان الصحف العالمية بخبرين: الأول انفصاله عن شركة "وارنر"، بعد تعاون يقارب العقدين، وهو ما وضع حدًا لبعض الشائعات عن جزء ثان من فيلمه الشهير "بين النجوم"، أما الخبر الآخر فهو تعاقده مع شركة "يونيفرسال" لإنتاج مشروعه الجديد بتكلفة خرافية كالعادة، وتدور أحداث الفيلم حول الفيزيائي روبرت أوبنهايمر، وتجربته المروعة في اختراع القنبلة الذرية.
"يرجى التحلّي بالصبر"
منذ الأزمة العالمية التي أحدثها كوفيد 19 وحتى الآن، حرصت "نقابة الممثلين SAG-AFTRA" في هوليوود على تقديم مجموعة من المساعدات والإعانات المالية للفنانين المتضررين من خلال "صندوق للطوارئ"، وكان في إمكان أي فنان الدخول على موقع النقابة وتسجيل حالته، ثم انتظار الرد وما يتبعه من إجراءات. لم يكن الأمر يستغرق وقتا طويلا... مؤخرا أطلقت النقابة شعارا جديدا عبر موقعها "يرجى التحلّي بالصبر"، فعدد طلبات المساعدة المقدمة قد تجاوز المائة يوميًّا، لذلك... "نطلب من الأعضاء القادرين على تغطية تكاليفهم قصيرة الأجل الانتظار في التقديم".
يحدث ذلك في هوليوود على مدار الثلاثة شهور الماضية، وبتصاعد درامي متسارع لا يقل سخونة وإثارة عن إرثها من الأفلام. بدأ الموضوع في مقتبل مايو/ أيار الماضي، حين قامت أعداد كبيرة من كتاب السيناريو بالاعتصام أمام مقرات كبرى الأستوديوهات، مثل نيتفليكس، ووارنر، وبرامونت، احتجاجًا على تعسف منصات البث الرقمي في الأجور، ومطالبين بتقسيم أكثر عدلًا للأرباح، مع مراعاة ظروف وبيئة العمل. قبل ذلك بقليل، تشكلت لجنة من النقابة والفنانين للتفاوض مع الأستوديوهات ومنصات البث، وفي النهاية أعلنوا "لسنا واثقين من أن هناك نية للوصول إلى اتفاق".
خلال السنوات القليلة الماضية، شهدت المنصات الرقمية تطورًا سريعًا، وانتشارًا جماهيريًا ـ قد يكون غير مسبوق ـ جعلها في صدارة التنافس مع سوق العرض العالمية، والمتابع لرحلة ازدهار هذه المنصات يجد أن منهجية التجريب كانت هي السمة الغالبة، ومن هنا تعددت المواضيع والأفكار والأعمال بتعدد الإنتاجات. أشهر الموضات حاليًّا في المنصات هي المسلسلات القصيرة حيث التكلفة الإنتاجية أقل في المقام الأول، والأهم في الأمر أن معظم هذه المسلسلات تقوم على ورش كتابة، وهو ما يضمن لشركات الإنتاج مزايا عدة من أهمها مواعيد محددة لاستلام الورق المكتوب، الانتهاء من أكثر عدد من المشاهد، أو الحلقات، في أقل وقت ممكن.
في تقرير سابق، أشارت نقابة الكتاب الأميركيين/ WGA إلى الانخفاض الكبير في متوسط أجور الكتاب، رغم ارتفاع ميزانيات المسلسلات خلال العقد الماضي. لذلك جاءت المطالبة بالمساواة في الأجور على رأس القائمة الأولى لكتاب السيناريو. ومع اتساع الاحتجاجات، أضيفت إلى مطالبهم تخوفات حول الذكاء الاصطناعي الذي ظهر على الساحة أخيرًا مثيرًا ضجة عالمية من الواضح أن نيرانها لن تخمد قريبًا، وهو ما أثار مخاوف الممثلين أيضًا من مقدرة أستوديوهات هوليوود على استبدالهم آليًا، وبالتالي الاستغناء عن خدماتهم التمثيلية باهظة التكاليف.
يرفع أعضاء النقابتين الآن شعارات وهتافات: "لا عقود. لا ممثلين. لا رواتب. لا سيناريوهات"، ما نتج عنه توقف ـ شبه كامل ـ لعجلة الإنتاج على مستوى كافة القطاعات السينمائية والتليفزيونية، حيث امتنع كتاب السيناريو عن تسليم بقية حلقات المسلسلات وحتى الحلقات الموجودة لم تجد من يقوم بتصويرها، أو إخراجها، أو حتى تمثيلها. صورة ربما لم تخطر في البال من قبل لاستوديوهات هوليوود، وهي خاوية على عروشها، ما يكبد الصناعة الآن خسائر فادحة في سبيلها إلى التفاقم إذا لم يتم الاتفاق على حلول، الأمر الذي دفع منصتي نيتفليكس، وديزني، على سبيل المثال، إلى ترك التنافس جانبًا، والاجتماع لبحث سبل احتواء هذا الإضراب تفاديًا للشلل التام.
يقال عن هذا الاعتصام إنه الأكبر في تاريخ هوليوود منذ ما يقرب من 40 أو 60 عامًا، إنه إضراب مزدوج بين أعضاء نقابتي "الكتاب والممثلين" في أميركا، يزداد داعموه من نجوم ومشاهير العالم يومًا بعد يوم، وصفته رئيسة نقابة الممثلين فران دريشر باللحظة التاريخية، محذرة الممثلين من التخلي عن هذه الوقفة "وإلا سيتم استبدالكم بآلات!".
"ليس إنسانًا تمامًا"
إنه عنوان لفيلم أميركي قديم يلجأ فيه طبيب إلى صنع روبوت يماثل البشر في هيئتهم كي يصاحب ابنته في المدرسة، إلا أن الروبوت يندمج لدرجة غير متوقعة فيما يخص الجانب البشري، مؤكدًا طوال أحداث الفيلم على أهليته مثله مثل أي بشري عادي. بيد أن الفيلم ينتصر للبشر في النهاية؛ فبطلنا الآلي ـ رغم تعاطفنا المستمر معه ـ لم يكن إنسانًا بما فيه الكفاية.
هنالك كثير مما يجري حولنا الآن كان في الأمس محض خيال، وهو ما برعت السينما في استشرافه من خلال أفلام الخيال العلمي، نعرض هذه الأشياء طوال الوقت بتفاخر بقدرة الإنسان على تجسيد أحلامه على أرض الواقع. هيمنة الروبوتات، أو تحكم العقول الرقمية في البشر، كثيرًا ما داعبت أخيلة المؤلفين والمخرجين، إلا أنها الخيال الوحيد الذي لا يُراد تحقيقه، فمع بروز تلك المخلوقات التي أحببناها في عالم الخيال، ارتعب كثيرون، وانطلقت نواقيس الخطر من فكرة تطورها تطورًا ذاتيًا، واستقلاليتها التامة عن صانعيها. وبات السؤال الأكثر إلحاحًا كيف يمكن حماية البشر من تغول الوحش الاصطناعي؟!
لقد أصبح الذكاء الاصطناعي وحشًا تم إطلاقه من دون وعي بقدراته المحتملة، وهو يمثل خطورة ربما تفوق خطورة الأجور المتدنية، أو تحسين بيئة العمل، فلو تحققت الهيمنة للروبوتات في الفترات القادمة لن توجد أجور من الأساس، وبالتالي ستنحصر بيئة العمل في مجموعة من العقول الرقمية لا تحتاج لكل الإرهاق والتكلفة التي يحتاجها العنصر البشري.
على خلفية ذلك، ارتفعت أصوات عدد من النجوم العالميين دعمًا لهذا الإضراب الواسع، من بينهم ميريل ستريب، كولن فالين، بين ستيلر، جينيفر لورانس، وكيت بلانشيت، التي أعلنت مؤخرًا عدم مشاركتها في مهرجان "لوكارنو" بدورته الحالية التي انطلقت منذ أيام في الثاني من الشهر الجاري؛ وهو ما يجعل أثر الحركة لا يقف عند حد المواقف الفردية وفقط، بل يمتد إلى المهرجانات أيضًا، فقبل ذلك أعلن مهرجان فينيسيا الدولي عن سحب فيلم الافتتاح الإيطالي لدورته القادمة "المتحدون" للمخرج لوكا جواداجنينو، واستبداله بفيلم آخر بعنوان "القائد"، تضامنًا مع الإضرابات. وفي سياق متصل، تداولت وسائل إعلام أخبارًا عن مشاركة الممثل براد بيت في هذا التضامن بإيقاف تصوير فيلمه الجديد.
من جانبه، سخر الممثل الكوميدي كريس ستيفنز أيضًا عبر تغريدة من شركة يونيفرسال التي قامت بتقليم الأشجار أمام مقرها، متهمًا إياها بفعل ذلك عمدًا في ظل الارتفاع غير المسبوق لدرجات الحرارة، وقد كان المحتجون يستظلون أسفل الأوراق الرطبة لهذه الأشجار، أملًا في الاتقاء من لهيب هوليوود المستعر.