}

الفينيقيون أبحروا من هذه الشواطئ

هِدي هبرا 10 سبتمبر 2023
ترجمات الفينيقيون أبحروا من هذه الشواطئ
هِدي هبرا شاعرة أميركية من أصل لبناني
ترجمة وتقديم: أسامة إسبر
تقديم

تزور الشاعرة هِدي هبرا شعريًا أمكنة الطفولة التي غادرتهْا إلى أرض أخرى بعيدة، غير أنها لا تبقى أسيرة الحنين، ولا تعبّر عن قلق اقتلاع، أو تستسلم لنسيم إيقاع حزين، ذلك أنها تكتشف هذه الأمكنة شعريًا وتوقظ الغافي واللامرئي فيها، من هذه الأمكنة تنطلق وإليها تعود، ثم تغادرها كي تغوص في جغرافيا أكثر اتساعًا، حيث تعيش في ولاية ميشيغان في الولايات المتحدة الأميركية. تسافر قصيدتها بين عالمين، ويصدر شرر الاستعارات الشعرية في قصائدها من قَدْح حجريْ هاتين الثقافتين ببعضهما بعضًا، كي تقول لنا إن القصيدة لديها نتاج هذا التلاقح العميق بين ثقافتين تنتميان جغرافيًا إلى لغتين مختلفتين، ومشاهد طبيعية مختلفة، وأحداث مختلفة، وثقافة مختلفة، إلا أن الشعر، لأنه كوني بطبيعته، يتجاوز الحدود الثقافية، ويروق للقارىء الكوني، وهذا هو الشعر الحق، فهو الذي حين تقرأه يخاطبك حتى ولو كان مكتوبًا بلغة أخرى غير لغتك، أو مترجمًا. ألم نقرأ بشغفٍ بابلو نيرودا، ولوركا، وأوكتافيو باث، وإليوت، وسان جون بيرس، وتشارلز بوكوفسكي، وماري أوليفر، والشعراء الهنود الحمر، والشعراء الأميركيين المنحدرين من أصل أفريقي، ألم ننحن لوولت ويتمان، ويانيس ريتسوس، وديريك والكوت، وما نزال ننحني لشعراء تهب نسائمهم علينا من نوافذ الترجمة، ويتوهجون في اللغة العربية، رغم أنهم كتبوا في لغات أخرى؟ فمن صفات الشعر الحقيقي هو أن يكون متخطيًا لحدوده اللغوية والثقافية، وأن يخاطب الإنسان الكوني، خاصة وأننا نعيش في عصر العولمة، وعصر انهيار الحدود، ورغم أن الثقافة السائدة ذات طبيعة استهلاكية، وتميل نحو إلغاء التفرد والاختلاف، والتعويل على كائنات استهلاكية متشابهة تُطْبخ لها الوجبات الثقافية الجاهزة، وتُوزَّع عبر الزوابع الرقمية التي تعبر أمام وجوهها على الشاشة، إلا أن الشعر، هذا المتمرد الأبدي، يقاوم التدجين والتحوّل إلى وصفة جاهزة، ويقودنا خارج هذا التسطيح، لأنه تمرد على التشابه والانسجام، وغوصٌ في طبقات الواقع المجهولة.
في ضوء ما ذكرناه، يمكن القول إن هِدي هبرا تعود إلينا عبر خط الاختلاف الشعري، والذي منحها خصوصية وحضورًا في الشعر الأميركي بين أبناء جيلها.
هِدي هبرا شاعرة أميركية من أصل لبناني، ولدت ونشأت في مصر. حصلت على شهادة الدكتوراة في الآداب الإسبانية من جامعة ويسترن ميشيغان، وتعمل فيها الآن أستاذة للآداب الإسبانية.
صدرت لها ثلاث مجموعات شعرية، إحداها "طعم الأرض" الصادرة عن دار نشر 53، والحاصلة على جائزة سيلفر نوتيلوس للكتاب، و"تحت ضربات الريشة" الصادرة عن الدار نفسها في 2015، وهي مُلْهمة من الفن التشكيلي. مجموعتها الشعرية الأولى صدرت في 2013 عن دار 53 بعنوان "شاي في مصر الجديدة"، وفازت بجائزة أفضل ديوان شعر أميركي في 2014. وصدرت لها أيضًا مجموعة قصصية بعنوان "بُسُط الريح" (إنترلينك 2013)، كما صدر لها كتاب في النقد الأدبي. كما ستصدر مجموعتها الشعرية الرابعة قريبًا بعنوان "أو هل سبق أن رأيت الجانب الآخر؟"... رُشحت هبرا مرات عدة لجائزة بوشكارت، وهي فنانة تشكيلية أيضًا، وتتقن لغات عدة، بينها الفرنسية والإسبانية والإيطالية، بالإضافة إلى العربية والإنكليزية.



النصوص المترجمة هنا تم اختيارها من كتب عدة للشاعرة.


الفينيقيون أبحروا مرة من هذه الشواطئ

بأكتاف محنيّة
يبحر الصيادون كلّ يوم
حاملين الطعوم،
ومصابيح الزيت، وأرغفة الخبز.
يقودهم صبرهم التوراتيّ
إلى ما هو أبعد.
بعضلاتهم المشدودة، وجباههم المتغضنة،
ينتظرون المعجزة الدنيوية،
فيما شباكهم مصلية.
يلبسون زيًّا كالذي كان يرتديه الأسلاف
يرفرف كشال راقصةٍ
يطوّق مياه المتوسط الكثيفة والعقيمة،
غارفًا الأشنات والرواسب والأسماك النافقة
وتموجات هاربة.
في ما بعد.
كل مرة
عند الفجر أو الغسق
فيما أجفانهم شبه مُطبِقة
يُثْقل الغيابُ
شباكهم المفرودة.


منزلٌ حجريٌّ مهجورٌ في دمشق

لا تسألوني مع أي طرف أصطفُّ
لا تسألوني عن العاقبة.
قالوا: إن المطر لن يغسل دمًا يتعذّر محوه صَبَغَ الشارع.
في أذنيَّ المتألمتين يطنُّ أنينُ الأطفال وصرخاتهم، يملأ الصوتُ شقوقَ قلبي وزواياه. هل سيفتح أحدٌ ما الأبواب والنوافذ على مصاريعها، ويُدخل الريح كي تمحو السحب الخانقة للبارود؟
وجوهٌ ملطخةٌ بالوحل والتعرق تبدو كلها متشابهة، تروح وتغدو على هواها، خطواتها ترنّ في صدغيّ كما لو فوق طبول مهترئة. جدراني تتوق إلى الرائحة اليومية
للأعشاب العطرية المشذبة حديثًا،
لدفء الموقد، والمشهد المألوف للإناء الحديدي المعلق
فوق الجمار المتوهجة،
ذات مرة، كانت اليخنة تتخمّر بالبهارات، وتغنّي مصدرة صوت غليانها، فيما الأطفال يلعبون في ظلال أشجار الزيتون، وكان بوسعي أن أسمع أمهاتهم يُهَمْهمْنَ وهنّ ينقّين العدس.


تضاريس

يُخيَّل لي أحيانًا أن وجهي خريطة،
كل خط فيها سجلٌّ واه لندوب خفية،
مما رأيتهُ أو شعرتُ به. جلدي يحتفظ
بآثارٍ من كلّ نسيم هارب، من ندفات الثلج
المتطايرة، يتذكر دفء شمس الظهيرة، وقطرات الأسى المالحة
المختلطة بقطرات المطر
وحتى أدنى ارتجافة
وموسيقى الضوء الذي يذوب على خديّ.
يتبقى أثرٌ من وجوهٍ
أطالت التحديق في وجهي
محاولة أن تحبس كلماتها،
أو خططت ملامحي بأصابع
مثقلة بالكلمات.
وكثيرًا ما أرى ذلك الوجه الآخر خلف الوجه الذي ينظر إليّ
في المرآة،
منتفخًا بالذكريات
كاشفًا كل حواسي.


كيف تتحدث البركة المعكوسة فجأة

من نافذةِ غُرفة نومي
راقبتُ المطر وهو يبذرُ أعينًا
فوق سطح البركة.
غرقتْ جميع القطرات
امتصّتْها ثنايا مجنونة
جرتْ في دوامة داخل قُمْع
إلى قاعها العكر.
تساقطت أعين النجوم وتلألأت
غمازات على الجلد الداكن.
كويكباتها المتغيرة
أعادت اختراع أبجدية لي
كي أفك شفرتها.


حلمٌ رُفع عنه الغطاء

زرعتُ بصيلاتٍ في المنزل مرتابةً من أنها لن تنمو أبدًا
غير أن أزهار النرجس الصغيرة بزغتْ الآن من إبريق التيراكوتا.
وارتفعتْ في مزهريةٍ كريستالية طويلة سويقات خضراء،
ألسنة لهب ثابتة استحالت إلى عطر أبيض.
وبينما كنتُ أواجه فراغ الصفحة البيضاء، الصحراء التي يجب أن نعبرها،
كما يقول باشلار، رأيتُ طريقًا منعزلًا، باردًا كالبلورات النفيذة
على المصطبة خارج نافذتي. تخيلتُ الكلمات هاجعة،
تنتظر الفرصة المناسبة كي تطلع.
في الخريف الماضي، وبينما كنت أحفر عميقًا كي أزرع الزنابق والنرجس
عثرتُ على ضفدع أعرج، بعينين شبه مغمضتين، كأنه ثمل قليلًا.
اندفعت كي أدفنه ثانية، بكل ما أوتيت من قوة، آملة
أن يعاود الدخول إلى حلمه المُقاطَع،
لكنني لم أعد أرى التراب بالعين نفسها،
صارت الأعشاب واللحاء ويداي غريبين عني،
حقلًا يستدعي الاستكشاف.


الصقلاب

لا تنتشرُ الرائحةُ
العميقةُ والعذبة لنبات الصقلّاب
إلا بعد أن يغسق الليل،
كاضطراب في
هواء المساء المتموج. صولجاناتٌ
تحفُّ بالطريق في صفوفٍ ثلاثية
تتوّجها أزهارٌ صغيرة قرنفلية كالنجوم
تصلُ بينها أشعة لامرئية.
شددتُ ساقًا غليظةً، كما اعتاد الأسلاف أن يفعلوا
وحرّرتُ خيوطًا كالشَّعَر
من التراب المبلّل بماء المطر
ودفنتها في طين الجدول
فركتُ أصابعي الملتصقة، وتساءلتُ:
أية قوى تكمنُ
في هذا النزف الأبيض
للأوراق المتكسرة،
في ندوب العروق الأرجوانية،
في تلك العلاجات التي اختفت
مع الكهّان القدماء
قبل أن تُسمّى هذه الأرض ميشيغان.
تذكرتُ لبنان، وأشجارَ تينٍ خضراويّ
كنا نزرعها في جبال بعبدات،
تذكرتُ ثمار تينٍ كنا نقطفها،
وأطفالًا يتسلقون أسيجةً محظورة،
وعند جذع كل شجرةٍ تين دمعة بيضاء
تغطّي الندبة الدائرية،
دمعة تتقطر من خلايا لا مرئية
تغلّف جلودنا
بقفازات شفافة.
سمعتُ صوت أمي، يردّد صدى
حكمةٍ قديمة،
شعائر التطهير:
"لا تفركي عينيك أبدًا قبل أن تغسلي وإلا ستُصَابين بالعمى!"
هل ستُشفي بذور الصقلاب الأعين التي لا تُبصر، تلك التي لا ترى
الأزهار النجمية تقدّم آخر بذورها الحريرية المجنحة؟
سربُ نحلٍ يحلبُ كراتٍ يتعذر لمسها،
استنشقْتُ شذى يسبّب الدوار، وولجتُ
في ظلمة اشتدتْ. توهّجَ ضوءٌ كاشفًا حبّات توت مخبأة،
بياض أقحوانةٍ، جَزْرة برية
قفزت الحباحب من العدم
أشدّ اخضرارًا في زقاق خلفي معتمٍ.
بين ثلاثة جذوع سوداء تصاعدت ذراتُ لهبٍ
في الساعة الفاصلة الباردة،
تشكلت رؤية داخل رؤية
في دخيلتي،
على حافة الليل
رقصة برية
لأغمدة حامية
في كل مكان حول الأعشاب والزهرة البرية.
انتبهت فحسب إلى تلك اللغة
الغامضة والمتنافرة
التي تصاعدت من طيات
اللحاء، وأوراق الأعشاب المتجعدة،
إلى قطرات ندى علقت على الأشنة والدبال
تحت أوراق بلوط منبسطة ومسودّة.


أو ماذا إذا خُيِّلَ لها أنه أَحَبَّها تلك المرة؟

ماذا لو انزلقتْ في حلمٍ داخل حلمٍ،
في بركة داكنةٍ عبرتْ مرآةَ
متعتها
واستكشفتْ نفسها من الداخل
ثم غاصتْ عاريةً في قاعها
مع جسدٍ لم تقْو على نسيانه؟
ماذا لو تَخيّلتْ الأمر كله في تلك المرة الوحيدة؟
مشابك عالقة في شبكاتٍ من الحرير نسجتْها شفاههما،
لمسةٌ فصلت الدقائق
حين انزلق بين فخذيها
طبيعيًا كمصافحة؟
وهما يستعدان كي يلقيا بنفسيهما في شلالٍ،
تمسّكا ببعضهما بعضًا بحثًا عن مركز.
ماذا لو صار كلٌّ منهما جزءًا من كلٍّ،
قالتْ: لقد لامستَ روحي،
وعنتْ ذلك رغم أنها لا تعرف
ما هي الروح. أحسّت فحسب
برأس لسان لهب أزرق لامرئي
يشتعل في عمودها الفقري كله فيما كانت بشرته
تنكشف تحت رؤوس أصابعها؟
ماذا لو عثرتْ على مفتاح بابٍ
يفتحُ السدود في حلمها داخل حلمٍ؟
ثمة من يقول: ما من شيء حقيقي
من دون كلمات تمنحه شكلًا
ورغم ذلك لم ينبس ببنت شفةٍ
ولم تفعل هي، بما أنه كان ما كان.


نرجيلة

كان العجوز
مشغولًا في فنائه الخلفي،
يفكّر بالمقاهي
بلعبة الطاولة والنرد الذي
يُرْمى فوق خشبٍ مُرصَّعٍ.
رؤوسُ أصابعه مطوية
في راحة كفٍّ فارغةٍ، يدهُ
تعاود الإمساك بشيء غير موجود،
يسحبُ الدخان من خرطومه
نافخًا الروح في جمار تتشقق
مصغيًا إلى الصوت المتهدج العميق
لفيروز، وصباح، وأم كلثوم.
يربّي طيور الكناري
في كوخ، يُطعمها بيضًا ومحارًا وقطعَ تفاحٍ.
كل فجر يعلّقُ
الأقفاص على عريشةٍ
تطلُّ على أرجوحة
يسقي خضرواته،
بذوره الثمينة
التي جاءت بالطائرة من أمكنة بعيدة،
الخيار الملتف
الكرمة الممتازة التي أحضرها من لبنان
وأوراقها الحريرية
المناسبة للحشي.
وهو يدوّر بأصابعه حبات الصبر الكروية
المصنوعة من المرجان
يجلسُ لساعاتٍ
في رواقٍ مسقوف
شفتاه تطبقان على فتحة
الخرطوم المدهون.
يحمد الله
أن أحفاده سيعيشون أحرارًا في العالم الجديد.
هل يهمّ إن غاصت روحه
في دورقٍ قزحيّ الألوان، وتطايرت في دوامات الدخان؟
تختلطُ الأصوات الشرقية
بتغريد الطيور، صباح، أم كلثوم
وفيروز.
بحذرٍ يُذْكي الجمار
بملقطٍ، يراقب النقوش،
دوامات تبزغ
من تحت الماء، مسجونة
في زجاج منفوخ
تنفجر عند السطح
الكلمات المصمتة
لبحارٍ فينيقيٍّ غريق،
الكلمات الأخيرة لأولئك الذين يموتون
من دون أن يعرفوا السبب.


التحليق في دوائر

كما لو أنني مقيدةٌ إلى عمودٍ، تداهمني
أحلامٌ متكررة تتلاشى
حالما أفتحُ عينيّ.
ضعتُ وسط مكان بلا ملامح
على بعد أبنية عدة من فندقي
ولم أتمكن من العثور على طريق العودة
ظللتُ أسلك المنعطف الخطأ
تطوقني مشاهد طبيعية تتبدل
داخل ستارة سيكلورامية.
لافتات مضاءة لمحلات مألوفة
تفسح مجالًا لطرق موحلة
تقود إلى مسارات سكة حديد قرب
معابد نُحتت عليها أشكالٌ إيروسية
مثل المنحوتات الغائرة التي تزين واجهة قصر البارون إمبان،
المعبد الهندوسي للأرستقراطي البلجيكي الغرائبي
الذي يتوضع على بعد أربعة أبنية من مبناي فيما النظرات الثاقبة
للآلهة الأسطورية تتبعني عبر شوارع صغيرة
تتشعب إلى أزقة مهجورة حيث الصور الظلية
المنحنية تكتسح المشهد بأغصان مربوطة كالرجال الآليين.
البائعون الجوالون يعرضون تشكيلةَ حليٍّ في ترتيب مؤقت
إلى جانب أكشاك طعام سريع مدهن تغزل رموزًا حلمية مألوفة
تمنح مجالًا لظلال تمتطي ممرات وقضبانًا
تقدم عروض ظلال على خشبة مسرح تختفي
وتعاود الظهور بسرعةٍ تتزايد باستمرار تؤرجحني
في مكان منفصل حيث لا يمكن أن ترى
آثار أشجار ومنازل بينما في مصهر ذهني
تحترق الكلمات مثل ورق جوس
تتبعها أرقام ترتفع في ألسنة لهب
حين أحاول أن أربط فيما بينها كي أعثر على اتجاهاتي
أو أبحث عن هاتف عمومي كي أتصل
لطلب المساعدة في حال عثرتُ عليه.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.