}

عشرة أعوام في سجن أورويل: سيرة سيدة غير مرئية

سناء عبد العزيز 15 سبتمبر 2023
تغطيات عشرة أعوام في سجن أورويل: سيرة سيدة غير مرئية
آنا فندر وغلاف كتابها (Getty)
قد يلجأ المرء في بعض الأحيان إلى عالم مصنوع من الكلمات حين يرهقه الواقع، وقد يقوم هو بتشييد هذا العالم ليتخفف من بؤسه، أو يطرد أشباحه، أما أن يفعل الأمرين معًا، فهذا يحتاج إلى سرد قصة كتاب "الزوجة: حياة السيدة أورويل غير المرئية" الصادر حديثًا عن دار كنوبف للكاتبة الأسترالية آنا فندر.
في صيف عام 2017، وصل الأمر بفندر حد الاختناق، بسبب غياب العدالة في توزيع الأدوار التي قيض للمرأة أن تؤديها طواعية تحت سقف الزوجية. لقد فطنت كغيرها من النساء إلى فداحة ما تكبدنه في مقابل لامبالاة الرجال التي تعلن عن نفسها من دون مواربة على طول الرحلة الصعبة. وفي محاولة لالتقاط الأنفاس، فكرت أن تلتمس بعض الراحة من الكدح المنزلي عند كاتبها المفضل جورج أورويل، لربما ألهمتها كلماته المناهضة للاستبداد وكافة أشكال الظلم الاجتماعي، أي وسيلة للخلاص. وبينما هي في خلوتها لا يتناهى إلى سمعها إلا صوت تقليب الصفحات، إذا بشبح امرأة يعافر للخروج من بين السطور.
فندر المحبطة أعلاه هي امرأة متحققة بالفعل على المستويات كافة، حصلت على درجة الماجستير من جامعة ملبورن، والدكتوراة من جامعة التكنولوجيا في سيدني، في الفنون الإبداعية. وقبل أن تتخذ قرارها بالتفرغ للكتابة في أواخر التسعينيات، كانت تعمل محامية دولية في مجال حقوق الإنسان والقانون الدستوري ومفاوضات المعاهدات. نشر كتابها الأول "ستاسيلاند/ Stasiland" في عشرين دولة، وترجم إلى سبع عشرة لغة، كما أدرج في قوائم القراءة بالمدارس والجامعات حول العالم، وفاز بعدد من الجوائز، منها جائزة صموئيل جونسون عام 2004. روايتها "كل ما أنا عليه/ All That I Am" ترشحت في القائمة المختصرة لجائزة إمباك دبلن، وجائزة كتاب الكومنولث عام 2012، وظلت لأكثر من عام ونصف عام في قائمة الكتب الأكثر مبيعًا، وهي الرواية المفضلة قبل النوم لقراء المملكة المتحدة. في عام 2015، صدرت روايتها القصيرة "الفتاة مع الكلاب/ The Girl with the Dogs"، التي تحكي قصة بارعة عن لحظات الاختيار السريعة، وكيف تمتد عواقبها على مدار الحياة، كما هي الحال بالنسبة لقرار الزواج وتبعاته في كتابها "الزوجة"، الذي يرسم صورة قاتمة عن العمل المجهول للنساء في كل زمان ومكان من خلال واحدة من أهم الزيجات الأدبية في القرن العشرين.

في أثر شبح
ثلاثة خيوط تجمعت معًا أمام عيني فندر الذاهلتين، ومنها تشكلت صورة مرتعشة لزوجة أورويل؛ إيلين أوشوغنيسي، الفتاة الذكية الطموحة التي تلقت تعليمها في أكسفورد، وحصلت على درجة الماجستير في الأدب، وبدا الطريق أمامها واعدًا، سيما وأنها تنحدر من أصول طيبة، غير أن القدر كان له رأي آخر.



ذات مساء، دعتها إحدى صديقاتها في الجامعة إلى حضور حفل في شقتها، وهناك التقت بشاب طويل القامة وهزيل حد القسوة، سرعان ما فتنت به، لدرجة أنه عندما عرض عليها الزواج في لقائهما التالي، وافقت على الفور. وهناك في ريف هيرتفوردشاير عاشت معه في كوخ بدائي من دون تدفئة، وحنفية باردة واحدة، ووافقت على شروطه المجحفة. لقد أدركت إيلين في الأيام الأولى مدى اعتداد أورويل بعمله، وفق رسائلها إلى صديقتها نورا سايمز المكتشفة حديثًا. كتبت تقول: "لقد قرر إيريك (الاسم الحقيقي لأورويل) ألا يسمح بمقاطعة عمله، واشتكى بحرقة بعد أول أسبوع من زواجنا من أنه لم يعمل بجدية إلا يومين من أصل سبعة".
ترسم فندر صورة محزنة لإيلين وحدها في المنزل تعمل كخط إنتاج كامل غير مدفوع الأجر لصالح أورويل، فهي من تتولى جميع الواجبات، من ترتيب وإصلاح، وهي من تدير المتجر الذي استثمره أورويل في الجزء الأمامي من المنزل ليتكفل بمصاريف البيت. وكان من ضمن مسؤولياتها زراعة الأرض المحيطة بالكوخ، وتربية الدواجن وحيوانات المزرعة، التي كانت جزءًا من خطته لعيش الكفاف. والأكثر إثارة للجدل، كان على إيلين أن تراجع أعمال أورويل، وتتولى تحريرها وكتابتها أحيانًا بخط اليد، وكذلك الرد على رسائله، وتمريضه، وحتى كتابة يومياته حين يعجز هو عن تدوينها. في المقابل، ماذا كان يفعل أورويل؟ ومن أين أتى الإذعان لتلك القسمة الجائرة؟
في رسالة إلى نورا، تحكي إيلين: "لقد افتقدت عادة المراسلات الدقيقة خلال الأسابيع القليلة الأولى من الزواج. لأننا كنا نتشاجر بشكل مستمر ومرير حقًا، لدرجة أنني فكرت أن أوفر الوقت لأكتب رسالة واحدة للجميع حين تحدث جريمة القتل، أو الانفصال".

صاحب التفكير المزدوج
غالبًا ما تفسر عبودية المرأة على أنها مزية مكتسبة للرجل كونه الأقوى في المعادلة، لكن استقراء الواقع يوجه المقارنة ناحية "الأكثر عنفًا"، وتكفي نظرة واحدة على شجارات الرجال بالركلات واللكمات والأدوات الحادة للتدليل على ذلك، فإذا ما أضيف إليه طبيعة أورويل البربرية التي تربت على أخص نوع من العنف منذ انضمامه إلى الشرطة الإمبراطورية في ميانمار، لربما تفهمنا جزءًا لا بأس به من إذعان إيلين غير المبرر. لقد تعود أورويل على آلية الهجوم والاشتباك، وكان لعماله وخدمه نصيب من ضربات هرواته، كما أن سبيله إلى ممارسة الحب تمثل في الانقضاض على فريسته، سواء كانت سكرتيرته، أو إحدى العاهرات الذي كان يصطادهن في بورما بالأموال التي كسبتها إيلين بالكاد. كما لا تخلو سيرته الذاتية من حادث تحرش، أو محاولة لممارسة الجنس عنوة، ومع كل هذا نتفاجأ بصراع فندر الرهيب كمن يسير على حبل مشدود، بين الانتصار لإيلين وعدم تشويه سمعة كاتبها المفضل حتى بعد أن اكتشفت أنه نموذج صارخ للنظام الأبوي، وحتى مع علمنا بأنها لجأت إليه في الأساس هربًا من ذكورة مشابهة لتصطدم بامرأة تشبهها من نواح كثيرة. وإن كانت لا تستطيع حجب حقيقة إهماله لإيلين، أو ولعه بالنساء وانسياقه وراء شهوته لدرجة أنه تجرأ على إخبار زوجته أثناء إقامته في المغرب، برغبته في النوم مع امرأة من نساء البربر، وكان له ما أراد.



على جانب آخر، اكتفت إيلين بالتنفيس في رسائلها ذات الحس الفكاهي المثير للبكاء، وهو ما جعل فندر تتساءل، من تكون هذه المرأة غريبة الأطوار؟ من هنا راحت تفتش عنها في كتابات أورويل وسيره الذاتية، لتكتشف أن ما فعلته إيلين على مدار عقد من الزمان، سيما بصماتها الواضحة التي تعرف عليها أصدقاؤها في روايته "مزرعة الحيوانات"، ودورها الذي لا يستهان به في كتابه "تحية إلى كاتالونيا"، لم يتم تجاهله ببساطة، بل بالأحرى تم كشطه عمدًا بيد أورويل أولًا، ثم جاء كتَّابُ سيرته الذكور ليواصلوا منهجية المحو.
لم يكد يمضي عام، حتى اضطرت إيلين إلى اتباع زوجها الذي تطوع في الحرب الأهلية الإسبانية، ليعمل مع حزب العمال الشيوعي، وهو حزب يساري سرعان ما أدرجه ستالين على القائمة السوداء، وتعرض لعملية تطهير مرعبة. تخرج فندر إيلين من الهوامش التي وضعها فيها أورويل في "تحية إلى كاتالونيا"، ليتبين أنها كانت أكثر انخراطًا في السياسة منه، حيث أدارت مكاتب حزب العمال للوحدة الماركسية بشكل فعال، وتولت تحرير صحيفتهم باللغة الإنكليزية، بالإضافة إلى البرنامج الإذاعي، وتحملت مخاطر هائلة عندما بدأت عملية التطهير. في المقابل، قام أورويل بتوثيق تجاربه مع الثورة على نحو دقيق جدًا، غافلًا عن ذكر إيلين التي قامت بتجميع مادة الكتاب من أرض المعركة، فهو يذكر فحسب أنه بينما كان يقاتل، "كانت زوجتي في برشلونة"، وهنا تساءل فندر نفسها "كيف قرأت هذا الكتاب مرتين ولم أدرك الدور المعقد الذي قامت به إيلين إلا من مصادر خارج النص".




لهذا تسد الفجوة بتسليط الضوء على تلك الفترة من خلال عمل إيلين كسكرتيرة في مقر حزب العمال المستقل في برشلونة، والمخاطر التي واجهتها بمفردها، وليس أقلها الجواسيس والعصابات المسلحة. وهي تنفي بشدة ما عرف عنها من علاقات خارج الزواج بأدلة موثقة، ولكنها لا تستطيع أن تحدد على وجه اليقين ما إذا كانت على علاقة مع قائد أورويل في إسبانيا، وحتى إن كان ذلك، تؤكد فندر بحسها الأنثوي ليس إلا، أنها كانت مجبرة.

سيرة ذاتية أم رواية مضادة
يبدو من الصعوبة بمكان كتابة هذه السيرة مع قلة المعلومات المتاحة عن إيلين، سيما وأن رسائلها المكتشفة عام 2005 لا تتعدى تسع رسائل موجزة (ثلاث منها إلى أورويل)، وجميعها تتخذ من الدعابة درعًا لها، وكأنها تسهم بدورها في آلية طمس الذات، لكن فندر اتبعت طريقة جديدة تمامًا في إحياء بطلتها، تتلخص في تحسس أثر الكشط وتجميع مواضعه، وخلق مشاهد مسرحية من تلك الرسائل المقتضبة، وقد حددت مهمتها في إعادة تجميع إيلين، من خلال كتابة رواية مضادة لسد كل تلك الفجوات الغامضة. "أردت أن أجعلها حية، وفي الوقت نفسه أن أفضح الخدعة السحرية الشريرة التي محتها".
لا شك في أن إيلين قضت حياتها في خدمة أورويل، وكانت مريضة في معظم الأحيان، وتعاني من نقص الوزن بشكل خطير، ومن نزيف حاد قد يكون ناجمًا عن التهاب بطانة الرحم، وفي حاجة للرعاية. ولا مراء في أن أورويل تعامل معها باستهانة، وعلى الرغم من ذلك، وافقت في صيف عام 1944 على تحقيق رغبته في تبني طفل، مع تيقنها من عدم قيامه بأي دور في هذا العبء الذي يضيفه إلى أعبائها، وليس أدل على ذلك من رحيله المفاجئ إلى فرنسا، وعدم حضوره حتى جلسة التبني.
في رسالة أخيرة وموجعة، تكشف خريجة أكسفورد الواعدة ما آل إليه مصيرها في كنف الرجل الذي التقته منذ عشرة أعوام وفتنت به. لقد كتبت إيلين إلى أورويل تستأذنه في إجراء جراحة عاجلة ستتكلف 40 جنيهًا للضرورة القصوى، قائلة ببساطة: "ما يقلقني هو أنني لا أعتقد حقًا أنني أستحق هذا المبلغ". وعند هذا الحد من تحقير الذات، اختارت أرخص عيادة لإجراء أهم جراحة، وكان أن ماتت وحيدة على طاولة العمليات، بينما أورويل يواصل لهوه مع نساء باريس.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.