}

إضفاء معنى على عالمنا المعقّد

مارتن ريس 26 يناير 2024
ترجمات إضفاء معنى على عالمنا المعقّد
مارتن ريس هو عالم كونيات وفيزياء فلكية بريطاني
ترجمة: لطفية الدليمي
غدت الإمكانيات التي كانت تُعدُّ يومًا في نطاق حدود الخيال العلمي موضع نقاشات جدلية علمية جادّة، وصار العلماء ـ بالضرورة ـ وفيما هم يتناولون بحث اللحظات الأولى للانفجار الكبير، وحتى احتمالات وجود حياة لكائنات فضائية أخرى سوانا، مُنقادين في مسالك تأخذهم إلى عوالم أكثر فتنة حتى من تلك التي يبتدعها أعظم كُتّاب رواية الخيال العلمي. قد يظنّ المرء للوهلة الأولى أنّ من الوقاحة محاولةَ ـ أو حتى السعي وراء ـ فهم الكون البعيد عندما يكون ثمة كثير من الأمور المحيّرة لنا، والتي نلمسها لمس اليد هنا على الأرض؛ لكن هذا ليس بالضرورة تقييمًا مُنصِفًا، لأنّ القاعدة التي هي نتاج حكمة بشرية مقطّرة تقول: "ليس ثمة من تناقض (مفاهيمي) بشأن كوْنِ الكلّ أكثر بساطة من أجزائه". تخيّل طابوقة ـ آجُرّة ـ عادية: يمكن وصف شكلها بواسطة عدّة أعداد (إشارة إلى الأبعاد الثلاثة، المترجمة)؛ لكن لو كسرتها إلى قطع متشظية فعندئذ لا يمكن التعبير عن شكلها بصورة موجزة بواسطة بضعة أعداد مقتضبة.
يبدو التقدّم العلمي صيرورة غير مكتملة (مثل ثوب مرقّع)!. قد يبدو هذا الوصف غريبًا وشاذًا؛ لكن الحقيقة هي أنّ بعض الظواهر التي نفهمها فهمًا جيدًا أكثر من سواها من الظواهر ما زالت عصية على قدرتنا على التنبؤ والتخمين. كان في مستطاع نيوتن ـ حتى في القرن السابع عشر ـ وصف "السلوك الدقيق للكون، المماثل لعمل الساعة"؛ فقد كانت ظواهر مثل الخسوف والكسوف ممكنة الفهم وقابلة للتخمين؛ لكنّ الظواهر الأخرى المماثلة للخسوف والكسوف، من حيث قدرتنا على التنبؤ بها، تبقى قليلة للغاية، حتى لو امتلكنا فهمًا ممتازًا لها. على سبيل المثال، يبقى أمرًا شاقًا على التنبؤ ـ حتى قبل يوم واحد من السفر بالطائرة ـ في أن نحدّد هل أنّ هؤلاء المسافرين بالطائرة لتصوير منظر كسوف سيشهدون سمواتٍ ملبّدة بالغيوم، أم صافية تسرّ الناظرين. يوجد، بالتأكيد، وفي معظم السياقات التي نشهدها في الممارسات العلمية، حدّ أساسيٌّ بشأن المدى الذي يمكن أن نبلغه في التنبؤ والتخمين (بالظواهر التي ستحصل في المستقبل)، وهذا أمرٌ مردّهُ إلى أنّ العمليات التصادفية غير المتوقّعة contingencies(مثل أن تَصْفِق فراشةٌ بجناحيها، أو لا تفعل(1)) ستنشأ عنها نتائج قد تنمو بصورة أسيّة exponentially (سريعة للغاية، المترجمة). إنّ أسبابًا مثل هذه هي التي تجعل في العادة أكثر الحسابات الدقيقة تعقيدًا عاجزة عن التنبؤ بالطقس في الجزيرة البريطانية، حتى لو لعدّة أيام قادمة (لكنّ هذا ـ وهذه موضوعة شديدة الأهمية ـ لا يقلّلُ من شأن التنبؤات الخاصة بالتغيّر المناخي، مثلما لا يضعِفُ من ثقتنا في أنّ شهر كانون الثاني/ يناير سيكون أكثر برودة من الطقس السائد في أيام شهر يوليو/ تموز).
يستطيع الفلكيون في يومنا هذا، وبطريقة مقنِعة تمامًا، أن ينسبوا سبب الذبذبات الدقيقة الحاصلة في كاشف الموجات الجذبية إلى "اصطدام" بين ثقبين أسودين يبعدان أكثر من بليون سنة ضوئية عن الأرض؛ في حين، وعلى العكس ممّا سبق، لا يزال فهمنا لبعض أكثر الموضوعات مألوفية في حياتنا والتي تهمّنا جميعًا (مثل الحمية الغذائية، وتربية الأطفال على سبيل المثال) هزيلة إلى الحد الذي صارت معه نصائح "الخبراء" في هذه الميادين عُرضة للتغيير من سنة إلى أخرى. عندما كنتُ شابًا رأى الجميع في الحليب والبيض أغذية مفيدة؛ لكن حصل عقب عقد من الزمن أن عُدَّت هذه الأغذية خطيرة على الصحة، بسبب محتواها العالي من الكولسترول، وها هم الخبراء اليوم يعودون عن رأيهم السابق، ويرون أنّ هذه الأغذية لا تمثّل أيّ خطر على الصحة. الأمر ذاته يمكن أن يحصل مع عشّاق الشوكولاته والجبن؛ إذ ليس عليهم أن ينتظروا طويلًا قبل أن يخبرهم أحدٌ ما بأنّ هذه المواد الغذائية مفيدةٌ لهم. لا ينبغي أن ننسى حقيقة عدم وجود علاجٍ حتى اليوم للعديد من العلل المرضية الأكثر شيوعًا في العالم.
لكنّ الحقيقة أنّ الأمر لا يُعدّ تناقضًا إذا ما كنّا قد حقّقنا فهمًا موثوقًا به للظواهر الكونية الغامضة والبعيدة في الوقت الذي لا زلنا مكتنفين بالحيرة ونحنُ نتعامل مع كثير من الأشياء (الموجودات والظواهر) اليومية، ويعود مسوّغ عدم التناقض في هذه الحقيقة إلى أنّ علم الفلك يتعامل مع ظواهر أقلّ تعقيدًا بكثير من الظواهر التي تتعامل معها العلوم البيولوجية والإنسانية (بل وحتى العلوم البيئية "المحلية")

* * *

 كيف ينبغي لنا أن نُعرِّف أو نقيس التعقيد complexity؟ ثمة تعريف شكلي اقترحه الرياضياتي الروسي أندريه كولموغوروف(2)Andrey Kolmogorov: يعتمد تعقيد شيء ما على طول أقصر البرامج الحاسوبية الممكنة التي تستطيع توليد وصف كامل لذلك الشيء.




إنّ شيئًا مكوّنًا من بضع ذرّات فقط لا يمكن أن يكون شيئًا معقّدًا إلى حدّ كبير، والأشياء الكبيرة لا تحتاج بالضرورة أن تكون معقّدة كذلك. تمعّن، على سبيل المثال، في بلورة: حتى لو كانت البلورة كبيرة فلن يُطلقَ عليها توصيف "معقّدة". بلورة ملح الطعام ـ مثلًا ـ يمكن تصنيعها بطريقة مبسّطة: خذ ذرات الصوديوم والكلور واجمعها معًا تحت ضغط يتزايد مرة بعد أخرى إلى حدّ تحصل معه على تركيب مكعّب من شبكة المصفوفة Lattice الخاصة بملح الطعام. يمكن فعل الشيء ذاته، لكن بطريقة معكوسة: لو أخذتَ بلورة كبيرة، وعملت على تجزئتها، فلن يحصل فيها تغيير كبير حتى تبلغ المرحلة التي تنحلّ فيها إلى مقياس صغير على مستوى ذرات منفردة. النجم كذلك، وبصرف النظر عن ضخامته، هو شيء بسيط إلى حدّ كبير؛ إذ أنّ قلب النجم شديد الحرارة إلى حدّ لا يمكن فيها للمركبات الكيميائية من أي شكل كان أن توجد (الجزيئات المعقدة تتفكّك إلى مكوّناتها الأولية بفعل الحرارة الشديدة)، وبهذه الشاكلة لا يكون النجم ـ بصورة أساسية ـ سوى غاز غير متبلور من النويّات الذرية والإلكترونات. الثقوب السوداء، في جوهرها، وبصرف النظر عن التعقيد والغرابة التي تبدو عليها، هي في حقيقتها واحدةٌ من الكينونات الأكثر بساطة في الطبيعة، ويمكن وصفها بدقة بواسطة معادلات رياضياتية ليست بأكثر تعقيدًا من تلك التي تصف سلوك ذرة منفردة.
الأشياء عالية التقنية التي بحوزتنا هي كينونات معقّدة. على سبيل المثال، تمتلك الرقاقة السليكونية الحاوية على بليونٍ من الترانسستورات تركيبًا هيكليًا يصل في صغره إلى مستوى بضع ذرّات فحسب؛ لكن تبقى أكثر الكينونات تعقيدًا في حياتنا هي الموجودات الحية. يمتلك الحيوان (والإنسان كذلك، المترجمة) هيكلًا داخليًا مترابطًا بين أجزائه على مقاييس عدّة: من البروتينات في الخلايا المنفردة صعودًا في سلّم التعقيد حتى الأعضاء الحيوية الكبرى، وما ينبغي ملاحظته هنا أنّ هذه الكينونات الحيّة لن تحتفظ بماهيتها لو حصل وأن تمّ تجزئتها إلى أجزاء صغيرة؛ فهي تموت حينئذ. الكائنات البشرية أكثر تعقيدًا من الذرات أو النجوم (وقد حصل بفعل الصدفة أن تموقعت الكائنات البشرية في موقع وسط ـ من حيث الكتلة ـ بين الذرات والنجوم)، والبصمة الجينية للكائن البشري مخبوءة بطريقة مشفّرة في ثلاثة بلايين رابط في الـ DNA؛ لكننا لسنا عبيدًا كاملين لجيناتنا، بل إنّ بيئتنا وخبراتنا البشرية تلعب دورًا هامًا في تشكيل كينوناتنا. إنّ الأشياء الأكثر تعقيدًا التي نعرفها في الكون بأكمله هي أدمغتنا؛ إذ أنّ الأفكار والذكريات (المحفوظة بطريقة مشفّرة في العصبونات neurons الدماغية) هي أكثر تنوّعًا وتعقيدًا من جيناتنا.
لكن، على كل حال، يوجد اختلاف مهمّ بين "تعقيد كولموغوروف" من جهة، وبين ما إذا كان شيءٌ ما يبدو معقّدًا في الحقيقة. تقودنا لعبة الحياة التي ابتدعها كونواي(3)، على سبيل المثال، إلى البُنى الهيكلية التي تبدو معقّدة؛ لكنّ هذه الهياكل يمكن لجميعها أن توصف ببرنامج حاسوبي قصير لا يتطلّب أكثر من تحديد نقطة شروع محدّدة، ومن ثمّ إعادة الحركات المقرّرة مرة بعد أخرى، تبعًا للقواعد البسيطة التي تحدّد اللعبة، وكذلك الأمر مع الأنماط الكسورية المعقدة لمجموعة ماندلبروت(4)، والتي هي في حقيقتها ليست سوى نتيجة لخوارزمية algorithm بسيطة؛ لكنّ هذه الحالات ما هي إلا استثناءاتٌ: إنّ معظم الأشياء (الظواهر والكينونات المادية، المترجمة) في بيئتنا اليومية أكثر تعقيدًا، وبما يجعلها عصية على التخمين، أو حتى التوصيف الكامل بتفاصيل وافية؛ لكن كثيرًا من ماهية تلك الأشياء يمكن ـ برغم كل المحدّدات الناجمة عن التعقيد المفرط ـ بلوغها عبر بضع رؤى استبصارية مفصلية، ولطالما حصلت انتقالات كبرى حوّلت منظورنا في رؤية الأشياء بفعل أفكار مُوَحّدة عظمى: مفهوم الإزاحة القارية الناجم عن حركة الصفائح التكتونية، على سبيل المثال، يساعدُنا على لمّ شمل الأنماط  الجيولوجية والبيئية عبر العالم بأكمله. فكرة داروين المتبصّرة في التطوّر القائم على الإنتخاب الطبيعي تكشف لنا الوحدة الشاملة للشبكة الكلية للحياة على هذا الكوكب، وكذلك يفعل الحلزون المزدوج للتركيب الجزيئي في الـDNA عندما يكشف لنا الأساس الشمولي لمبدأ الوراثة. ثمة أنماطٌ في الطبيعة؛ بل وحتى ثمّة أنماطٌ للكيفية التي توجّه سلوكنا ـ نحن البشر ـ، وكيفية نمو المدن الحضرية، وكيفية إنتشار الجائحات المرضية، وكيفية تطوّر التقنيات (مثل تقنية الرقاقات الحاسوبية). كلّما فهمنا العالم أكثر سيغدو حينها أقلّ إثارةً لحيرتنا، وسنكون أكثر قدرة وتمكينًا في تغييره.

 عالم الرياضياتي الروسي أندريه كولموغوروف (Getty)


يمكنُ للعلوم أن تُصوّرَ على أساس هيكلية تراتبية Hierarchy مرتّبة مثل طوابق في مبنى: تشغل العلوم التي تتعامل مع الأنساق الأكثر تعقيدًا الطوابق العليا، وتقع فيزياء الجسيمات الأولية في السرداب، ثم يأتي فوقها بقيّة الفيزياء، وفوقها تتموضع الكيمياء، ثم فوقها البيولوجيا الخلوية، ثمّ علم النبات والحيوان، ثم تعقبها العلوم السلوكية والإنسانية (يدّعي الاقتصاديون أنهم يشغلون شقّة على السطح في هذا المبنى!).




إنّ "طريقة ترتيب/ ordering" العلوم في هذا الهيكل التراتبي ليس بالأمر الجدلي؛ لكن ما يثير الجدل في واقع الأمر هو التساؤل حول هل أنّ "العلوم التي تشغل قاع المبنى" ـ فيزياء الجسيمات الأولية بخاصة ـ هي حقًا أكثر عمقًا، وتمثلُ الأساس الحقيقي للعلوم بأعظم ممّا تمثله العلوم الأخرى؟ إنّ هذا التساؤل الجدلي صحيح بمعنى من المعاني، وبالكيفية التي عبّر عنها الفيزيائي ستيفن واينبرغ(5)Steven Weinberg عندما كتب: "كلّ الأسهم تشيرُ إلى الأسفل (إلى السرداب، حيث فيزياء الجسيمات الأولية، المترجمة)"، ولو أعدنا صياغة الحالة عبر التساؤل المتواتر لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟... فسننتهي دومًا بالمستوى الذي تعمل فيه الجسيمات الأولية. كلّ العلماء ـ تقريبًا ـ اختزاليون ـ بالمعنى الذي قصده واينبرغ ـ؛ فهم يشعرون بثقة كاملة أنّ كل شيء، مهما كان معقّدًا، إنما هو في النهاية حلّ لمعادلة شرودنغر(6)، وهم بفعلتهم هذه إنما يتخالفون جوهريًا مع "مُناصري المذهب الحيوي Vitalistsفي الحقب الأسبق، الذين رأوا أن الموجودات الحية سبق أن ضُخّ فيها شيءٌ من "ماهية" خاصة (تكفّلت بمنحها صفة الحياة، المترجمة)؛ لكنّ هذه الرؤية الاختزالية ليست بالأمر النافع من الناحية المفاهيمية، ويصوغ الفيزيائي العظيم فيليب أندرسون(7) Philip Anderson هذا في المقولة القصيرة التالية: "الأكثر يعني الاختلاف/ More is Different"؛ فالنظم الماكروسكوبية (الكبيرة) التي تحتوي على أعداد ضخمة من الجسيمات تكشف عن خواص "نشوئية/ emergent" يمكن فهمها بأفضل طريقة بواسطة المفاهيم الجديدة المناسبة للتعامل مع المستوى المعقّد لتلك النظم المعقدة.
إنّ ظاهرة طبيعية بعيدة عن كلّ غموض على شاكلة ظاهرة جريان الماء في الأنابيب، أو الأنهار، صارت تُفهَمُ بواسطة المفاهيم "النشوئية"، مثل اللزوجة والاضطراب. لا يكترث العلماء المختصون بدراسة ميكانيك الموائع أن يكون الماء في حقيقته مكوّنًا من الصيغة الكيميائية التركيبية التي تمثلها جزيئة H2O؛ فهم يتعاملون مع الماء باعتباره بنية متصلة continuum، وحتى لو امتلك هؤلاء العلماء حاسوبًا فائق القدرة بحيث صار في مستطاعهم حلّ معادلة شرودنغر لجريان الماء عبر تتبّع وضعية كلّ ذرة من ذراته فإنّ المحاكاة الحاسوبية المتحصّلة لن تزودهم بأية بصيرة حول الكيفية التي تنكسر بها الأمواج المائية، أو بشأن ما الذي يجعل جريانًا مائيًا في وضعية الاضطراب. إنّ المفاهيم الجديدة التي لا يمكن اختزالها إلى مفاهيم أولية هي مفاهيم حاسمة أكثر أهمية ـ بالمقارنة مع المقاربة الاختزالية، المترجمة ـ في فهمنا للظواهر المعقدة في العالم الواقعي: ظواهر على شاكلة الطيور المُهاجرة، أو  العقول البشرية، والظواهر التي تنتمي لمستويات عدّة في الهيكل التراتبي للعلوم إنما تُفهَمُ بطريقة أفضل من سواها عندما يتمّ توظيف مفاهيم مختلفة في فهمها (بدلًا من تطبيق المبدأ الاختزالي)، ومن جُملة هذه المفاهيم المتوزعة بين أطياف علمية مختلفة: الاضطراب، البقاء، الانتباه والتأهّب... إلخ. الدماغ الشبكي هو تجمّعٌ من الخلايا، واللوحة هي تجمّعٌ من الأصباغ؛ لكن ما هو أكثر أهمية وإثارة للانتباه هو النمط والهيكلية الناشئان من مثل تلك التجمّعات، أي التعقيد النشوئي  Emergent Complexity.
هذا الأمر (أي التعقيد النشوئي) هو الذي يجعل موضوعة مقارنة العلوم بهيكل إنشائي متعدّد الطوابق مقاربة فقيرة وغير منتجة. إنّ الهيكل بأكمله عُرضةٌ للخطر بسبب أساساته الواهنة؛ في حين أنّ العلوم ذات "المستوى الأعلى"، والتي تتعامل مع منظوماتٍ معقّدة، ليست واهنة بمثل وهن الهيكل بأكمله بسبب هشاشة الأساسات. يمتلك كلّ علمٍ مفاهيمه المحدّدة الخاصة وأنماطه التفسيرية الخاصة؛ وعليه، فإنّ النزعة الاختزالية صحيحة بمعنى من المعاني، لكنها قلّما تكون صحيحة بالمعنى الذي يحقّق فائدة واضحة، ويمكن معاينة هذه الحقيقة إذا ما علمنا أن ما يقاربُ 1% فحسب من العلماء هم فيزيائيون اختصاصيون في حقل فيزياء الجسيمات، أو في الكوسمولوجيا؛ أما باقي الـ 99% من العلماء فيعملون في "المستويات العليا" من الهيكل التراتبي للعلوم، وهم منصرفون في العادة للتعامل مع التعقيدات المتعاظمة في حقولهم العلمية بدلًا من التفكّر في النواقص الخاصة بفهمنا للفيزياء دون الذرية.


(*) هذا  الموضوع ترجمة كاملة للفصل المعنون (Making Sense of Our Complex World) من كتاب On the Future  Prospects for Humanity  لمؤلفه مارتن ريس Martin Reesصدر الكتاب عام 2018 عن جامعة برينستون.
(**) مارتن ريس: عالم كونيات (كوسمولوجيا) وفيزياء فلكية بريطاني، وُلِد عام 1942، وشغل منصب الفلَكي الملكي Astronomer Royal منذ عام 1995، كما شغل منصب رئيس الجمعية الملكية للفترة من عام 2005 وحتى 2010، فضلًا عن كثير من المواقع الأكاديمية والمهنية المتميزة. نشر عددًا من الكتب التخصصية، فضلًا عن العامة، التي تعنى بتاريخ العلم وفلسفته ومستقبل الإنسانية.
 
هوامش المترجمة: 
1 ــ إشارة إلى المثال الشهير المعروف بِـ (تأثير الفراشة Butterfly Effect)، الذي تأسّست عليه نظرية الفوضى (الشواش) Chaos Theory.
2 ــ أندريه كولموغوروف (1903 ــ 1987): عالم رياضيات سوفياتي من القرن العشرين، قدم إسهامات كبيرة في حقل نظرية الاحتمالات، الطوبولوجيا، المنطق الحدسي، نظرية الاضطراب، المتسلسلات الزمنية والتعقيد الحسابي.
3 ــ جون كونواي (1937 ــ 2020): رياضياتي بريطاني، له مساهمات رياضياتية عديدة في نظريات المجموعات المنتهية/ Finite Sets، ونظرية العُقَد Knots Theory. ذاع صيته عالميًا بعد اختراعه عام 1970 لعبة الحياة Game of Life، وهي لعبة تختص بأشكال ذاتية السلوك تنشأ عنها تشكلات معقدة.
4 ــ بينوا ماندلبروت (1924 ــ 2010): رياضياتي فرنسي ـ أميركي. عمل في عدد من الحقول الرياضياتية، مثل الفيزياء الرياضياتية، والرياضيات المالية؛ لكن أكثر ما يعرف به هو أنه مؤسس علم الهندسة الكسورية  Fractal Geometry. ابتكر مجموعة ماندلبروت.
5 ــ ستيفن واينبرغ (1933 ــ 2021): فيزيائي نظري أميركي، حائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979 لمساهماته في مجال توحيد القوة النووية الضعيفة والحقل الكهرومغناطيسي بين الجسيمات الأولية، بالاشتراك مع الفيزيائي الباكستاني عبد السلام، والأميركي شيلدون غلاشو. له عدد من الكتب التي تتناول فلسفة العلم وتأثيراته على الإنسانية.
6 ــ إرفين شرودنغر (1887 ــ 1961): فيزيائي نمساوي معروف بإسهاماته في ميكانيك الكم، عبر معادلته الشهيرة التي حاز بسببها على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1933، بالاشتراك مع الفيزيائي البريطاني بول ديراك.
7 ــ فيليب أندرسون (1923 ــ 2020): عالم فيزياء أميركي حائز على جائزة نوبل للفيزياء عام 1977، له أعمال رائدة في مجال الموصلات الفائقة عند درجات الحرارة العالية.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.