لماذا لم يظهر لنا فيلسوف كبير (على شاكلة كبار الفلاسفة الذين نعرف) حديثًا؟ تبدو الفلسفة المعاصرة بكلّ أشكالها وكأنّها لم تعُدْ مصدر جاذبية فكرية لمعظم الناس باستثناء دارسيها المكرّسين. كيف ترى الأسباب وراء هذه الشاهدة التي أحسبها حقيقة مؤكّدة؟
[وَسَنْ ، العراق]
أهلًا بكم أعزّائي في عمودي الأسبوعي المسمّى (فلسفة يومية Everyday Philosophy) حيث أوظّفُ تبصّراتٍ من تاريخ الفلسفة للمساعدة في التعامل مع معضلات حياتنا اليومية الحديثة. هذا الأسبوع سأستكشفُ صحبتكم سؤالًا يختصُّ بفقداننا الظاهري لأيّ من الفلاسفة ذوي الأسماء الكبيرة (على شاكلة الفلاسفة العظام) في حياتنا الحديثة. سأتعمّقُ في مساءلة موضوعة: هل أنّ الفلسفة حقًا هي في إنحدار بيّن أم أنّها تتطوّرُ ببساطة لتكون أكثر توغلًا وتشاركًا في نسيج حيواتنا اليومية بالمقارنة عمّا كانت عليه من قبل؟
ثمّة الكثير الكثير من الإفتراضات المقدّمة لتكون إجابات مقبولة لسؤالك عزيزتي وسن، وأظنّ أنّ أوّل الإجابات وأقلّها مشقّة هو الإشارة إلى حقيقة وجود العديد من الفلاسفة العظام ذوي الشهرة الطاغية ممّن لم يزالوا أحياءً بيننا أو أنهم حجزوا لهم أماكن مشرّفة في ذاكرتنا الحيّة؛ لكن من جانبي لن أعمد إلى إعتماد مثل هذه الإجابات السهلة وسأتناول الجواب في الإتجاه الذي أتوقّعُ أنكِ وضعتِهِ في حسابك عندما تساءلتِ عن موت الفلسفة والفلاسفة. يمكن - إبتداءً- أن أضع سؤالك في صيغة أخرى أكثر شمولية: أين كلّ الفلاسفة الموصوفين بالفلاسفة العموميين (بمعنى يعرفهم عامّة الناس)؟ أين المنصّات المليئة بصور الرجال الملتحين وهم يشيرون بأصابعهم إلى السماء لتأكيد فكرة يرونها حاسمة؟ أين ذهبت تلك الأجواء المفعمة بالنضوج الفكري والجدالات المحبّبة؟
لو شئنا السعي للتعمّق بالجذور الحقيقية لتلك الأسئلة فيتوجّبُ علينا أولًا أن نلجأ إلى حفريات فكرية مسبّقة في تاريخ الفلسفة ذاتها. لكي أضع الجواب في ترتيب فكري منسّق ومنضبط سألجأ لمحاججة ذاتية ثنائية الأوجه: سأتناول أولًا فكرة أنّ الفلسفة تحتضر Dying (أو أنها ميتة Dead) ولماذا قد يكون الأمر على هذه الشاكلة. ثمّ في مرحلة ثانية سأتناولُ المحاججة المضادة لفكرة إحتضار الفلسفة أو موتها الحقيقي، وفيها سأبيّن ما استطعت كيف أنّ الفلسفة - كمنشط إنساني يتّسمُ بالرفعة- لا تكتفي بالكفاح للمحافظة على حيويتها التي نعرف بل هي صارت ممارسة تتغلغل أكثر فأكثر في كلّ فعالية يومية نؤديها. ثمّ في نهاية الأمر سأعرضُ ما تقوله الحقائق والشواهد اليومية بشأن الموت او الإحتضار (الإفتراضيين) للفلسفة. أصدقائي الفلاسفة: ضعوا نظارات غوغل على أعينكم. سنتأمّل قليلًا في أنفسنا وصنائعنا الفكرية.
أين كلّ الفلاسفة؟
عندما يتحدّث الفلاسفة عن الفلسفة فإنّهم في العادة يصنّفون الموضوع في فئتيْن: الفلسفة التحليلية Analytic Philosophy والفلسفة القارية (الأوروبية) Continental (European) Philosophy. الفلسفتان تنتميان للعائلة ذاتها؛ لكنهما تبدوان كشخصين عبوسين لا يرتضيان المصالحة مع بعضهما حتى وهما يتشاركان الجلوس على مائدة أعياد الميلاد ذاتها. تختص الفلسفة التحليلية (الشائعة فلسفيًا في التقاليد الثقافية الأنغلوفونية) بالمنطق واللغويات والميتافيزيقا. هي (الفلسفة التحليلية) ببساطة كيفية تشكيل العبارات الأولية المصممة بدقة وصرامة لكي تقود إلى إستنتاجات مؤكّدة لا يمكن تجنبها.
يمكن في العادة أن تبدو عبارات الفلسفة التحليلية أقرب للعبارات الرياضياتية لكنّما مع فارق جوهري: إنها تتسربلُ بثياب لم تتقن إخفاءها عن الرياضيات. الفلسفة القاريّة من جانبها (وهي شائعة في الفضاء الأوروبي) تميل لأن تكون أكثر أنسنة من نظيرتها وضديتها الفلسفة التحليلية. الفلسفة القاريّة تختصّ لنفسها بموضوعات مثل: الوجودية، الهوية الذاتية، الدين، وكيفية إيجاد معنى لأنفسنا في هذا العالم، وربما لأجل هذا فهي أكثر مقروئية وجذبًا لمحبّي الفلسفة ودارسيها النظاميين من الفلسفة التحليلية (أو بعض أجزاء الفلسفة التحليلية لو شئنا الدقّة والإنضباط في القول). ثمّة مقولة طريفة تكشف لنا هذه الحقيقة: "كلّ فلسفة فرنسية كُتِبت بعد روسو هي بالضرورة مجلّة تصلح للقراءة العامة!".
عندما يفكّرُ الناسُ بالفلسفة فهُم في العادة يفكّرون بالفلسفة التحليلية التي يحسبونها منشطًا فكريًا يتّسمُ بالصرامة والتعامل مفرط الجدية مع الأشياء والأفكار. قبل بضع سنوات كتب الفيلسوف ليام كوفي برايت Liam Kofi Bright مقالة عنوانُها (نهاية الفلسفة التحليلية The End of Analytic Philosophy)، وممّا قاله فيها:
"تعاني الفلسفة التحليلية من أزمة ثقة ثلاثية الأوجه: ليست للناس ثقة بقدرة هذه الفلسفة على حلّ معضلاتها الخاصة، وليست لهم ثقة بقدرتها على إمكانية تعديل مقارباتها على نحوٍ يمكّنها من حلّ معضلاتها الخاصة، وقبل هذا وذاك ليست للناس ثقة بأنّ معضلات الفلسفة التحليلية تستحقّ البحث عن حلول لها في المقام الأوّل".
أظنّ أنّ العبارة الأخيرة في أطروحة الفيلسوف برايت هي ما تذهب بعيدًا نحو جوهر تساؤل وسن: ما الغرض من الفلسفة؟ ولماذا خصّص الفيلسوفان برتراند رسل Bertrand Russell وألفرد نورث وايتهد Alfred North Whitehead ثلاثمائة وستّين صفحة من كتابهما المشترك في محاولة البرهنة المنطقية على أنّ 1+1=2؟ وما الغاية التي إرتجاها زينو في محاولة إثبات أنّ السلحفاة لن تغلب أخيل؟
يتحدّث برايت في مقالته عن "إنعطافة تطبيقية" تصبح معها الفلسفة ذات أهمية في الفضاء الثقافي والفكري العام عندما يسود شعور راسخ تعزّزه شواهد بيّنة بأنّ (التحليل الفلسفي قد يكون قادرًا على حيازة تأثير فعّال في تشكيل وصياغة حياة الأفراد في العالم الواقعي). يمكن للفلاسفة أن يجدوا وظائف كثيرة لهم - كمستشارين أو مساهمين في صناعة السياسات- في مؤسسات تهتمّ بموضوعات مثل: اللاعدالة، القمع، البروباغاندا (الدعاية)، الأيديولوجيا، بدلًا من الإنكفاء في الأبراج الأكاديمية القصية عن حركيات العالم الواقعي في كافة حيثيات معيشه اليومي. لا مفرّ من اللجوء إلى التركيبة العقلية التي تقيس جدوى الأمور بالمنفعة المتحققة منها Utilitarian Mindset. المنفعة مع الفلسفة لها وجهان: شخصي وعام.
أما الشخصي فهو: هل تحقق لك دخلًا طيبًا وعيشًا تشعر معه بالرضى والتكامل بين عقلك وروحك وجسدك؟ إذا تحقق هذا فالفلسفة جيّدة وتحقق نتائج طيبة. الوجه العام للفلسفة هو الإرتقاء بنوعية الحياة التي نعيشها في كلّ تفاصيلها اليومية. ليس بالضرورة أن تكون برتراند راسل آخر أو ألفرد نورث وايتهد آخر يُضافُ إلى عالمنا المتخم بمعضلات أهمّ بكثير من محاولة البرهنة المنطقية أنّ 1+1=2. إذا لم تشعر أنّ الفلسفة ترتقي بحياتك وتضيف خيرًا للعالم فكُفّ عن إهدار وقتك واتخذ لك عملًا آخر سواها.
الفلاسفة يختبئون وراء كلّ زاوية في العالم
لذا، عزيزتي وسن، قد يبدو أمر التهميش الحاصل للفلسفة ناشئًا عن رؤية شائعة بأنّها تفتقدُ التأثير الحاسم في تشكيل سياسات عالمنا الواقعي، أو بعبارة أخرى أكثر بلاغة وضعها الفيلسوف ويليام جيمس William James: الفلسفة تفتقدُ القيمة الفورية cash value لصنائعها الفكرية. في عالمٍ يتطلّبُ نموًا متسارعًا ودخلًا قوميًا سنويًا مضطردًا، وحيث تستثمرُ الحكومات في التخصصات الدراسية المسمّاة STEM (مختصر العلم والتقنية والهندسة والرياضيات- المترجمة)، ما الذي يمكنُ أن تضيفه الفلسفة؟
توجد معضلتان جوهريتان في مثل هذا التساؤل. المعضلة الأولى هي أنْ ليست كلّ الفلسفة مقتصرة على الفلسفة التحليلية. الأسئلة الوجودية التي تجاهدُ الفلسفة القاريّة في إيجاد إجابات لها هي بالفعل تمتلك قيمة فورية ضخمة: عندما يناقشُ فريدريك نيتشه المترتبات الناشئة بفعل العيش في عالمٍ من غير إله، أو عندما يتناولُ إميل دوركهايم موضوعة الإحباط المستنزف لحياتنا وطاقتنا العقلية والروحية نتيجة العيش في المجتمعات الحديثة، أو عندما تمتحنُ سيمون دي بوفوار طبيعة الحب الحقيقي، فإنّ هؤلاء جميعًا وكثيرين سواهم يتحدّثون بكيفية مباشرة معنا في أمورٍ تختصُّ بجوهر معيشنا اليومي. أن تكون إنسانًا هو أمر في غاية الأهمية لمعظمنا، وسيكون من المنطقي والبديهي الاهتمامُ بكلّ التفاصيل الخاصة بما تعنيه هذه الأنسنة.
المعضلة الثانية تكمنُ في أنّ القيمة لا يمكن قياسها عبر المخرجات المتحققة وحدها. نعم، الفلسفة لا تنشئ ناطحات سحاب، ولا تكتشفُ عقاقير جديدة، ولا تحسّنُ التقنيات الصاروخية أو تطوّرُ البرامجيات الحاسوبية (السوفتوير). هذا صحيح تمامًا كواقعة مادية مشخّصة؛ لكنّما قيمة المهارات والمعرفة المتحصّلة من الفلسفة لا تضيع هباءً أبدًا. ثمّة فلسفة لكلّ شيء: في عالم الأعمال تساهمُ الفلسفة في تنمية فضائل القيادة الخلاقة وأخلاقيات المؤسسة. في العلم تعمل الفلسفة على الارتقاء بالطريقة العلمية وطبيعة البراهين الدقيقة. في السياسة يمكن أن تضيف الفلسفة تبصرات مشرقة لصانعي السياسات ومشرّعي القوانين. الأكثر أهمية من كلّ هذا، ربّما، أنّ الفلسفة تساعدنا على فهم - ومن ثمّ إعادة توجيه- أولوياتنا في عصر الذكاء الإصطناعي.
حتى لو ظننتَ أنّ الفلسفة لا تخدمُ غرضًا محدّدًا بدقة، فالفلاسفة ليسوا كذلك بالتأكيد.
قولوا مرحبًا لمحفزات الفلسفة الجدد: الوقائع اليومية الصغيرة.
كم من الحقيقة ينطوي عليها تساؤل وسن؟ دعوني أكنْ دقيقًا للغاية. لو كنّا نتحدّثُ عن الفلسفة الأكاديمية فثمّة ما يمكن قوله. لم تعُد الفلسفة تتمتع بتلك الحظوة الكبرى التي لطالما نالتها في أزمان سابقة في الأوساط الجامعية. باتت تخصصات أخرى تتناول أسئلة كانت حتى زمان ليس بالبعيد في نطاق الاهتمامات الفلسفية التقليدية، وصارت أعداد الطلبة المسجّلين بأقسام الفلسفة الجامعية تتناقص سنة بعد أخرى مسوقين بإغراءات التوقعات الوظيفية المستقبلية التي تأتي مع دراسة تخصصات الـ STEM أو البرامج الدراسية المتمركزة على عالم الأعمال. يبدو الأمر مسبّبًا، ولو في جزء منه، بفعل إنزياحٍ مجتمعي بات يعمل على تقدير العلم والتقنيات بأكثر ممّا يفعل إزاء الإنسانيات.
من جانبي درستُ الفلسفة وأمضيتُ - ولم أزل أفعل- أمتع الأوقات معها، وبوصفي هذا فإنّني أرى أمر التعامل المعاصر مع الفلسفة شيئًا ينقصه الحس الأخلاقي؛ لكنّي رغم هذا لستُ أشعر بالخذلان أو الإنكسار أو الندم لسنوات قد يحسبها آخرون ضائعة أو غير حكيمة في إستثماراتها المتوقعة. عندما تكتب وسن قائلة: "تبدو الفلسفة المعاصرة بكلّ أشكالها وكأنّها لم تعُدْ مصدر جاذبية فكرية لمعظم الناس باستثناء دارسيها المكرّسين" أشعر برغبة ملحّة في حاجتي إلى الكلام. لا أتّفق معك صديقتي وسن. الفلسفة ليست شيئًا يمكن تبسيطه واختزاله إلى محض مقررات جامعية وجداول دراسية ومواعيد نهائية لتسليم مقالات في موضوعات بعينها. عندما يتطلّع نيل - مثلًا- في سقف غرفته وهو بين صحو ونوم ليتساءل: ما الغرض وراء كلّ هذا التعاقب اللانهائي لليالي مع النهارات؟ فهو حينذاك إنّما يمارسُ الفلسفة وهو ماكث في غرفته ينتظر حلول النوم في جسده. وعندما تسألُ إيلين صديقًا لها هل أنّ شهادة شخص بشأن واقعة إجرامية هي أهمّ من مائة ورقة بحثية منشورة؟ فهذا تساؤل فلسفي في طبيعته النهائية. وعندما ينتحبُ فابي باكيًا في مأتم أمّه مستنكرًا ومتسائلًا ما الذي عساه حصل لها؟ فهو حينئذ صار فيلسوفًا.
(*) جوني ثومسُن Jonny Thomson: درّس الفلسفة في جامعة أكسفورد لأكثر من عقد من الزمن قبل أن يتفرّغ للكتابة. يكتب في موضوعات الفلسفة واللاهوت (الثيولوجيا) وعلم النفس (السيكولوجيا)، وأحيانًا يتناول أيضًا موضوعات أخرى. حاز كتابه الأول Mini Philosophy على مقروئية واسعة وتُرجم إلى عشرين لغة وصار من أفضل المبيعات (البيستسيلر). نُشِر كتابه الثاني Mini Big Ideas عام 2023.
(**) الموضوع أعلاه مترجم عن موقع Bigthink الإلكتروني ضمن سلسلة Everyday Philosophy، وهو منشور بتاريخ 30 آب/ أغسطس 2024.
العنوان الأصلي للموضوع باللغة الإنكليزية هو:
؟Why does it seem like philosophy is dead