}

نزع الاستعمار: الخروج من الليل المظلم

عمر كوش عمر كوش 17 نوفمبر 2024
تغطيات نزع الاستعمار: الخروج من الليل المظلم
مشروع نزع الاستعمار عند مبيمبي دفاعٌ عن القارة الأفريقية(Getty)
نشأ مفهوم نزع الاستعمار مع تطوّر دراسات ما بعد الاستعمار ونظرياتها، التي وضعت أسس تناول المتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للبلدان المستقلة بعد خلاصها من الاستعمار، وعملت على إماطة اللثام عن المرتكزات التي منحت العقل الأوروبي سلطة مطلقة باعتباره المركز، وما نتج عن ذلك من نزعة شوفينية استعلائية على الأمم غير الأوروبية. ومنذ الربع الأخير من القرن العشرين المنصرم لم يعد نزع الاستعمار يعني فقط إنهاء سيطرة دولة محتلة لأرض دولة أخرى، ووقف استغلال أهلها، وسلب مواردهم وثرواتهم، بل بات يعني أشبه بتقديم جردة حساب مع تاريخ الغرب الحديث، وتشييده الدولة القومية، وفرضه آليات المراقبة والمعاقبة والهيمنة الثقافية، وصولًا إلى نقد مفاهيم الذات والآخر والعالم والتمركز، والسياسات الحيوية، وسياسات الإماتة التي تمارس على أجساد البشر وأرواحهم.
ويأتي كتاب "الخروج من الليل المظلم: مقالات في نزع الاستعمار من أفريقيا" (ترجمة خالد قطب، ابن النديم ودار الروافد، بيروت، 2024) للمفكر الفرنسي (كاميروني الأصل)، أشيل مبيمبي، في وقت ترتفع فيه وتيرة خطاب نزع الاستعمار مع حرب الإبادة الجماعية، التي تشنها إسرائيل منذ أكثر من عام على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، سواء في الأوساط الأكاديمية أم ضمن مشهديات التضامن العالمي. وظهر حراك فكري تمحور على إعادة إنتاج النقاش حول نزع الاستعمار، وحول النضال المستمر ضد مختلف أشكال الاستعمار، وكيفية تحدي البنى القمعية التي تدعمها منظومات الهيمنة المتواطئة مع الهياكل الاستعمارية. ويستند الحراك الأكاديمي والفكري إلى أن القضية الفلسطينية لعبت دورًا كبيرًا في إغناء دراسات نزع الاستعمار، حيث تجسد إسرائيل دولة احتلال استيطاني، أنتجت سياساتها مزيجًا من العنصرية والفاشية، وبات الشعب الفلسطيني في تلك الدراسات يوصف بالسكان الأصليين، ليس فقط لأنه صاحب أرض فلسطين الخاضعة للاستيطان الإسرائيلي، بل أيضًا لأن هذا المفهوم يدلّ على مفهوم الأصلانية قبل الاستعمارية، التي سعت إلى تدميرها قوى الاستعمار وسياساتها.

يسهم مبيمبي في كتابه في التأسيس لمنهجية نزع الاستعمار في أفريقيا خلال القرن العشرين، عبر تقديمه تحليلًا لخطابات ما بعد الاستعمار، وذلك بعد أن أفضت السياسات الاستعمارية إلى انتزاع شعوب بأكملها من تاريخها، وأنماط حياتها، وتقاليدها الثقافية والحضارية، وفرضت عليها طرقًا وأنماطًا مختلفة في العيش والتفكير، وباتت الظاهرة الاستعمارية شمولية وواسعة. واقتضى ذلك أن ينحو موضوع نزع الاستعمار إلى البحث عن إعادة توزيع جديدة للغة، ومنطق جديد للمعنى، حيث كل الأشياء مدفوعة بإرادة الحياة، والرغبة في بناء مجتمع يستطيع الوقوف على قدميه.



تعود بدايات دراسات نزع الاستعمار النظرية الفلسفية إلى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين المنصرم، وكان للمفكر فرانز فانون، دور مهم في تلك الدراسات، حيث أسهمت أعماله في رسم نقاط التقاطع بين السياسات المناهضة للاستعمار وسياسات الهوية الناشئة. ثم لعب المفكر الأميركي الفلسطيني، إدوارد سعيد، دورًا هامًا في التأسيس لنظرية ودراسات ما بعد الاستعمار، حيث تناول الجوانب المتعددة الأوجه لخطاب نزع الاستعمار، عبر تقديمه أبحاثًا أكاديمية عميقة للتاريخ الاستعماري وتأثيراته الدائمة، أسهمت في تعزيز نهج أكثر نقدية لفهم هياكل السلطة والخطاب والمعرفة، وإماطة اللثام عن البنية التحتية للخطاب الاستعماري والإمبريالية الثقافية. ثم انتقل خطاب نزع الاستعمار من المجال الأكاديمي إلى المجال العام، وظهرت تيارات تنادي بنزع الاستعمار عن مختلف المجالات، بدءًا من اللغة والتعليم والتاريخ والذاكرة والعمارة، وصولًا إلى حركات مناهضته، والربط بين الدعوة إلى نيل الحرية وإنهاء الاحتلالات. وباتت نظرية ما بعد الاستعمار تنظر في التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي شهدتها الدول المستعمَرة، التي يستحيل فهمها بواسطة النظرة الثنائية السائدة في علاقات المستعمِر والمستعمَر، لذلك ينبغي التركيز على استكشاف كيفية تأثير الاستعمار في تشكيل الهوية الوطنية لشعوب الدول المستعمَرة، وتحديد مساراتها الاقتصادية، وإعادة تشكيل العلاقات بين الدول ضمن النظام الدولي.




وبناء عليه، تطرح نظرية ما بعد الاستعمار مجموعة من المسائل الهامة المتصلة بدراسة علاقة الأنا بالآخر، والتقابل بين الشرق والغرب، ودور الاستشراق في التسويق للمركزية الغربية، والعمل على تفكيكها. وتناولت مختلف أطروحات النظريات الأدبية ذات الطابع الثقافي والسياسي في العصر الحديث الذي شهد هيمنة الغرب على الفكر العالمي، وأصبح مصدرًا للمعرفة والعلوم والإبداع. ثم توسعت نظرية ما بعد الاستعمار كي تغطي كل الثقافات التي تأثَّرت بالإمبريالية، وعملت على تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطابًا تمثيليًا، يحمل في طياته توجهات استعمارية حيال الشعوب الخارجة عن المنظومة الغربية. إضافة إلى تفكيك الخطاب الاستعماري، وخاصة التكوين العقلي والتمثيلات والأشكال الرمزية التي كانت تشكل البنية التحتية للمشروع الإمبريالي.
يجري مبيمبي فحصًا عامًا للقارة الأفريقية، ثم يصورها في مرحلة ما بعد الاستعمار خارج الليل المظلم، ويحدوه أمل بالتخلص من حال الظلام، وبزوغ نور شمس أكثر إشراقًا ونجوم أكثر نقاء. ويسعى إلى بناء مشروع جديد عبر تحليل القضايا الرئيسية المتصلة بنزع الاستعمار واختلاط الأجيال، وسبر مجالات المجتمعات التي تخلصت من الاستعمار، مبينًا أن نزع الاستعمار جرى على المستوى السياسي فقط، ولكنه مثير للجدل على المستوى الثقافي، لأنه لم يحمل تحررًا حقيقيًا للأفارقة من كل الأبعاد. وتظهر مناقشة الدور الاستعماري الفرنسي في القارة الأفريقية، ومواقفها بعد استقلال مستعمرتها، أن فرنسا اتخذت مواقف وأدوارا استعمارية جديدة، وما تزال تصرّ على نرجسيتها الثقافية، محاولة إقناع نفسها بأنها ما تزال تشكل مركزا، لكنها تعيش شتاء إمبراطوريًا طويلًا، وتجد صعوبة في التفكير في مرحلة ما بعد الاستعمار، لأنها تتردد في تحويل التاريخ المشترك الوحشي والمأساوي إلى تاريخ مشترك مع مستعمراتها السابقة. ويظهر سجل أكثر من خمسين عامًا من الاستقلال في دول أفريقيا الناطقة بالفرنسية أن نزع الاستعمار لم يغير سوى شكل الاضطهاد بدون تعديل جوهره، لقد تغير الغلاف لكن المضمون لم تغير، فالمستعمر غادر لكنه ظل حاضرًا في كل مكان وفي كل شيء. إضافة إلى أن فرنسا فشلت في الالتفات إلى انتقادات ما بعد الاستعمار، تلك التي ترتبط بعمليات الإقصاء والاستبعاد المستمر، والمحجوب تحت ستار دعاوى العولمة أو العالمية.

ثوار في الكونغو يناضلون من أجل الاستقلال في عام 1960 (Getty)

يرى مبيمبي أن مشروع نزع الاستعمار في السياق الأفريقي يهدف إلى توسيع النطاق المفاهيمي والمنهجي والنظري، ومثله مثل دراسات ما بعد الاستعمار، ودراسات العرق، والدراسات النسوية، يقاوم التفسيرات الموحدة للإنسان، والتقليل من أهمية نظم المعرفة التي شكلت الإنسان والعالم على أنه واحد، أو صورت الإنسانية ككل غير متمايز. ويتبنى مشروع نزع الاستعمار فكرة أن العوالم الاجتماعية متعددة ومقسمة ومتنازع عليها، وبالتالي هناك حاجة إلى تبني التعددية اللغوية، والترجمة كطريقة لتجنب إبقاء الأطراف المتنازعة للمعرفة والسلطة التي تقسم الإنسانية العالمية، وبالتالي فإن من المهم تركيز الجهود الفكرية من أجل إعادة الوعي الأفريقي، ونقد المفاهيم السائدة وما آلت إليه، والعمل على رسم خريطة لكيفية ممارسة السلطة في فترة ما بعد الاستعمار، وتوجيه النقد الصريح للسلطات السياسية الموالية للسياسة الاستعمارية. ووفق هذا المنطلق يجري النظر في مفاهيم المواطنة والهوية والديمقراطية والحداثة، وتقديم تقييم قوي للطرق الشائعة للكتابة والتفكير حول أفريقيا. والأهم هو أن نزع الاستعمار يجب أن يشمل التعليم داخل القارة وفق ثلاثة مستويات، أولها تغيير المناهج الدراسية ومحتواها، والأمر ينطبق على العلوم الإنسانية بشكل خاص، وثانيها تغيير معايير تحديد النصوص التي تدرّس في المدارس، وذلك في سياق نزع الاستعمار المعرفي الذي ما يزال موجودًا، ويشكل تحديًا على جميع المستويات، لذلك لدى الدول الأفريقية لديها مسؤوليات يتعين عليها أن تتحملها، ويجب أن تدرك ذلك.
يتعامل مبيمبي مع مشروع نزع الاستعمار بوصفه ممارسة للدفاع عن القارة الأفريقية، أي دفاعًا عن النفس، وتجربة لبزوغ عهد جديد، وبما يشكل بحثًا في المجتمعات التي انتهى استعمارها، وذلك لأن فكرة ما بعد الاستعمار هي فكرة عالمية، حتى ولو لم يجر استخدامها وفق هذا المفهوم في بدايتها، كما يمكن اعتبارها حلمًا بشكل جديد لإنسانية تستند إلى مشاركة جميع الشعوب، وهي ليست موجهة ضد أوروبا أو شعوبها، حسبما يحاول بعضهم تصويرها، وذلك على الرغم من أن قوى الهيمنة الغربية وصلت إلى حالة قصوى من التوحش، بعد أن طورت الأدوات المستخدمة في سياسة العنف أو سياسة الإماتة والإحياء. ولعل الوقوف ضد قوى الهيمنة وتعريتها يقتضي الدعوة إلى الاعتراف بالإنسانية من أجل الإنسانية، والعمل من أجل مستقبل واحد مشترك لجميع البشر من دون تمييز عنصري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.