جاء حفل "سيزار" الذي أقيم في الأولمبيا بباريس في 23 شباط/ فبراير الحالي في نسخته التاسعة والأربعين، مقاربًا التوقعات عن الأفلام، أو بالأحرى "الفيلم"، الذي سيفوز والقضايا التي ستثار. على رأس تلك الأخيرة قضية "الاعتداءات الجنسية" في عائلة السينما التي وصفتها الممثلة الفرنسية جوديت غودرش بالعائلة "العجيبة". بحيث باتت ردود الفعل حول مواقف سياسية واجتماعية في حفل توزيع جوائز السينما الفرنسية الأهمّ، طاغية في بعض الأحيان على السينما.
ودُعيت الممثلة والمخرجة والكاتبة الفرنسية غودرش (51 عامًا) لتلقي كلمة خلال الحفل بعد انطلاق موجة جديدة مما يطلق عليه "حرية الكلمة" للممثلات حول استغلال النساء جنسيًا في المهنة. واستقبلت بتصفيق كبير منذ إطلالتها على مسرح الأولمبيا، حتى قبل أن تتلفظ بكلمة. أدانت في خطابها من بين ما أدانت "مستوى الإفلات من العقاب والإنكار والامتياز" في صناعة السينما حين يتعلق الأمر بالعنف الجنسي. وكانت غودرش أعلنت قبل أسبوع أنها تقدمت نهاية العام الفائت بشكوى ضد المخرجين بينوا جاكو وجاك دويون (أول فيلم من بطولتها وهي مراهقة كان من إخراج الأول، وثاني فيلم من إخراج الثاني)، اللذين ادّعت أنهما أساءا إليها واغتصباها عندما كانت لا تزال قاصرًا في بداية حياتها المهنية، وأشارت إلى العلاقة المسيطرة التي مارسها عليها جاكو خلال مراهقتها كما شهدت على هذا الماضي، وطريقة عمل الهيمنة الذكورية بشكل عام في الصناعة. ولم تكن الوحيدة في الحفل التي أشارت إلى وضع بعض النساء في المهنة.
وجاء منح الممثلة أديل إكزاركوبولُس "سيزار" جائزة أفضل دور ثان عن فيلم "سأرى دومًا وجوهكم" للمخرجة جان هيري، بمثابة تذكير آخر بالعنف الجنسي ضد النساء، لكن خارج الوسط الفني هذه المرة. وأدت إكزاركوبولس دور ضحية اغتصاب سفاح القربى في فيلم جديد في موضوعه يستوحى إجراءً اتخذته العدالة التصالحية في فرنسا عام 2014 بجمع الضحايا والجناة وإعطائهم الفرصة للحوار معًا بحضور مشرفين اجتماعيين بهدف التصالح والإصلاح. يصادف هؤلاء في رحلتهم، الغضب والأمل، الصمت والكلمات، التحالفات والانكسارات، الوعي وإعادة اكتشاف الثقة بالذات والآخر... وفي نهاية الطريق تأتي، أحيانًا، المصالحة.
كانت كوثر بن هنية أكثر جرأة وثباتًا وهي تعلن أمام صالة محتشدة عن "المذبحة التي يجب أن تتوقف في غزة" (الصورة: Getty) |
وإن كانت قضية العنف ضد النساء في صناعة السينما طغت على أجواء حفل جوائز سيزار، فإنها لم تكن الوحيدة. فمع هذا التحول في النظرة واعتماد المناسبة أكثر فأكثر للتنديد بقضايا تعتبر مُلحّة لمثيريها، تساءل مترقبون للحفل حول ما إذا كانت ستثار قضية الحرب الوحشية على غزة. كان هذا حصل منذ شهرين في حفل توزيع جوائز أفضل الأفلام الفرنسية من قبل أكاديمية لوميير لمراسلي الصحف الأجنبية في باريس. حين استلام جائزتها عن فيلمها "بنات ألفة"، نددت التونسية كوثر بن هنية بانفعال شديد بما يجري في غزة، ودعت إلى المطالبة بوقف إطلاق النار. في حفل سيزار، كان الفضول شديدًا حين أُعلن عن اسمها لفوزها بجائزة أفضل فيلم وثائقي. فهل ستعلن أيضًا بكلمات جريئة عن موقفها المستنكر والشديد اللهجة ضد هذه الحرب؟ كانت أكثر جرأة وثباتًا وهي تعلن أمام صالة محتشدة عن "المذبحة التي يجب أن تتوقف في غزة" وعن فظاعة ما يجري: "إنه أمر فظيع جدًا ولا يمكن لأحد أن يقول إنه لم يكن يعرف. إنها أول مذبحة تُنقل على الهواء مباشرة على هواتفنا". في فيلمها الفائز "بنات ألفة"، تسرد بن هنية قصة أمّ تونسية بعد هرب إثنتين من بناتها الأربع للالتحاق بتنظيم داعش في ليبيا. عبر هذه القصة المأخوذة من واقعة حقيقية في تونس عام 2016 تنبش المخرجة في الذاكرة والأمومة ودور التربية في مجتمع ذكوري لتبدو من خلال هذا صورة تونس المنقسمة بعد الثورة بين العلمانية والتطرف الديني.
لم تكن بن هنية الوحيدة في موقفها خلال الحفل. الممثل الفرنسي البلجيكي آرييه فورتالتير انضم إلى زميلته في الدعوة إلى وقف لإطلاق النار في غزة "لأن الحياة تتطلب ذلك، حياة سكان غزة والرهائن، لأننا موحدون كجنس بشري"، وختم كلمته بجملة عبرية مثيرًا التصفيق كزميلته.
فاز فورتالتير عن دوره في فيلم "محاكمة غولدمان" لسيدريك كاهن، حيث جسّد بأداء رائع دور الناشط اليساري المتطرف بيار غولدمان الذي حوكم بتهمة قتل صيدلانيتين عام 1976 خلال عملية هجوم مسلح بهدف السلب. في فيلم تجري معظم أحداثه في قاعة محكمة كان التشويق عاليًا مدعومًا بسيناريو متين اعتنى بتفاصيل حياتية قد لا تثير انتباه المرء في حياته اليومية، ثم حين حدوث طارئ تبدو محاولة استرجاع ما كان يقينًا مليئة بالشكوك. في هذا برع الفيلم معتمدًا الحوار الذكي الذي يكشف أعماق الشخصية الإنسانية وتناقضاتها وشكوكها. لكن الفيلم الذي كان مرشحًا لجوائز في فئات عدة أساسية كأفضل فيلم وإخراج وسيناريو ودور ثان لم يخرج سوى بهذا الجائزة لبطله الرئيسي.
فيلم "تشريح سقوط" لجوستين ترييه اكتسح الجوائز في فئات "أفضل فيلم" و"أفضل إخراج" و"أفضل سيناريو" (المخرجة مع زوجها آرتور هراري) و"أفضل مونتاج" (لورانت سينيشال) و"أفضل تمثيل نسائي" (ساندرا هولر) و"أفضل ممثل مساعد" (سوان آرلو). وتساءل نقاد عن كمّ الجوائز هذه التي ينالها الفيلم في كل مكان، وإن لم يكن هناك حقًا ما هو أفضل منه أو مماثل يستحق إحدى هذه الجوائز. الفيلم تشريح حقيقي لعلاقة بين زوجين. فبعد حصول حادث حول العثور على كاتب يعاني الفشل والشك ميتًا عند سفح منزلهم فُتح تحقيق في الوفاة المشبوهة. وسرعان ما اتهمت الزوجة: الانتحار أم القتل؟ لعل أفضل ما في الفيلم السيناريو وأداء الممثلة التي تمكنت من بثّ الغموض حول مواقفها ودورها في موت زوجها. كما استطاعت ترييه بإخراجها أن تتحرر من سيطرة نوع سينمائي معين على فيلمها، فتنقلت فيه بين أفلام التحقيقات والمحاكمات والجريمة والفيلم العاطفي، فأعطت لكل نوع حقه ليخرج الفيلم ممتعًا ومشوقًا دون أن يكون فريدًا.
هناك أفلام أخرى كانت مرشحة لجوائز رئيسية من ضمنها أفضل فيلم وإخراج وتمثيل مثل "مملكة الحيوان" لتوما كاييه. ولكن الفيلم خرج بخمس جوائز متوقعة في فئات أخرى كالصورة والصوت والتأثيرات البصرية والموسيقى والأزياء، وحين نعرف موضوع الفيلم لن يكون هذا مدهشًا. فالفيلم يكتشف بأسلوب الخيال النزعات الحيوانية في داخل الإنسان حين تنتشر ظاهرة غامضة تجعل من منطقة مأهولة بمخلوقات غريبة تزاوج بين الإنسان والحيوان. موضوع وأسلوب جديدان في السينما الفرنسية في عالم يعاني من موجة من الطفرات التي تحول تدريجيًا بعض البشر إلى حيوانات.
وكان التنافس شديدًا في فئة "الفيلم الأول" حيث اغتنت السينما الفرنسية عام 2023 بأفلام جديدة أولى كان الاختيار بينها صعبًا. من ضمنها فيلم "الكلاب المُحَطِّمون" لجان باتيست ديورانت الذي فاز بجائزة أفضل فيلم أول، كما توّج بطله رافائيل كينار كأفضل ممثل مُكْتَشف. الفيلم يُظهر بيئة شباب البلدات الصغيرة ويتوغل في علاقة صداقة كاشفًا عن تبدلات المشاعر والسلوك تحت تأثير طارئ ما، وهذا عبر علاقة صداقة بين شابين يتحكم فيها أحدهم تمامًا بالآخر، بحيث ما أن يقع الثاني في علاقة حب ويحاول الانفلات من سيطرة صديقة، حتى يبدأ في تحطيمه نفسيًا. وفي هذه الفئة، خرج فيلم "النشوة" لإيريس كالتنباك خالي الوفاض رغم ترشيحه لجائزة الفيلم الأول وترشيح بطلته حفصية حرزي كأفضل ممثلة. والفيلم يبرز ببراعة خروج قابلة منخرطة بشكل كبير في عملها، عن مسارها لتصبح حبيسة دوامة من الأكاذيب ولتنقلب حياتها رأسًا على عقب، إنه انجرار الكائن نحو الهاوية على وعي منه. وجاءت مفاجأة "وحيدة" في فوز "بسيط مثل سيلفان" للكندية مونيا شكري في فئة "أفضل فيلم أجنبي" متقدمة بهذا على أسماء كبرى في عالم السينما مرشحة في هذه الفئة مثل آكي كوريسماكي وماركو بيلوكيو وفيم فندرز وكريستوفر نولان! الفيلم عن تجاذب الأضداد ووقوع مدرسة فلسفة متزوجة من عشر سنوات في حب من النظرة الأولى لعامل يأتي لتجديد منزل الزوجية.
يُذكر أن معظم الأفلام المرشحة للجوائز سبق أن عرضت في مهرجان كان 2023، المصدر الأكبر لأفلام الجوائز وبقية المهرجانات.