}

ميثولوجيا القيادة

موشيك تيمكين 13 مارس 2024
ترجمات ميثولوجيا القيادة
الملك داود يستدعي قائد جيشه يوآب (Morgan Library)

ترجمة: سارة حبيب

 

كيف يمكن للملك داود التوراتي وأمير مكيافيلي أن يساعدانا على فهم النظرة السائدة للقادة بوصفهم فردانيين

 

إذا بحثتَ عن كتب تتحدث عن القادة عبر التاريخ، ستجدُ قالبًا متكرَرًا من الشخصيات تحدق فيك من الأغلفة: ونستون تشرشل. نابليون. أبراهام لينكولن. جنكيز خان. ماو تسي تونغ. سيكونون غالبًا قادة عسكريين أو إمبرياليين، يركبون على أحصنة أو يرتدون زيًا رسميًا أو درعًا، قادة انتصروا في حروب كبيرة أو قادوا أمتهم خلال أزمة ما. تابعْ التصفح وستصادف نوعًا مختلفًا من الأعمال التي تتحدث عن القيادة وتصور شخصيات بارزة من عالم الأعمال التجارية. بدرجات متباينة من الحنكة، يعامَل هؤلاء الرجال (وأحيانًا النساء) كأبطال، كقدوة وكمصادر إلهام، أو، بدلًا من ذلك، كمصدر تهديد. ويصوّر قادة الأعمال مثل بيل غيتس وجيف بيزوس، سواء بشكل سلبي أو إيجابي، على أنهم أفراد أقوياء قوة فريدة؛ قادرون، من خلال قوة إرادة بحتة أو ذكاء متحجر القلب، على التغلب على أية عقبات تضعها الحياة في طريقهم.

إن مثل تلك الكتب هي احتفاءاتٌ بالفردانية. أثرها الرئيسي هو تعزيز منظور فرداني للعالم. وهي رائجة لأنها تتمتع بدرجة كبيرة من الإغراء السياسي: يمكن أن يحب الليبراليون هذا المنظور للقيادة، وكذلك سيفعل المحافظون والليبرتاريون. يستمتع الجميع تقريبًا، على ما يبدو، بقصة نجاح جيدة. لكننا قلّما نقرأ عادة في قصص النجاح تلك عن الأشياء التي شكّلت أساسها إنما لا علاقة لها بأبطال القصة شخصيًا، مثل كونهم ولدوا لأبوين ثريين في بلد مستقر اجتماعيًا واقتصاديًا مع فرص تعليمية وتجارية لا تحصى. إن الرسالة التي تحملها هذه الصناعة المنزلية الأدبية هي أن الإرادة تصنع المعجزات. "القادة منتصرون". لقد بنوا أنفسهم وحققوا العظمة بواسطة سماتهم الاستثنائية. وصنعوا تاريخهم بأنفسهم.

من الصعب تفادي هذه النظرة للقادة والقيادة. إنها في كلّ مكان حولنا. ولا نزال نميل لأن نعلّم، ندرس، ونحتفي بـِ"الرجال العظماء". في كل أرجاء العالم، يبحث الناس عن شخصيات غير عادية يمكن أن تقودهم لتجاوز الأزمات والكوارث، نحو مستقبل مشرق. وربما لهذا السبب يبرز في الحاضر الموحش القادةُ الذين ينتمون إلى ما يُفترَض أنه ماض مجيد. لكنْ، كيف وصلنا إلى هذه النظرة السائدة للقيادة، تلك التي تركّز على الفردانية كلية القدرة؟ للإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نعود إلى العصور القديمة حيث يكمن المفتاح في الميثولوجيا. وعلينا أن نعيد النظر في أقدم الأعمال المكتوبة في التاريخ البشري ونرى أيّ أنواع من الأفكار حول القيادة قد غرست فينا. وعلينا، من ثم، أن نرى كيف تمت مواجهة هذه الأفكار المبكّرة برؤية جديدة ومُفحِمة حول القيادة لا تزال ترافقنا حتى اليوم.

بالنسبة إلى مئات ملايين البشر، ليس الكتاب المقدس مجرد كتاب، أو حتى مجرد كتاب مقدّس، بل هو مصدر لكيفية التفكير بالعالم. إنه يعلّمنا عن الملوك، الآلهة، الحروب، الطبيعة البشرية، وعن أصولنا. وتأثيره يمكن أن يكون مباشرًا أو غير مباشر، وفقًا لما إذا ما كان الشخص متدينًا أو غير متدين. لكنّ أثره العميق على حضارات العالم - وعلينا كأفراد- أمرٌ مفروغ منه. وهذا يعني أنه، حتى لو لم نقرأ أي شيء منه قط، فإننا تشرّبنا الكثير من تعاليمه وقيمه. فكيف شكّلنا الكتاب المقدس؟ وأي دروس عن القيادة من المفترض أن نستمدّ منه؟

لعلّ سفر صموئيل الثاني، من الإصحاح 11 إلى 18، يقدّم لنا القصة الأكثر دراماتيكية ودموية في الكتب المقدسة اليهودية. إنه يبدأ بالملك داود، جالسًا في قصره في القدس، يحدق بتكاسل في امرأة تستحم في منزل مجاور. يأمر داود خدمه بإحضارها إليه. والمرأة هي بَات شيفع، ومتزوجة من حثّي يدعى أوريا، جندي في جيش بني إسرائيل، كان في حينها قد ذهب ليحارب العمونيين في واحدة من الحروب التي ساعدت على ترسيخ داود كملك قوي وثري. من لقائها مع داود، تحبل بات شيفع. ولحرصه على إخفاء فعلته، يرسل داود أوريا ليحظى بزيارة زوجية مع بات شيفع بحيث يُعتقد أنه والد طفل داود. لكن أوريا يفسد خطة داود حين يرفض العودة إلى منزله، وبدلًا من ذلك ينام عند باب الملك. يشرح أوريا لداود أنه لا يستطيع النوم مع زوجته أو الإحساس بلذائذ المنزل بينما رفاقه الجنود غارقون في حمأة المعركة. لكن شرف واستقامة أوريا تدفعان الملك داود لخدعة أكبر: يرسل أوريا مرة أخرى إلى أرض المعركة مع رسالة سرية لقائد جيش داود، يوآب، آمرًا إياه بوضع أوريا على الخطوط الأمامية للمعركة حيث يكون من المرجح أن يُقتَل. وهذا ما يحدث: يموت أوريا بسبب رسالة أُمِر أن يأخذها إلى قائده من دون أن يعرف محتواها. وهناك في القدس، تحزن بات شيفع على زوجها، ثم يجعلها داود في وقت قريب أجددَ زوجاته العديدات.

لعلّ سفر صموئيل الثاني، من الإصحاح 11 إلى 18، يقدّم لنا القصة الأكثر دراماتيكية ودموية في الكتب المقدسة اليهودية


واحدة من الأشياء التي تجعل هذه الحادثة صادمة ومُقلقة هي كون داود شخصية مقدسة عند اليهود، المسيحيين والمسلمين. سمعتُه، بالتالي، هي سمعة قائد عظيم ومثير للإعجاب نشأ من العدم؛ المفضَّل عند الله، الصبي الراعي البسيط الذي قضى الله أن يكون ملكًا؛ الذي صرع المحارب الفلستي جُولْيات بمقلاع وحجر فحسب؛ الذي عزف القيثارة للملك الأول المعذَّب لبني إسرائيل، شاول؛ الذي رأى وجه الله، وتحدث إليه؛ والذي، وفقًا للتراث اليهودي، ستكون سلالته ملك بني إسرائيل في الأبدية، ومن ذريته سيأتي المسيح المخلّص (بالنسبة إلى المسيحيين، كان هذا يسوع المسيح). في سفر صموئيل الثاني، قبل لقائه مع بات شيفع، يرتفع داود إلى سلطة عظيمة ويوسّع مملكته من خلال الانتصار في الحروب، محميًّا ومحبوبًا من قبل الله، ودائمًا بالبرّ.

لكنْ، في سلوكه تجاه بات شيفع وأوريا، داود بشري، لا إلهي؛ بل إنه حتى وضيع وعديم الأخلاق وكسول. إنه العكس تمامًا لما نتوقع أن يكونه قائد عظيم. فهو لم يعد يقود الرجال في أرض المعركة أو يشكّل مثالًا شخصيًا للتواضع والشجاعة كما كان يومًا، بل يجلس في قصر فخم، واحدًا من القطط السمان، يختلس النظر إلى النساء، في حين يحارب الآخرون ويموتون نيابة عنه. لذلك، الكتب المقدسة تعطينا صورة أكثر قتامة لداود ممّ قد يفترض أولئك الذين لا يعرفونه سوى من خلال الصيت - كأيقونة منقّاة بواسطة الميثولوجيا أو المعتقد.

بعد موت أوريا في أرض المعركة بوقت قصير، كنتيجة مباشرة لأوامر داود ليوآب، يزور النبي ناثان داود. يؤدي الأنبياء دورًا رئيسيًا: إنهم يحملون كلمة الله وهم بمثابة سلطات روحية. بالتالي، ناثان هو واحد من القليلين الذين بوسعهم التحدث بحرية وبشكل مباشر إلى داود، من دون خوف، إذ يكون الأمر كما لو أن الله هو من يتكلم. يروي ناثان قصة للملك عن رجل غني ورجل فقير. يملك الرجل الغني عددًا كبيرًا من الأغنام والأبقار، أما الرجل الفقير فكانت له فقط نعجة واحدة صغيرة. "رباها وكبرت معه ومع بنيه جميعًا. تأكل من لقمته وتشرب من كأسه وتنام في حضنه، وكانت له كابنة" (*). يروي ناثان لداود: في أحد الأيام، كان لدى الرجل الغني ضيف، وبدلًا من أخذ أحد خرافه الكثيرة لتحضير وجبة للضيف، أخذ النعجة الوحيدة الصغيرة التي كانت ملكًا للرجل الفقير، قتلها، وقدمها للضيف.

تخبرنا التوراة بعد ذلك أنه، عند سماع هذه القصة، "حمي غضب داود على الرجل جدًا". وقال لناثان: "حيٌّ هو الرب. إنه يقتل الرجلَ الفاعل ذلك! ويردّ النعجة أربعة أضعاف، لأنه فعل هذا الأمر ولأنه لم يشفق". فكان جواب ناثان لداود: "أنت هو الرجل". ويتابع ناثان بصوت الله: "أنا مسحتكَ ملكًا على إسرائيل... لماذا احتقرتَ كلام الرب لتعمل الشر في عينيه؟ قد قتلتَ أوريا الحثّي بالسيف وأخذتَ امرأته لك امرأة... والآن، لذلك، لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد... هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك".

عند سماع كلمات ناثان، ينهار داود شاعرًا بالذنب قائلًا: "قد أخطأتُ إلى الرب". فيطمئنه ناثان أن الله سيبقي على حياته. لكن، من تلك اللحظة فصاعدًا، يمرّ داود وعائلته بسلسلة مذهلة من المآسي. بداية، يمرض طفل بات شيفع، ابن داود، مرضًا شديدًا. يصلي داود وحاشيته ويبكون ويصومون، لكن من دون جدوى: يموت الطفل. (بعد هذا، تحبل بات شيفع مرة أخرى؛ هذه المرة بسليمان الذي يحبه الله كما يتم إخبارنا، والذي في آخر الأمر سيخلف داود في المُلْك).

بعد ذلك، يروي المؤلف التوراتي الحادثةَ المروعة التي تخصّ ثلاثة من أبناء داود الأكبر سنًا، أمنون، تمار وأبْشالوم. يغدو أمنون مهووسًا بأخته غير الشقيقة تمار. يغريها بالذهاب إلى منزله من خلال التظاهر بالمرض، ويطلب منها أن تطعمه، فتفعل، وتعرض أن تطعم أمنون كعك اللحم، لكنه يرفض، وبدلًا من ذلك يطلب منها أن تضطجع معه. وعندما ترعبها الفكرة وتحاول أن تهدّئه بأن تطلب إليه أن يتحدث عن رغبته تلك مع والدهما، يهاجمها أمنون ويغتصبها، رغم توسلها له أن يتوقف؛ ما أن ينتهي، تستحوذ عليه "البغضاء" تجاهها ويطردها من منزله. تذهب تمار المحطمة إلى أخيها أبشالوم الذي بعد سماعه بما حدث، لا يتحدث إلى أخيه غير الشقيق أمنون مرة أخرى؛ يقال لنا إنه "أبغض أمنون من أجل أنه أذلّ تمار أخته".

تمرّ سنتان. ويبدو أن أبشالوم تجاوز الأمر (لا يقال لنا شيء عن تمار). لكن بعد ذلك، ومن خلال الخداع، يتمكّن أبشالوم من جمع كل أبناء الملك- أخوته وأخواته غير الأشقاء- ويأمر خدمه بقتل أمنون. وعندما تصل الأخبار إلى الملك داود، تصل بداية مضلّلة على نحو فظيع بحيث يظن أن أبشالوم قد قتل كل أشقائه الذكور، كلّ أبناء داود. يهرب أبشالوم من القدس ويذهب إلى جشور حيث يبقى لثلاث سنوات. ويوصف داود على أنه حزين أكثر بكثير مما هو غاضب؛ لقد كان "يتوق إلى الخروج إلى أبشالوم، لأنه تعزّى عن أمنون حيث أنه مات".

بقية الحادثة مؤثرة وصادمة. يتصالح أبشالوم وداود بعد ثلاث سنوات من القطيعة؛ لحظة رقيقة بين الأب والابن ألهمت أعمالًا عظيمة لفنانين من رامبرانت إلى مارك شاغال. لكن شياطين أبشالوم تستحوذ عليه مرة أخرى بعد وقت قصير، فيبدأ تمردًا ضد والده الذي يُجبَر على الهرب إلى القدس. وفي نهاية المطاف، بعد حرب دموية بين جيش أبشالوم وأولئك الذين ظلّوا مخلصين لداود، يُقتَل أبشالوم بطريقة شنيعة. لكن داود لا يحتفل بانتصاره واستعادته للعرش؛ بدلًا من ذلك يغدو محطمًا، وتنتهي الحادثة بداود وهو ينوح حزنًا: "أوه يا ابني أبشالوم! يا ابني، يا ابني، أبشالوم! يا ليتني متّ عوضًا عنك- يا أبشالوم، ابني، يا ابني!"، فما الذي من المفترض أن نتعلّمه من هذه الحكاية المرعبة؟

تقدّم التوراة تصورًا لاهوتيًا للقيادة: داود ملك بالحق الإلهي، اختاره الله ومنحه السلطة. لكن قبل ذلك، كان اليهود شعبًا يتجوّل مع "القضاة" الذين قادوهم، مؤقتًا، عبر مشاق وأزمات مختلفة. لم يكن أولئك قادة حقيقيين، بل أقرب إلى مرشدين أو قادة عسكريين في حالة طوارئ. لذلك، بني إسرائيل، كونهم عرضة للهجوم المستمر من قبل أعدائهم، لا سيما الفلستيين (الفلسطينيون القديمون)، ومدركون للإمبراطوريات العظيمة (مثل مصر) التي سيطرت على عالمهم، يطلبون من النبي صموئيل أن يلتمس من الله إعطاءهم ملكًا، مثلما كان لجيرانهم وأعدائهم الأقوياء. فينذر صموئيل الناس إنذارًا صارخًا عم سيكون عليه الأمر إذا حكمهم ملك: سيأخذ أبناءهم ليكونوا جنوده، بناتهم ليكونوا طباخات وعطّارات، يستولي على أراضيهم، يستعبد الناس، ولن يكون لأحد الحق أو القدرة على الوقوف في وجهه. يحذّر صموئيل بني إسرائيل قائلًا: "ستصرخون في ذلك اليوم من وجه ملككم الذي اخترتموه لأنفسكم، فلا يستجيب لكم الرب في ذلك اليوم".

بكلمات أخرى، يخبر الرب "الشعبَ المختار"، أنه ما أن يكون لديكم ملك، لن يكون هنالك مجال للعودة. لكن الشعب الذي لم تردعه نبوءة صموئيل الكئيبة (التي تحققت جدًا)، يختار أن يكون له ملك يحكمه. وما أن يكون له ملك، كما حذرهم صموئيل، لا يعود من المفروض أن يتم تحدي تلك السلطة من قبل الآخرين- لأن الملك هو خيار الله ويحكم باسمه. لهذا السبب كان قتل الملك يُعتبر، حتى مرور شوط كبير من بدايات الحقبة الحديثة، أسوأ جريمة يمكن للمرء ارتكابها؛ لقد كانت جريمة ضد الحاكم وضد الله. في الوقت ذاته، ظهور ملك يتمتع بسلطة دنيوية إنما لا يزال أقل سلطة من الله يمثّل تصورًا للقيادة مقيّدًا بنوع من الأخلاقية، حتى لو كان هذا التعبير غير موجود في حينها. يسيء داود استخدام سلطته، ويلمّح المؤلف التوراتي إلى أن الأحزان والعنف اللذين جاءا بعد ذلك هما عقاب الله جزاء تلك الخطيئة الأصلية. إن نجاحات داود وضروب معاناته كملك كانت بتوجيه من الله.

يروي مكيافيلي عدة معجزات وعقوبات كان الله مسؤولًا عنها وبها وجّه ما حدث في العالم، لكنه يضيف أن: "الله ليس مستعدًا لفعل كل شيء، وهكذا يسلبنا إرادتنا الحرة وحصّتنا من المجد" (الصور: Getty)


قد يعتقد الشخص المؤمن أن التوراة تعطينا كلمة الله الحرفية. لكن، من منظور غير ديني، نعرف أن هذه القصص هي نتاج بشر ذوي نوايا بشرية. فقصة سقوط الملك داود من النعمة هي مثال عن كيف وُجِد أن المجتمعات تمنح السلطة دومًا لأشخاص معينين ليكونوا قادة، ناسبة لهم الفضيلة ومسلّمة لهم السلطة؛ إنما كيف، في الوقت ذاته، تحدّ من سلطة أولئك القادة. فمن ناحية، مفهوم القيادة الموجود في قصة جريمة وعقاب الملك داود يعطي القائد سلطة لا محدودة تقريبًا. ومن ناحية أخرى، يلمّح هذا المفهوم إلى وجود عتبة لا يستطيع حتى هو تخطيها؛ داود، بوصفه الملك، يظل خاضعًا لسلطة الله العليا. وهكذا، حتى إن كان البشر العاديون لا يستطيعون ردع قادتهم، الله يستطيع. والإيمان بالله، عبادة الله، تنفيذ إرادة الله، تعني أن البشر يمكن أن يكونوا واثقين من أن الله سيحميهم من قائد يسيء استخدام سلطته أو سلطتها. لأنه حتى الملك خاضع لذات السلطة الإلهية التي يخضع لها أدنى رعاياه. 

تمثّل التوراة ميثولوجيا تأسيسية؛ أي الأعمال والقصص التي لا تزال تعطي الكثير من البشر إحساسًا بهويتهم، بعالمهم وتاريخهم. لكنها لم تكن يومًا مجرد كلمات. بل شكّلت المبادئ الأساسية لكيفية تنظيم البشر لمجتمعاتهم، بطريقة دينية وملكية في معظمها، ومستمرة لقرون قادمة. من وجهة نظر القيادة السياسية، ثمة القليل من الفرق في الواقع بين الملك داود والملوك الذين حكموا حتى مرور شوط طويل من الحقبة الحديثة. وخلال الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية، التطور التكنولوجي، البيروقراطيات المتطورة والتغييرات الثقافية، ظلّت الفكرة الأساسية التي حملتها التوراة مستمرة؛ الملك (أو أحيانًا الملكة، حين لا يكون ثمة وريث ذكر للملك) يحكم من خلال سلطة إلهية.

لكن في العصر الحديث، حتى مع استمرار النظم الملكية، كان ثمة تحول رئيسي في الكثير من الدول والمجتمعات، حين بدأ الناس بالتفكير بالقيادة على أنها شيء مستقل عن الله. ليس الأمر ببساطة أن المجتمعات والناس باتوا أقل تدينًا؛ بل أن السلطة الإلهية على المجتمع، وحيوات الناس، تناقصت. ومع حدوث ذلك، حتى وإن كانت معظم الدول والمجتمعات كانت لا تزال تُحكَم من قبل ملوك مطلقين، احتاج الناس إلى تفسيرات ومسوغات جديدة للقيادة. ولم يعد التضرع إلى الله كافيًا. في هذا الصدد، في تاريخ كيفية تفكير البشر بالقيادة، ربما لم يكن ثمة من هو أكثر تأثيرًا من نيكولا مكيافيلي، المشهور بكونه مؤلف كتاب "الأمير" الذي كتبه عام 1513 لكنه لم ينشر إلا عام 1532.

مثل التوراة، "الأمير" هو عمل تأسيسي: سواء كنّا قرأناه أم لا، نحن نعيش في عالم ساعد كتاب "الأمير" على تشكيله، بشكل مباشر أو غير مباشر، نحو الأفضل أو الأسوأ. تقريبًا بعد ألفي سنة من كتابة قصة داود، بات شيفع، وأوريا التوراتية، كان "الأمير" لا يزال جزءًا من عالم يُعدّ وجود الله فيه حقيقيًا للجميع تقريبًا في أوروبا (ومعظم الأماكن الأخرى) بقدر وجود الشمس والقمر. أقرّ مكيافيلي أن الله لعب دورًا ما في شؤون البشر. ففي عدة مواضع من "الأمير"، يبدو أن مكيافيلي يعتبر من المفروغ منه فكرة أن الحكّام علوا وهبطوا جزئيًا على الأقل بسبب إرادة الله، وبسبب "القدر" (الذي يقرنه مع "الله"). لكنه زعم أيضًا أن للبشر "إرادة حرة" وأنه في حين أن "القدر هو الفيصل لنصف أفعالنا"، فإنه "لا يزال يترك لنا أن نوجّه النصف الثاني، أو ربما أقلّ بقليل". في مكان آخر، يروي مكيافيلي عدة معجزات وعقوبات كان الله مسؤولًا عنها، وبها وجّه ما حدث في العالم، لكنه يضيف أن: "الله ليس مستعدًا لفعل كل شيء، وهكذا يسلبنا إرادتنا الحرة وحصّتنا من المجد".

لكن، رغم قبول مكيافيلي على مضض بأن الله لا يزال مهمًا، أميره يوجد في عالم عقلي جديد مختلف عن العالم الموجود في سفر صموئيل الثاني، عالمٌ باتت القيادة فيه غير مرتبطة بالخارق للطبيعة، أو بالأخلاقية، بل بالغايات. حكاية النبي ناثان الرمزية عن الرجل الغني والرجل الفقير وخرافهما كانت لتتغير عند مكيافيلي: ليس على الأمير أن يتجنب أخذ نعجة الرجل الفقير الوحيدة لأن ذلك فعل غير أخلاقي سيغضب الله؛ عليه بالأحرى أن يتجنبه لأن مثل ذلك الفعل الخسيس سيجعله مكروهًا وكرهُ الناس سيعوق طموحاته. من ناحية أخرى، ولأنه "من الأفضل أن يكون موضع خشية على أن يكون محبوبًا"، لا بأس، بل حتى من المرغوب فيه، أن يعرف أولئك الخاضعون لحكم الأمير أنه قادر تمامًا على أخذ خرافهم (إذا جاز التعبير) إذا لم ينفذوا أوامره؛ وأنه يتّبع هذا العقاب عند الضرورة. هذه طريقة جديدة تمامًا بالتفكير بالقيادة لأنها تقدم دليلًا مرشدًا للقائد الطموح، دليلٌ غير مبني على ما هو صائب أخلاقيًا بل على كيفية عمل السياسة في العالم الحقيقي. مكيافيلي، بذلك المعنى، يساعد على مواكبتنا من العالم القديم إلى الجديد، حيث يبدو أي شيء ممكنًا، وحيث لا يصنع القائد مصيره فحسب، بل يصنع التاريخ كذلك.

لكن، حتى في عالم مكيافيلي الجديد الشجاع، ذلك الذي يفترض أن بوسع القادة فيه تشكيل أقدارهم، ليس كل شيء ممكنًا. فلا يزال على القادة التعامل مع أشياء قوية فعلًا ومناهضة لهم: البنى. النظم. المؤسسات. القادة الآخرين. الخصوم. الأعداء. في العالم المكيافيلي، ربما يكون التحدي الأكثر ترويعًا الذي يواجه الحكام هو الأشخاص الآخرون الذين يدركون أن سلطة الحاكم ليست مكفولة بسلطة سماوية أو محمية بها، وبالتالي يمكن أن يُعزل الحاكم، من دون التعرض لغضب الله. وهكذا، القراءة عن أمير مكيافيلي بعد القراءة عن الملك داود في التوراة تقودنا إلى السؤال الكبير الكامن في صلب مسألة القيادة: هل يصنع القائد التاريخ أو أن التاريخ هو من يصنع القائد؟ وإذا ما أردنا فهم القيادة، وكيفية عملها في العالم، هل علينا أن ننظر في المقام الأول إلى الطرق التي غيّر بها القائدُ العالمَ؟ أو أن علينا أن نركّز على الطرق التي صنع بها العالمُ القائدَ، ثم قيّده؟

بعض الناس - لنسمهم المكيافيليين- يركّزون على الأفراد. بعضهم يركزون أكثر على القيود. على سبيل المثال، في مقالته "الثامن عشر من برومير لوي نابليون" (1852) يقول كارل ماركس:

"إن البشر يصنعون تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه على هواهم؛ لا يصنعونه في ظل ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظروف موجودة سلفًا، متعينة وموروثة من الماضي".

بالتالي، النقاش الأكثر إثارة للاهتمام في مسألة القيادة، هو بين أولئك (من أمثال مكيافيلي) الذين يعتقدون أن القادة يصنعون (ويتغلبون على) التاريخ، وأولئك (من أمثال ماركس، وأمثال مؤلف قصة الملك داود) الذين يعتقدون أن التاريخ يصنع (ويقيّد) القادة.

لعلّ النموذج المكيافيلي ينطبق على أفضل وجه على القادة الذين يملكون سلطة عليا، أو الذين يملكون الكثير من المزايا المتأصلة. إذا كنتَ، لنقل، قائدًا سياسيًا في ديمقراطية مفعّلة وكنتَ منتخبًا ديمقراطيًا، فأنت تمتلك شرعية واسعة. إذا كنت ديكتاتورًا مدعومًا بمؤسسات بلدك العسكرية وغيرها من المؤسسات، أو كنت المدير التنفيذي لشركة كبرى في بلد ذي اقتصاد سياسي مصمّم ليخدم مصالح الشركات الكبرى ومديريها التنفيذيين، سيكون لديك الكثير من الخيارات المتعلقة بكيف "تقود". يصحّ هذا على وجه الخصوص إذا كنتَ، وفق نصيحة مكيافيلي، تعتقد أنك متحرّر من قيود الأخلاقية، أو رقابة الله التوبيخية.

ثمة خط مباشر ممتد من مكيافيلي للتصور الفرداني للقيادة نراه في كل مكان اليوم. لكن، كيف لهذه النظرة للقادة وقدرتهم على صياغة الواقع أن تنطبق على القادة الذين يعارضون السلطة؟ أحيانًا يكون القادة رؤساءَ دول أو مدراء مؤسسات صناعية، لكن في أحيان أخرى يكون لديهم سلطة أقلّ بكثير، ويحاولون تقييد القادة الأعلى منهم في التسلسل الهرمي. ربما يكونون مثلًا الواشين الذين يفضحون الفساد أو الأفعال المشينة داخل الشركات القوية أو المؤسسات، أو يكونون أعضاء جماعة سرية تحارب للإطاحة بديكتاتور وحشي.

ربما بعض القادة عبر التاريخ ممن منحونا أكثر البصيرة والإلهام لم تكن لديهم قوة أو سلطة رسمية. وقد لا يكونون حتى مشهورين. ربما لم ينجحوا، وربما لم ينتصروا. لكن أولئك القادة غالبًا يتركون انطباعًا دائمًا لدينا، وأكبرَ الأثر. ربما يكون السبب في هذا أن مفهوم القيادة الذي نجده في سفر صموئيل الثاني، مع تشديده على الأخلاقية بوصفها قيدًا حتى على أكثر الحكّام قوة، لا يزال يلقى رواجًا في عالمنا اليوم؛ وربما أن الرسالة التي تخصّ القيادة في الكتاب المقدس العبراني لم تسقط تمامًا بفعل وجهة النظر المكيافيلية. على الأقل، ليس بعد.

 

(*) ترجمة مقاطع التوراة الواردة في المقالة هي من الترجمات المعتمدة الشائعة.


موشيك تيمكين: أستاذ زائر في مجال القيادة والتاريخ في كلية شوارزمان في جامعة تسينغ هوا، بكين، وعضو هيئة تدريس في مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية في جامعة هارفارد. من كتبه "قضية ساكو وفانزيتي: أميركا تحت المحاكمة" (2011). أحدث كتبه
"محاربون، متمردون، وقديسون: فن القيادة من مكيافيلي إلى مالكوم إكس" (2023)، وهذه المقالة مبنية عليه.

 

رابط النص الأصلي:

https://aeon.co/essays/who-are-the-leaders-in-our-heads-and-how-did-they-get-there

 

 

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
13 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.