}

ابنة ليليث

أناتول فرانس 14 مارس 2024
ترجمات ابنة ليليث
"ليليث" (دانتي غابرييل روزيتي)

ترجمة: هيڤا نبي


كنت قد غادرت باريس في الليلة السابقة وقضيت ليلة طويلة وساكنة محاطًا بالثلوج في ركنٍ من العربة. انتظرت ست ساعات مُنهِكة في "إكس" ولم أجد إلا عربة زراعية في فترة ما بعد الظهر لتقلّني إلى "أرتيغ". السهول التي كانت تعلو وتهبط بالتعاقب على جانبي الطريق، والتي رأيتها فيما مضى مشرقة تحت أشعة الشمس الساطعة، رأيتها الآن مغطاة بطبقة كثيفة من الثلوج وفوقها تلتوي أقدام الكروم السوداء. كان مرشدي يدفع حصانه العجوز ببطء وكنا نتقدم مسربلين بصمتٍ بلا قرار تمزِّقه أحيانًا صرخة حزينة لأحد الطيور. كنت أتمتم في قلبي صلاتي وأنا حزين حتى الموت: "يا إلهي، إله الرحمة، أنقذني من اليأس ولا تدعني أرتكب، بعد كل تلك الخطايا، الخطيئة الوحيدة التي لا تغفرها". حينئذ، رأيت الشمس، حمراء وبلا أشعة، تنحدر كقربان دام على الأفق، وتذكرني بالتضحية الإلهية في مشهد صلب المسيح، فشعرت بالأمل يتسلّل إلى روحي. استمرت عجلات العربة بالدوران وأصدرت صوت تفتيت الثلج لبعض الوقت. وأخيرًا، أشار السائق بطرف سوطه إلى برج "أرتيغ" الذي كان ينتصب كظل في الضباب الرقيق المحمر.

- "وإذًا؟" قال لي الرجل "هل ستنزل في بيت الكاهن؟ هل تعرفه؟"

-  "أعرفه منذ طفولتي. كان معلمي عندما كنت طالبًا"

-  "وهل هو عالمٌ في الكتب؟"

-  "يا صديقي، الكاهن سافراك عالمٌ بقدر ما هو رجلٌ فاضل"

-  "هذا ما يُقال. ولكن تُقال أشياء أخرى أيضًا"

-  "فماذا يُقال يا صديقي؟"

-  "يتفوّه الناس بما يرغبون، وأنا أدعهم يفعلون ذلك"

-  "وماذا بعد؟"

-  "هناك مَن يعتقد أن الكاهن سافراك عرّاف، وأنه يلقي التعويذات"

-  "ما هذا الجنون!"

-  "أنا لا أقول شيئًا يا سيدي. ولكن إذا لم يكن السيد سافراك عرّافًا ويقوم بالسحر، فلما عساه يقرأ الكتب إذًا؟".

توقفت العربة أمام بيت الكاهن. تركت ذلك الأحمق وتبعت خادمة الكاهن التي قادتني إلى حيث سيدها في غرفة أُعِدت فيها طاولة الطعام مسبقًا. رأيت السيد سافراك، لقد تغير كثيرًا منذ آخر مرة رأيته فيها قبل ثلاث سنوات. جسده الضخم قد انحنى وتجاوز هزاله الحد. كانت له عينان حادتان تلتمعان على وجهه الهزيل وينحدر أنفه، الذي بدا أنه قد كبر، على شفاهه الناحلة. سقطت بين ذراعيه وصرخت باكيًا: "أبي، أبي! أتيت إليك لأنني ارتكبت خطيئة. أبي، يا معلمي القديم، آه أيها المعلم الذي يذهل عقلي بعلمه العميق والغامض والذي يطمئن روحي بقلبه الأمومي، أنقذ طفلك من حافة الهاوية. آه يا صديقي الوحيد، أنقذني؛ أنرني، يا ضوئي الوحيد!".

قبّلني وابتسم لي بطيبته، تلك التي أظهرها لي مرات عديدة في شبابي الأول، وتراجع خطوة كأنما ليراني بشكل أفضل:

- "إيه، مرحبًا![1]"، قال وهو يسلم عليّ على الطريقة المتعارف عليها في بلاده، لأن السيد سافراك وُلد على ضفاف نهر الجارون، وسط تلك الكروم ذائعة الصيت التي تبدو رمزًا لروحه الكريمة العطرة.

بعد أن درّس الفلسفة بمهارة في بوردو وبواتييه وباريس، طلب أن يعمل ككاهن في البلدة التي وُلد فيها وكان راغبًا في أن يبقى فيها حتى مماته. ومنذ ست سنوات هو كاهن آرتيغ، يمارس في هذه القرية النائية تقوى متواضعة وعلمًا رفيعًا.

- "إيه، مرحبًا! يا طفلي" كان يكرر "لقد كتبت لي رسالة لتعلمني بوصولك، وقد أثرت فيّ رسالتك كثيرًا. صحيحٌ إذًا أنك لم تنس معلمك القديم؟"

أردت أن أرتمي على قدميه، وأنا لا أزال أتلعثم. "أنقذني! أنقذني!" لكنه منعني بحركة آمرة ولطيفة في الوقت نفسه.

-  "آري، قال لي، ستخبرني غدًا بما لديك. الآن، تدفأ. بعدها سنتناول العشاء، فلا بد أنك تشعر ببرد وجوع كبيرين".

جلبت الخادمة قصعة الحساء ووضعتها على الطاولة وقد تصاعد منها عمود من بخار طيّب الرائحة. كانت امرأة عجوز تخفي شعرها تحت حجاب أسود، وامتزج على وجهها المجعد جمال الطراز مع قبح الشيخوخة بشكل غريب. كنت مرتبكًا بشدة، ومع ذلك، فقد أدخل هذا المنزل المقدس وفرحة النار المتقدة والمفرش الأبيض والنبيذ المصبوب والأطباق التي يتصاعد منها البخار السلام تدريجيًا إلى روحي.

أثناء تناول الطعام، نسيت تقريبًا أنني جئت إلى منزل الكاهن لأستبدل قحط تأنيب الضمير فيّ بنداوة التوبة الخصبة. ذكرني السيد سافراك بالأوقات البعيدة التي جمعتنا تحت سقف الكلية حيث كان يدرّس الفلسفة.

- "آري" قال لي "كنت أفضل تلاميذي. كان ذكاؤك يتجاوز باستمرار تفكير معلمك. لهذا تعلقت بك فورًا. أحبُّ الجرأة في المسيحي. ليس على الإيمان أن يكون خجولًا في الوقت الذي يُظهر فيه الكفر جرأة لا يمكن كبحها. ليس لدى الكنيسة الآن سوى الخراف، في حين أنها تحتاج إلى الأسود. من سيعيد لنا الآباء والمعلمين الذين كانت لهم رؤية تلمّ بجميع العلوم؟ الحقيقة مثل الشمس؛ تحتاج إلى عين عُقاب لتأمّلِها".

-  "آه! سيد سافراك، أنت من كان يلقي بنظرته الجريئة التي لا يُعجِزها شيء على كل المسائل. أتذكر أن آراءك كانت تخيف أحيانًا حتى زملائك الذين كانت تملؤهم تقوى حياتك بالإعجاب. لم تكن تخشى الجديد. على سبيل المثال، كنتَ تميل إلى قبول وجود عوالم متعددة مأهولة".

أشرقت عيناه.

-  "ما الذي سيقوله الجبناء عندما يقرؤون كتابي؟ آري، تحت هذه السماء الجميلة، في هذه البلاد التي خلقها الله بحب خاص، تأمّلت وعملت. تعلم أنني أجيد العبرية والعربية والفارسية والعديد من لهجات الهند. كما تعلم أنني جلبت معي مكتبة غنية بالمخطوطات القديمة. لقد انغمست بعمق في معرفة لغات وتقاليد الشرق القديم. لم يكن هذا الجهد العظيم، الذي تمكنت منه بمعونة الله، بلا نتائج. فقد انهيت للتو كتابي "الأصول" الذي يعيد ويدعم ذاك التأويل المقدس الذي اعتقد العلم الجاحد أنه وشيك الانهيار. آري، أراد الله برحمته أن يتوافق العلم والإيمان أخيرًا. ولتحقيق مثل هذا التقارب، انطلقت من فكرة أن الكتاب المقدس، الذي أُلهِم بوحي روح القدس، لا يقول إلا الحقيقة، ولكنه لا يقول كل ما هو حقيقي. ولم عساه سيخبرنا عن كل ما هو حقيقي، وغايته الوحيدة هي اطلاعنا على ما هو ضروري لخلاصنا الأبدي؟ خارج هذا الهدف العظيم، ليس هناك شيء ذو قيمة بالنسبة له. خطته بسيطة بقدر ما هي شاملة، فهو يتضمّن قصة سقوط الإنسان وافتداءه، فهو بمثابة تاريخ إلهي للإنسان، وهو شامل ومحدود. لم يقبل الكتاب المقدس أن يضم في ثناياه شيئًا بغاية إشباع فضول العامة. لكن ليس على العلم الفاسد أن ينتصر لفترة أطول على صمت الله، فقد حان الوقت لنقول: "لا، الكتاب المقدس لم يكذب، إنه لم يكشف كل شيء فحسب". هذه هي الحقيقة التي أُعلنها. بمساعدة علم الجيولوجيا وعلم آثار ما قبل التاريخ ونظريات نشأة الكون الشرقية والمعالم الحثية والسومرية والتقاليد الكلدانية والبابلية والأساطير القديمة المحفوظة في التلمود، أكّدتُ وجود سابقين لآدم، والذين لم يتطرق إليهم الكاتب الملهم لسفر التكوين لسبب وحيد وهو أن وجودهم لا يهم أبدًا في قضية خلاص أبناء آدم. بل أكثر من هذا، أظهر لي الفحص الدقيق للفصول الأولى من سفر التكوين وجود خَلقين متعاقبين، مفصولَين عن بعضهما البعض بفترات زمنية طويلة، حيث الثاني لا يعدو أكثر من تكييف -إن جاز التعبير- لجزء من الأرض بغاية تلبية احتياجات آدم وذريته".

توقف للحظة واستأنف بصوت هادئ، وبمهابة دينية حقّة:

-  "أنا، مارتيال سافراك، كاهن متواضع، عالم في اللاهوت، مطيع مثل طفل لسلطة كنيستنا الأم المقدسة، أؤكد تأكيدًا مطلقًا - بموجب تحفظ صريح بسلطة قداسة البابا والمجمع الديني - أن آدم، الذي خُلِق على صورة الله، كانت له امرأتان، وحواء هي الثانية".

انتشلتني هذه الكلمات الفريدة تدريجيًا خارج نفسي وتملّكني اهتمام غريب. ولذلك، شعرت ببعض الخيبة عندما قال لي السيد سافراك وهو يُرخي ذراعيه على الطاولة:

-  "لنكتفي بهذا القدر فيما يخصّ هذا الموضوع. قد تقرأ كتابي يومًا ما فتفقهه أكثر. كان عليّ رفع هذا العمل- وهو واجب صارم- لسيادة المطران وطلب الموافقة من سيادته. المخطوطة في الأبرشية الآن وأنا في انتظار الرد بين لحظة وأخرى وأعتقد أنه سيكون موافقًا. يا طفلي العزيز، تذوّق هذه الكمأة من غاباتنا وهذا النبيذ من عناقيدنا وقل لي إن لم تكن هذه البلاد الأرض الموعودة الثانية، حيث الأولى لم تكن سوى صورة ونبوءة".

انطلاقًا من تلك اللحظة، تحولت المحادثة العائلية إلى حديث حول ذكرياتنا المشتركة.

-  "نعم، يا طفلي" قال لي السيد سافراك "كنتَ تلميذي المفضل. يسمح الله بالتفضيل عندما يكون مبنيًا على حُكمٍ عادل. لقد حكمت على الفور أن فيك شيئًا من الرجل ومن المسيحي. ليس لأنه لم تظهر فيك عيوبٌ كبيرة. كنتَ متقلبًا، مترددًا، سريع الاضطراب. لكن كان ثمة بعض الوهج الخفي يختمر في روحك. أحببتك لقلقك الكبير كما أحببتُ تلميذًا آخر لي، ولكن لصفات مناقضة لصفاتك. أحببتُ بول ديرفي لثبات لا يتزعزع في روحه وقلبه".

عند ذكر اسمه، احمررت وشحبت، وصعب عليّ حبس صرختي، وعندما أردت الرد، بدا الكلام عليّ مستحيلًا. لم يبد السيد سافراك أنه لاحظ اضطرابي.

-  "إذا أسعفتني ذاكرتي، كان بول صديقك المقرب" وأضاف "ولا تزالان على تواصل عميق، أليس كذلك؟ أعلم أنه انتقل إلى مسار الدبلوماسية حيث يتوقع له مستقبل زاهر. أتمنى أن يتم استدعاؤه في أوقات أفضل للخدمة من قبل المبعوثية. لديك صديق وفي ومتفان".

-  "أبي" أجبت ببعض الجهد "سأحدثك غدًا عن بول ديرفي وعن شخص آخر".

ضغط السيد سافراك على يدي بقوة. افترقنا وانسحبتُ إلى الغرفة التي أعدّها لي. في سريري المعطَّر بالخزامى، حلمت أنني لا زلت طفلًا، كنت جاثيًا على ركبتي في المصلى، أتأمل النساء البيضاوات المشرقات اللاتي كن يملأن المنصة في كنيسة الكلية، حينما فجأة تحدث صوت – خارجٌ من سحابة - فوق رأسي وقال: "آري، أنت تعتقد أنك تحبهن في الله، ولكنك في الحقيقة تحب الله فيهن".

عندما استيقظت في الصباح التالي، وجدت السيد سافراك واقفًا إلى جانب سريري.

- "آري" قال لي "تعال واسمع القداس الذي سأقيمه على نيتك. بعد القربان المقدس، سأكون مستعدًا لسماع ما لديك لتخبرني به".

 كنيسة أرتيغ الصغيرة هي مقام مبني على الطراز الروماني الذي كان ما يزال مزدهرًا في أكيتانيا في القرن الثاني عشر. تم ترميمها قبل عشرين عامًا ووضع لها برجٌ لم يكن ضمن المخطط الأصلي. ولأنها فقيرة، فقد احتفظت بعريها البسيط. شاركتُ، قدر استطاعتي، في صلوات كاهن القدّاس، ثم عدت معه إلى بيته. هناك، تناولنا وجبة خفيفة من الخبز والحليب، ثم دخلنا غرفة السيد سافراك.

بعد أن قرّب كرسيًا من المدفأة التي عُلّقت فوقها صورة المسيح المصلوب، دعاني للجلوس. ثم أشار لي بالتحدث وقد جلس إلى جواري. في الخارج، كانت الثلوج تتساقط. بدأت على النحو التالي:

- "يا أبي، مضت عشر سنوات منذ خروجي من بين يديك إلى العالم. حافظت فيها على إيماني، لكن للأسف، ليس على عفتي. ليس عليَّ أن أقصّ حياتي عليك؛ فأنت تعرفها، أنت دليلي الروحي، والقائد الوحيد لضميري. علاوة على ذلك، فإني أتعجّل الوصول إلى الحدث الذي هز حياتي. قررت عائلتي في العام الماضي أن تزوّجني، ووافقت بكل سرور. الفتاة التي قُدِّرت لي كانت تتمتع بجميع المزايا التي يبحث عنها الآباء عادة. بالإضافة إلى ذلك، كانت جميلة. كنت معجبًا بها، بحيث أني ما كنت سأتزوج زواج توافق، بل زواجًا قائمًا على الانجذاب. تمت الموافقة على طلبي، وتمت خطبتنا. وما أن بدت السعادة والاستقرار في حياتي مضمونتين، حتى تلقيت رسالة من بول ديرفي، العائد من القسطنطينية، يعلن فيها وصوله إلى باريس مبديًا رغبةً كبيرة في رؤيتي. انطلقت إليه وأخبرته بزواجي فهنأني بحرارة".

- "يا أخي العزيز" قال لي "أنا سعيد جدًا لأجلك".

 أخبرته إني أعتمد عليه في أن يكون شاهدي في الزواج، فقبل بسرور. كان موعد زواجي المحدد هو 15 مايو/ أيار، ولم يكن عليه العودة إلى وظيفته سوى في الأيام الأولى ليونيو.

- "يبدو هذا رائعًا" قلت له "وماذا عنك؟ ... "

- "آه! أنا!" أجاب بابتسامة عبّرت عن الفرح والحزن في آن واحد، "أنا، يا له من تغيير!... أنا مجنون... امرأة... آري، أنا سعيد جدًا أو حزين جدًا!"

أي اسم يمكن أن نطلقه على السعادة التي نشتريها بفعلٍ سيء؟ لقد خنت، لقد أحزنت صديقًا رائعًا... لقد اختطفت هناك في القسطنطينية، الـ... قاطعني السيد سافراك:

- " يا بني، تحاشى في سردك ذكر أخطاء الآخرين ولا تسمي أحدًا".  وعدته بالامتثال لأمره وأكملت على النحو التالي:

- "ما إن أنهى بول حديثه حتى دخلت امرأة الغرفة. كانت هي بكل وضوح: ترتدي رداءً طويلًا أزرق، وبدت كأنها في بيتها. سأصف لك بكلمة واحدة الانطباع المرعب الذي تركته فيَّ. لم تكن تبدو طبيعية. أدرك جيدًا حجم غموض هذه الكلمة وعجزها عن التعبير عن فكرتي. ولكن ربما ستصبح أكثر وضوحًا في سياق سردي لاحقًا. في تعبير عينيها الذهبيتين اللتين تلقيان بين الحين والآخر حزمًا من الشرارات؛ في منحنى شفتيها الملغز؛ في نسيج جلدها المظلم والمشرق في الوقت نفسه؛ في لعبة الخطوط المتصادمة والمنسجمة لجسدها؛ في خفة خطواتها الهوائية؛ حتى في ذراعيها العاريتين اللتين بدتا كأن أجنحة غير مرئية مثبتة بهما؛ وأخيرًا في كيانها المتّقد والمائع، شعرت بشيء غريب عن الطبيعة البشرية. لم أعرف شيئًا أقل أو أسمى من هذا المخلوق الذي خلقه الله، بحسنه المريب، ليكون في صحبتنا على هذه الأرض المنفى. منذ تلك اللحظة التي رأيتها فيها، تدفق شعور في روحي وملأه؛ شعرتُ بالتقزز اللامتناهي من كل ما سوى هذه المرأة".

عندما رآها تدخل، قطّب بول بخفة حاجبيه، ولكنه تراجع على الفور وحاول أن يبتسم.

-  "ليلى، أعرّفك بصديقي الأعز".

ردت ليلى:

-  "أعرف السيد آري جيدًا".

من المفترض أن تبدو هذه الكلمات غريبة، حيث إننا لم نلتقِ بالتأكيد أبدًا. لكن اللكنة التي قيلت بها كانت أكثر غرابة. إذا كان الكريستال يفكر، فلا بدّ أنه كان سيتحدث بالطريقة ذاتها.

-  "صديقي آري" أضاف بول "سيتزوج بعد ستة أسابيع".

عند سماع تلك الكلمات، نظرت ليلى إلي ورأيتُ بوضوح أن عينيها الذهبيتين تقولان لا.

خرجت من عنده شديد الاضطراب، ولم يُظهر صديقي أدنى رغبة في إبقائي. طوال ذلك اليوم، تجولت كيفما اتفق في الشوارع، فارغ القلب وبائس، إلى أن وجدت نفسي مساءً في جادّة أمام محل زهور، تذكرت خطيبتي ودخلت لآخذ لها غصنًا من البنفسج الأبيض. وما أن صارت الزهرة بين أصابعي، حتى نزعتها يد صغيرة ورأيت ليلى وهي تذهب ضاحكة. كانت ترتدي فستانًا رماديًا قصيرًا وسترة رمادية أيضًا وقبعة صغيرة مستديرة. عليّ القول إن هذا الزي الباريسي المتواضع لم يكن ليتماشى مع جمال هذا المخلوق الخرافي وبدا كثوب تنكري عليها. ومع ذلك، ما إن رأيتها حتى شعرت أني أحبها حبًا لا يمكن إخماده. أردت اللحاق بها، لكنها تسللت بعيدًا وسط العابرين والسيارات.

منذ تلك اللحظة، لم أعد أعيش. ذهبت مرات عدة إلى بول دون أن أتمكن من رؤية ليلى. استقبلني بود، ولكنه لم يتحدث عنها. لم يكن لدينا شيء لنتحدث عنه وغادرته بحزن. وأخيرًا ذات يوم، قال لي الخادم: "لقد خرج السيد" ثم أضاف: "هل يرغب سيدي في التحدث إلى السيدة؟" أجبت بنعم. آه، يا أبي، هذه الكلمة، هذه الكلمة الصغيرة، أي دموع دموية تكفي للتكفير عنها؟ دخلت. وجدتها مستلقية نصف استلقاءة على الكنبة، ترتدي ثوبًا أصفر كالذهب، وكانت قد ردّت قدميها من تحته. رأيتها... ولكن لا، لم أعد أرى. جفّ حلقي فجأة، ولم أستطع التحدث. رائحة المر والأعشاب العطرية التي انبعثت منها أسكرتني بالرغبة، كما لو أن جميع العطور الشرقية السحرية قد دخلت في آن واحد أنفي المرتعش. لا، بالتأكيد، لم تكن تلك امرأة طبيعية، فلا شيء من الإنسانية يتجلى فيها، فوجهها لا يعبر عن أي شعور جيد أو سيئ، عدا عن شهوة حسّية وسماوية في نفس الوقت. بلا شك، كانت ترى اضطرابي، لأنها سألتني بصوتها الأنقى من صوت الجداول في الغابات:

- "ما بك؟"

 ارتميت على قدميها وصرخت وسط دموعي:

- "أحبك بجنونّ"، عندها فتحت ذراعيها؛ ثم وجّهت لي نظرة من عينيها الشهوانيتين البريئتين:

- "لماذا لم تقل ذلك من قبل، يا صديقي؟"

لحظات لا توصف! ضغطتُ ليلى بين ذراعي، وبدا لي أننا نُحمَل كلانا إلى السماء الشاسعة، ونملؤها. صرت نظير الله وشعرت أنني أمتلك داخلي كل جمال العالم وكل تناغمات الطبيعة، النجوم والزهور، والغابات التي تغني، والأنهار والبحار العميقة. جمعتُ اللامتناهي في قبلة واحدة...

عند هذه الكلمات، انتهز السيد سافراك، الذي كان يستمع إليّ منذ بعض الوقت بنفاد صبر واضح، الفرصة وقام واقفًا مستندًا إلى الموقد، رفعًا رداءه الكهنوتي حتى يدفئ ركبتيه، وقال لي بقسوة تصل حدّ الاحتقار:

- "أنت سبّاب بائس، وعوض مقت جرائمك، فإنك تعترف بها بفخر ومتعة. لن أستمع إليك بعد الآن".

بهذه الكلمات، تلاشيت في دموعي وطلبت منه العفو. ولمعرفته بصدق تواضعي، سمح لي بمواصلة اعترافاتي، حتى لو لم تكن مستساغة له.

أكملت قصتي على النحو التالي، مع العزم على اختصارها قدر الإمكان:

- يا أبي، تركتُ ليلى مكابدًا الندم، ولكنها أتتني في اليوم التالي، وبدأت مذ ذاك حياة حطمتني بين الملذات والعذابات. كنت غيورًا من بول الذي خدعته، وكنت أتعذّب بقسوة. لا أعتقد أن هناك شرًّا أكثر إذلالًا من الغيرة، ولا ما يمكنه أن يملأ الروح بصور شديدة البغض كما تفعل الغيرة. لم تكن ليلى لتتعطف ولو كذبًا للتخفيف من ألمي. علاوة على ذلك، بدا سلوكها غريبًا للغاية. أنا أدرك مع مَن أتحدث، وسأحرص على عدم إهانة آذان أكثر الكهنة تبجيلًا. سأقول فقط أن ليلى بدت غريبة عن الحب الذي منحتني بنفسها فرصة تذوّقه. نثرت في وجودي جميع سموم النشوة. لم أستطع الاستغناء عنها، وكنت أرتعد من إمكانية فقدانها. كانت ليلى تفتقر تمامًا لما نسميه بالضمير الأخلاقي. لا ينبغي الاعتقاد أنها كانت شريرة أو قاسية. على العكس، كانت لطيفة ومليئة بالرحمة. ليس ذلك فحسب، بل كانت ذكية أيضًا، لكن ذكاءها ليس من نفس طبيعة ذكائنا. كانت تتكلم قليلًا، وترفض الإجابة عن أي سؤال حول ماضيها. لم تعرف شيئًا مما نعرف، وبالمقابل، عرفتْ الكثير من الأشياء التي نجهلها. فبسبب نشأتها في الشرق، كانت تعرف جميع أنواع الأساطير الهندية والفارسية التي روتها بصوت رتيب وبنعومة لا حدّ لها. لو سمعتها وهي تتحدث عن الفجر الساحر للعالم، لحسبتها عاصرت شباب الكون. لاحظتُ هذا ذات يوم وأخبرتها عنه، فأجابت مبتسمة:

- "أنا مسنّة، هذا صحيح".

ما زال السيد سافراك واقفًا أمام الموقد، لكنه انحنى نحوي منذ بعض الوقت باهتمام شديد:

- "استمر" قال لي.

- "سألت ليلى عن دينها في العديد من المرات يا أبي. كانت تُجيب بأن لا دين لها وأنها لا تحتاج إلى ذلك؛ أن والدتها وشقيقاتها كنّ بنات الله، ولكنهن مع ذلك غير مرتبطات به بأي نوع من العبادات. كانت تحمل حول عنقها ميدالية في داخلها بعض التراب الأحمر، قائلة إنها جمعته بتقوى حبًا بوالدتها".

بالكاد أتممتُ تلك الكلمات حتى وثب السيد سافراك شاحبًا ومرتجفًا، وضغط على ذراعي وصرخ في أذني:

- "كانت تقول الحقيقة! أنا أعرف، أعرف الآن مَن هي تلك المخلوقة. آري، حدسك لم يخدعك. لم تكن تلك امرأة. أكمل، أكمل، أرجوك!"

- أبت، لقد اقتربت من نهايتها. ويحي! لأجل حب ليلى، قطعت خطوبة رسمية، خنت أعز صديق لي، وأسأت إلى الله. عندما عَلِم بول بخيانة ليلى، جُنّ من الحزن. هدد بقتلها، لكنها ردت عليه بلطف:

- "حاول يا صديقي؛ أتمنى أن أموت، ولكنني لا أستطيع"

لمدة ستة أشهر، منحت نفسها لي؛ ثم في أحد الصباحات، أخبرتني أنها ستعود إلى فارس وأنها لن تراني مجددًا أبدًا. بكيت، وتألمت، وصرخت:

- "أنت لم تحبيني أبدًا!" فأجابتني بلطف:

- "لا، يا صديقي. كم من النساء أحببنك أكثر، رغم هذا لم يمنحنك ما منحته لك! ما زلتَ مدينًا لي بالامتنان. وداعًا".

بقيت ليومين أتقلب بين الغضب والخمول. ثم، وأنا أفكر في خلاص نفسي، ركضت إليك، يا أبي. ها أنا ذا، فطهّر قلبي وربّه وقوّه! لا زلت أحبها!

توقفتُ عن الكلام. بقي السيد سافراك يفكر، محوطًا جبينه بيديه. ثم قطع الصمت:

- "يا بني، إن هذا ما يؤكد اكتشافاتي الكبرى. وهذا ما سيشوش المتشككين المعاصرين. اسمعني. نحن نعيش اليوم العجائب، مثل أبناء البشر الأوائل. اسمع، اسمع! آدم كانت لديه، كما ذكرت لك سابقًا، امرأة أولى لم يتطرق إليها الكتاب المقدس، ولكن التلمود أعلمنا بوجودها. كان اسمها ليليث. صُنعت، ليس من ضلعه، بل من التراب الأحمر الذي صُنع هو نفسه منه، ولم تكن لحمًا من لحمه. انفصلت عنه طواعيةً. كان لا يزال يعيش في براءة عندما تركته وذهبت إلى تلك المناطق التي استقر فيها الفرس قرونًا طويلة بعد ذلك والتي كانت مأهولة حينها بالمخلوقات السابقة لآدم وكانت أكثر ذكاءً وجمالًا من البشر. لذا فإنها لم تكن شريكة في خطيئة أبينا الأول ولم تتلطخ بالخطيئة الأصلية. لذا نجت من اللعنة التي أُطلقت على حواء ونسلها. فهي خالية من الألم والموت؛ ليس لديها روح لتخلّصها، ولذا فهي غير قادرة على التقدير أو اللاتقدير. مهما فعلت، فإنها لا تفعل خيرًا ولا شرًا. بناتها، اللاتي ولدتهن من زواج غامض، خالدات مثلها، ومثلها هنّ حرّات في أفعالهن وأفكارهن، لأنه لا يمكنهن أن يربحن أو يخسرن أمام الله. لكن، يا بني، أعترف مقتديًا بعلامات واضحة، أن المخلوقة التي جعلتك تسقط، هذه الليلى، كانت ابنة ليليث. صلّ، وسأستمع إليك غدًا في الاعتراف".

ظل مستغرقًا في التفكير للحظة، ثم أخرج من جيبه ورقة وقال:

- "هذه الليلة، بعد أن تمنيت لك مساءً سعيدًا، تلقّيت من موزع البريد، الذي تأخر بسبب الثلوج، رسالة مؤلمة. كتب لي القس الأول أن كتابي قد أحزن سموّه. وقال أيضًا إن هذا الكتاب مليء بمقترحات طائشة وآراء سبق أن دانها العلماء. لا يمكن لسيادته أن يوافق على خرافات رديئة كهذه. هذا ما كتبه لي. ولكن سأروي مغامرتك لسيادته. ستثبت له أن ليليث موجودة وأنني لا أحلم".

 طلبت من السيد سافراك أن يستمع إليّ لحظة أخرى:

- "يا أبت، تركتْ لي ليلى وهي تغادر ورقة شجر كُتب عليها بأحرفٍ لم أتمكن من قراءتها. ها هي ذي نوع من التميمة..."

 أخذ السيد سافراك الرقاقة التي مددتها إليه، وفحصها بعناية، ثم:

- "ها هي" قال "مكتوبة بلغة فارسية من العصور الجميلة ويمكن ترجمتها بسهولة كالتالي:

صلاة ليلى، ابنة ليليث

يا إلهي، أعِد لي الموت حتى أستمتع بالحياة. يا إلهي، امنحني ندمًا حتى أجد السرور. يا إلهي، اجعلني نظيرة لبنات حواء!".


[1] المعنى الحقيقي للكلمة هو "وداعًا". لكن في جنوب فرنسا تستخدم الكلمة للسلام فتعني "مرحبًا" وتعني كذلك "وداعًا"...

أناتول فرانس (1844- 1924): شاعر وروائي وقاص فرنسي من أعلام أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. حاز على جائزة نوبل للأدب عام 1921. وهذه القصة تعدّ من أبرز أعماله.

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
14 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.