}

المعارك على البدايات: عن دور العنف بتأسيس المجتمعات السياسية

ديفيد بولانسكي 11 يونيو 2024
ترجمات المعارك على البدايات: عن دور العنف بتأسيس المجتمعات السياسية
(Getty)

ترجمة: دارين حوماني

 

تساعدنا الأفكار العميقة لنيكولو مكيافيللي حول الأصول العنيفة للمجتمعات السياسية في فهم العالم اليوم.

 

كتب فريدريك نيتشه ذات مرة: "يميل البشر إلى إبعاد أسئلة الأصول والبدايات عن أذهانهم". ومع الاعتذار لنيتشه، فإن "أسئلة الأصول والبدايات" هي في الواقع أكثر إثارة للجدالات الحامية في النقاش.
لقد أعادت الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة فتح النقاشات القديمة حول ظروف تأسيس "إسرائيل" وأصول أزمة اللاجئين الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، في خطاب ألقاه عشية غزو روسيا لأوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، أصرّ فلاديمير بوتين على أنه "منذ الأزل" كانت روسيا تضم أوكرانيا، وهو وضع توقّف بإنشاء الاتحاد السوفياتي. وفي الولايات المتحدة، أثار مشروع "1619" الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" جدلًا كبيرًا بإصراره على أن الأصول الحقيقية للولايات المتحدة ليست في دستورها الرسمي، بل في إدخال العبودية إلى أميركا الشمالية.

بعبارة أخرى، العديد من النزاعات السياسية البارزة اليوم تعيدنا إلى بدايات الأمور، وتُنتج وتُخاض جزئيًا من خلال ادّعاءات قوية حول الأصول. ومع ذلك، نادرًا ما يساعد القيام بذلك في حلّها. وبسبب انتشار هذه النقاشات، قد لا ندرك مدى غرابة انشغالنا بأصول الفكر السياسي. فالبدايات، في نهاية المطاف، بعيدة كل البعد عن القضايا المطروحة بحيث تكون مصدر نفوذ في الجدل الجاري أو مصدر جدل بحدّ ذاتها. لماذا يجب أن يكون الماضي البعيد أكثر أهمية من الماضي القريب أو الحاضر؟ لفهم أفضل لماذا ما زلنا نعاني من مشكلة الأصول، وربما للتفكير بوضوح أكثر حولها في المقام الأول، قد يساعدنا اللجوء إلى مصدر مألوف، ولكن غير متوقع: مكيافيللي.

نيكولو مكيافيللي معروف بنصائحه السياسية الواقعية – هو من كتب "من الأفضل أن تُخشى من أن تُحب" – لكنه كان أيضًا منشغلًا بدور العنف في تأسيس (وإعادة تأسيس) المجتمعات السياسية. قلّة من المفكرين تعاملوا بعمق مع موضوع الأصول السياسية مثل مكيافيللي، مما دفع الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير إلى وصف مكيافيللي بـ "نظريّ البدايات". بالنسبة لمكيافيللي، البدايات تهم لسببين رئيسيين: أولًا، تكشف عن حقائق أساسية حول عدم الثبات في الحياة السياسية والتي تحجبها عادة السياسة اليومية؛ وثانيًا، ظروفها العنيفة قابلة، في المبدأ، للتكرار دائمًا وفي كل مكان.

إن وجهة نظر مكيافيللي مفيدة لنا أيضًا بسبب الطريقة التي يقف بها خارج تقاليدنا الليبرالية. كل مجتمع في التاريخ لديه قصص عن أصوله، ولكن سؤال البدايات يطرح تحدّيات خاصة لأولئك الذين يعيشون في أنواع من الدول الحديثة التي بدأت تتشكّل في القرن السابع عشر. لأن شرعيّتها تعتمد على طبيعتها التشاورية والتمثيلية. تقريبًا جميع الدول القائمة - حتى غير الديمقراطية - لديها ادّعاء بتمثيل شعب معيّن. الدولة التمثيلية هي إحدى الطرق التي نضمن بها لأنفسنا أن السلطة السياسية ليست مجرد هيمنة، وقواعدها وعملياتها تهدف إلى حماية حقوق الناس الذين يؤسّسونها. وبالتالي، فإننا نحدّد أصول المجتمع السياسي مع تلك اللحظة التأسيسية. يصرّ الفيلسوف الليبرالي العظيم جون لوك، على سبيل المثال، في "المقالة الثانية عن الحكومة المدنية" (1689) على أن "بداية المجتمع السياسي تعتمد على موافقة الأفراد للانضمام إلى مجتمع واحد وتكوينه؛ وعندما يتّحدون، قد ينشئون أي شكل من أشكال الدولة التي يرونها مناسبة لهم".

ومع ذلك، ماذا عن حق أي شعب معيّن في إنشاء أنظمة سياسية في المقام الأول؟ وإذا ادّعى البعض تأسيس نظام سياسي جديد، فمن الذي سيقرّر أيّ الأفراد يندرج ضمن "الشعب" وأيّهم لا يشمله؟ ومن يقرّر ما هي الأراضي التي تحقّ لهم لإنشاء الدولة؟ وكيف حدث ذلك في المقام الأول؟

هذه هي الأسئلة التي تعجز الليبرالية الجديدة في الغالب عن مواجهتها. يعترف جون رولز في كتابه "نظرية في العدالة" (1971) (ربما العمل الأكثر تأثيرًا في النظرية السياسية في الخمسين سنة الماضية) بأن اعتبارات العدالة لديه تفترض ببساطة وجود مجتمع وطني مستقرّ ومكتفٍ بذاته. في وقت سابق، واجه توماس هوبز ولاحقًا إيمانويل كانط هذا السؤال بشكل أكثر صراحة، لكن كليهما حذّر من الاستفسار عن أصول مجتمعاتنا، لأنه، كما كتب هوبز في عام 1651، "نادرًا ما توجد دولة ما في العالم، يمكن تبرير بداياتها بضمير حي"...

ليس الأمر أن التقليد السياسي الليبرالي (وهو التقليد لمعظم دول العالم المتقدّمة) غير مدرك ببساطة للأصول السياسية؛ لكنه يتعامل معها بطريقة مقصودة ومجرّدة تمامًا عن الحقائق التاريخية الفوضوية وراء تشكيل الدول والأمم. الكلمات الافتتاحية لمقال "الفيدرالي" الذي كتبه ألكسندر هاميلتون دفاعًا عن الدستور الأميركي الناشئ، طرحت السؤال قبل قرنين ونصف القرن:

ما إذا كانت المجتمعات البشرية قادرة حقًا على إنشاء دولة جيدة من خلال التفكير والاختيار، أم أنها محكومة إلى الأبد بالاعتماد في دساتيرها السياسية على الحوادث وعلى القوة.

بعبارة أخرى، سعى مؤسّسو الولايات المتحدة الأميركية بشكل واعٍ إلى إنشاء مجتمع جديد تمامًا قائم على مبادئ عادلة بدلًا من الأحداث العرضية التي أدّت إلى نشوء الدول السابقة، مما يوفّر نموذجًا للدساتير الليبرالية المستقبلية. لكن الحوادث والقوة هما ببساطة ركيزتا التاريخ. وبما أن هذه هي الحال، فإنهما أيضًا جزء من فلسفة مكيافيللي الأساسية.

عملان من الأعمال السياسية الرئيسية لمكيافيللي، اللذان نشرا بعد وفاته 1531 -1532 بعنوان "نقاشات حول ليفي" (وهو معالجته العظيمة للجمهورية الرومانية القديمة) و"تاريخ فلورنسا"، يُفتتحان بمناقشات حول أصول السكان أنفسهم. هذه الأسئلة المتعلقة بأصول السكان تظل ملحة حتى اليوم، كما يتّضح من شيوع مفهوم "الأصالة" - أي المحاولة لتحديد شعب أصلي له الحق في الأرض يسبق جميع الآخرين - والذي تم تطبيقه على أماكن متباينة مثل كندا، فلسطين، فنلندا وتايوان. يمكن ملاحظة دافع مشابه خلف بعض الادّعاءات القومية اليمينية، مثل إصرار جان ماري لوبان على أن الأمة الفرنسية الحقيقية تعود إلى تتويج كلوفيس الأول في القرن الخامس. نريد نقطة أصل واضحة تكون لها مرجعية شرعية للمطالبة بالأرض، لكن مكيافيللي ينكر علينا هذه النقطة الثابتة.

في بداية "نقاشات حول ليفي"، يدّعي مكيافيللي أن جميع المدن تُبنى إما من قبل السكان الأصليين أو الغرباء، لكنه يقدّم أمثلة - مثل روما وأثينا والبندقية - التي تكوّنت من شعوب إما تشتّتوا أو أُجبروا على الفرار من مكانهم الأصلي إلى مكان جديد بواسطة قوة غازية - أي من قبل غرباء. في كثير من الحالات، كان الغزاة الذين أجبروا السكان الأصليين على الفرار هم أنفسهم فارّين من ظروف حرب. الهجرات، سواء كانت قسرية أو طوعية، من الصعب جدًا منعها. ليس الأمر، على سبيل المثال، أن تحسين الظروف المعيشية بشكل عام قد يضمن الاستقرار الديموغرافي. اليأس ليس سببًا وحيدًا من أسباب الهجرات. في حالة الإفرنج والألمان، لم يكن اليأس، بل الازدهار، الذي أدّى إلى الاكتظاظ السكاني، وأجبروا على العثور على أراضٍ جديدة للعيش فيها. كان هذا أصل السكان الذين دمّروا الإمبراطورية الرومانية، وفقًا لمكيافيللي، مما أدّى إلى إعادة إنتاج الدورة التي أنشأت روما في المقام الأول من خلال غزو إيطاليا وإنشاء ممالك العصور الوسطى المبكرة.

وبذلك، يوضح مكيافيللي أن جميع السكان الأصليين كانوا في يوم من الأيام غرباء (إما أن احتمال وجود شعب أصلي مستبعد أو أنهم قديمون للغاية بحيث لا يمكن الحديث عنهم)، وأيضًا يمكن الافتراض أن وضعهم هو مجرّد نتيجة نهائية لغزوات سابقة (وربما منسية).

من خلال مناقشة تأسيس روما، يوضح مكيافيللي مدى اصطناع الأصول "الشرعية". يفنّد أولًا أن روما كان لديها مؤسّس أصلي رومولوس ومؤسّس "أجنبي"، سلفه إينياس، الذي استقر في لاتيم بعد هروبه من تدمير طروادة. لكن هذا يقوّض على الفور أي مطالبة لأسلاف رومولوس بالأرض، بقدر ما هي مستمدّة من غزو إينياس الطروادي للّاتينيين (الموثق في "الإنيادة" لفيرجيل).

علاوة على ذلك، يُجبر رومولوس على تكرار أفعال سلفه، لأنه، وفقًا لمكيافيللي، تأسيس مجتمع جديد دائمًا ما يكون حدثًا عنيفًا، ينطوي على جريمة كبيرة. يوفّر رومولوس المثال النموذجي بقتل أخيه ريموس وحليفه تيتوس تاتيوس. من بين هذه الأفعال الفظيعة، يقدّم مكيافيللي ملاحظة لافتة مفادها "بينما يدينه الفعل، يبرّره الأثر". بمعنى آخر، الفعل الاستثنائي لتأسيس مدينة جديدة (وفي النهاية إمبراطورية) يعفي - ولأجل ذلك، يتطلب - الجرائم المرتكبة في هذه العملية. رومولوس هو واحد من بين عدد من المؤسّسين شبه الأسطوريين الذين يمجّدهم مكيافيللي كأمثلة "الأكثر تميّزا" في كتاب "الأمير"، جنبًا إلى جنب مع ثيسيوس، سايروس (كورش)، وموسى. جميعهم حقّقوا تأسيس مجتمعاتهم الجديدة من خلال العنف. حتى بالنسبة لموسى، فإن الفعل الأكثر حسمًا ليس الهروب من مصر، أو تلقّي الوصايا في سيناء، بل ذبح 3000 يهودي (وهو عدد يرفعه مكيافيللي إلى "رجال لا حصر لهم") بسبب عبادة عجل ذهبي أثناء غيابه.


الحقائق الأسطورية التي تقدّمها المجتمعات عن أصولها من الممكن أن تظلّ حقائق، حتى لو بقيت البدايات الأولى محاطة بالأساطير. يقول مكيافيللي إنه يمكنه تقديم "أمثلة لا حصر لها" - وهو مصطلح مفضّل لديه - لدور العنف في تشكيل وإعادة تشكيل المجتمعات السياسية.

يضيف مكيافيللي أن مثال هيرو من سرقوسة (Syracuse) قد يكون أيضًا نموذجًا مفيدًا. هذه الخطوة، مع ذلك، تسحب النقاش كله جانبًا: أولًا، لم يؤسّس هيرو أي شيء، إذ كانت مدينة سرقوسة قائمة بالفعل عندما تولى السلطة؛ وثانيًا، على الرغم من أن مكيافيللي لن يخبرنا بذلك هنا، إلا أن هيرو يُعرف بشكل أكبر كطاغية، وهو يعني شخصًا يكتسب السلطة الملكية بدلًا من أن يرثها. وصف مكيافيللي لكيفية حصول هيرو على السلطة هو وصف مسلٍّ ومقتضب: "ألغى هيرو الجيش القديم ونظّم جيشًا جديدًا؛ ترك صداقاته القديمة وصنع صداقات جديدة. ولمّا كان لديه صداقات وجنود ينتمون له، فقد أمكنه إنشاء أي بناء فوق هذا الأساس. لذا، بذل جهدًا كبيرًا للحصول على السلطة، ولكنه بذل جهدًا قليلًا للحفاظ عليها".

يكشف مكيافيللي لاحقًا أن هيرو وصل إلى السلطة من خلال مؤامرة- باستخدام المرتزقة- للسيطرة على سرقوسة ثم تقطيعهم بوحشية إلى أشلاء واتخذ السلطة السياسية لنفسه. بمعنى آخر، إذا أردنا أن نفهم كيف تبدو أصول الأمور حقًا، يجب علينا الرجوع إلى مثل هذه التواريخ المضطربة.

في مطلع كتاب "الأمير" يشير مكيافيللي إلى الحكّام المؤسّسين: "في العصور القديمة حيث الاستمرارية للسيادة، يتم القضاء على الذكريات وأسباب الابتكارات...". بمعنى آخر، معظم الحكام - من يسمّون "الأمراء الوراثيون" - هم المستفيدون من بعض الفظائع السابقة التي قام بها أسلافهم الغزاة الذين تولّوا العرش بدايةً. قد لا يكون هناك أدلة على دماء، لكن إذا عدنا بالزمن إلى الوراء، بما يكفي، سنجد رومولوس أو هيرو.

لاحقًا في كتابه يلاحظ مكيافيللي أنه من السهل نسبيًا على الحاكم أن يحتفظ بالمقاطعات ذات العادات المماثلة التي كان قد سيطر عليها لفترة طويلة. ولكنه يقدّم، على سبيل المثال، حكم فرنسا على بورغندي، بريتاني، جاسكوني، ونورماندي؛ تم استعمار المدينتين الأوليتين خلال حياة مكيافيللي، المدينة الثالثة في عام 1453، أي قبل أقل من عقدين من ولادة مكيافيللي. إن السهولة التي احتفظ فيها التاج الفرنسي بهذه الممتلكات - فضلًا عن حقيقة أن هذه المناطق تُعدّ الآن ببساطة على أنها مناطق فرنسية - ليس بسبب روابطها المستمرة، ولكن بسبب النجاح الذي تم تحقيقه، في البداية، في تهدئة شعوبها.

في كل مرة يتم تحديد حالة دولة مستقرة ومنظّمة، يمكن تتبّعها إلى شكل من أشكال الغزو، سواء كان الغزو قديمًا أو حديثًا. قصة المجتمعات السياسية تشبه كثيرًا تعريف وودي آلن للكوميديا: "المأساة + الوقت". كما تشير أمثلة مكيافيللي الفرنسية، قد لا يكون مقدار الوقت المطلوب كبيرًا إذا كان فعل الغزو ناجحًا.

حتى أن مكيافيللي يؤكد أن العنف المرتبط بتأسيس المجتمعات لا يمكن تركه وراءنا تمامًا. يشيد مكيافيللي بكليومينس من إسبارطة لذبحه القضاة الذين وقفوا في طريقه لتجديد قوانين مؤسس المدينة، ليكورغوس - في فعل يُكسبه مقارنة بـ"رومولوس" نفسه. كما يقدّر مكيافيللي حكّام فلورنسا في القرن الخامس عشر لبصيرتهم عندما قالوا إنه كان من الضروري زرع "ذلك الرعب وذلك الخوف في نفوس الرجال" من العنف الذي يصاحب تأسيس المجتمعات "كل خمس سنوات".

كثيرٌ من قرّاء مكيافيللي يجدون صعوبة في التوفيق بين روايته عن "الأصول" وتجربتنا الفعلية في الحياة السياسية. قد يفكرون أنه من الجيد أن تعرف أنك قد تضطر إلى قتل أخيك لتأسيس مدينة عظيمة، لكن ماذا لو كنت تريد فقط العثور على النصاب القانوني لاقتراحك بشأن إنارة الشوارع الحضرية؟

أو، كيف تساعدنا تعاليم مكيافيللي حول الأصول السياسية في فهم العالم الحالي؟ فمن ناحية، يقدّم مكيافيللي نظرة ثاقبة حول أشكال العنف المتكررة التي تستمر (وستستمر) في الاندلاع على طول الحدود غير المستقرة وفي الأماكن التي لا تزال الدول في طور التشكيل.

قائمة الفظائع المحيطة بإنشاء دول القرن العشرين وحدها تشمل (من بين أمور أخرى): الطرد الإبادي للأرمن في عام 1915، طرد الألمان العرقيين من الدول المجاورة في شرق أوروبا بعد الحرب، الطرد المتبادل للهندوس والمسلمين من باكستان والهند (على التوالي) خلال التقسيم في عام 1947، طرد العرب من فلسطين وجيرانها بين عامي 1947 و1949*، خروج الفرنسيين من الجزائر عام 1962، نزوح الأرمن والآذريين من ناغورنو كاراباخ في الثمانينيات والتسعينيات؛ والتطهير العرقي المتبادل خلال حروب البلقان في التسعينيات، وأكثر من ذلك. ومع ذلك، ما زلنا نرى هذه كاستثناءات عن قاعدة النظام السياسي.

إن سلسلة الأحداث التي نربطها بتشكيل دولنا الحديثة (والتي توفّر مصدرًا للكثير من الجدل المستمر) ليست في الحقيقة، سوى أحدث سلسلة من الروابط في سلسلة أطول بكثير ليس لها بداية معروفة.

ولا تزال الحوادث والقوة تكمن تحت سطح سياساتنا اليومية، مهدّدين بإعادة الظهور. هذا ليس بالأمر السهل قبوله. حتى في الأوقات الأكثر هدوءًا، لا تزال ضمائرنا تؤرقنا، مثل بولينغبروك في مسرحية شكسبير بعد أن يخلع ريتشارد الثاني. علاوة على ذلك، نريد أن نرى أن أصولنا ليست عادلة فحسب، بل آمنة أيضًا، ورؤيتها بشكل مختلف هو الاعتراف بأن ظروفنا لا تزال في جوهرها في حالة من التغيّر المستمر. إذا كانت كل الأشياء في حالة حركة، فماذا سيحدث لنا؟

يبدو أن شيئًا من هذا القلق يكمن وراء كيفية حديثنا عن أصول الفكر السياسي اليوم. ومع التفكير بمكيافيللي، يمكننا أن نرى كيف أن التقليد الليبرالي للفكر السياسي الذي يعود لعدة مئات من السنين لم يجهّزنا جيدًا للتفكير بشكل أخلاقي حول أصولنا التاريخية. عند مواجهة هذا الموضوع، تميل النتيجة إلى أن تكون إما هروبًا إلى القومية الدفاعية أو الإدانة الأخلاقية.

في حين أن عمل مكيافيللي يمكن قراءته بسهولة على أنه تشاؤم، فإن جرعة جيدة من التشاؤم هي مجرّد واقعية. وموقف الواقعية حول الحياة السياسية يمكن أن يحصّننا من التبجّح الأخلاقي ومن اليأس، ممّا يسمح لنا بالاعتراف بصراحة بالجرائم التي ساهمت في تشكيل مجتمعاتنا السياسية دون أن يتطلّب منا أن نصبح محتقرين لأوطاننا.

على نحو مماثل، سيكون من السهل قراءة مكيافيللي باعتباره يفنّد الحكايات التنويرية التي تحيط بتأسيس المجتمعات الجديدة، من الأساطير في اليونان القديمة إلى احتفالات يوم الاستقلال الحديثة. "هذا ما حدث حقًا"، يبدو أنه يقول ذلك. ولكن من المهم أن ندرك أن روايته عن الأصول السياسية لا تهدف للإدانة، بل للتثقيف.

لأن عمله يحمل أيضًا تحذيرًا: الظروف الخارجة عن القانون وغير المؤكدة التي تحيط بأصولنا تعكس احتمالات دائمة في الحياة السياسية. هذه هي اللحظات الحاسمة التي يتم فيها الكشف عن عدم كفاية قوانيننا الحالية، لأنها وُضعت في ظل ظروف مختلفة عن تلك التي قد نواجهها حاليًا، مما يتطلّب أفعالًا جريئة من "إعادة البناء" تُنفّذ بروح مماثلة لتلك التي أُنشئت بها القوانين في الأصل.

قد لا نكون ملزمين باتباع خطى شخصيات مستبدّة مثل كليومينس من إسبارطة أو ميديتشي من فلورنسا في العصور الوسطى، وجميعهم استخدموا العنف الرهيب في أعمال "إعادة البناء". ولكن يمكننا أن نتعلم من مثل هذه الأمثلة عن المخاطر الدراماتيكية التي تنطوي عليها المحافظة على نظامنا السياسي - كما قال الفيلسوف كلود لوفور في عمله الرائع عام 2012 عن مكيافيللي: "هذه هي حقيقة العودة إلى الأصل؛ ليست عودة إلى الماضي، بل، في الحاضر، استجابة مماثلة لتلك التي قُدّمت في الماضي".

هذا جزء من القيمة التي نكتسبها من قراءة مكيافيللي: مواجهة الآثار المقلقة لأصولنا قد تساعدنا على إعداد أنفسنا بشكل أفضل للتقلّبات المستمرة في الحياة السياسية. ففي نهاية المطاف، قد يكون نظامنا الراسخ هو الشيء الوحيد الذي يقف في طريق أصول جديدة لشخص آخر.

 

ديفيد بولانسكي: زميل باحث في "معهد السلام والدبلوماسية". يعيش في تورونتو، كندا.

*يذكر الكاتب "طرد اليهود والعرب من إسرائيل بشكل متبادل بين عامي 1947 و1949".  

 

رابط المقال الأصلي:

https://aeon.co/essays/machiavelli-on-the-problem-of-our-impure-beginnings

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.