}

باختين وياكبسون: شخصيتان في تعارضٍ مع عملهما (3/3)

تزفيتان تودوروف 4 يونيو 2024
ترجمات باختين وياكبسون: شخصيتان في تعارضٍ مع عملهما (3/3)
ياكبسون (يمين) وباختين


ترجمة إدريس الخضراوي

مهما كانت سطوة الظروف التاريخية، فإنَّ المرء يختار مصيره الفردي. لكن هل هذا يعني أن المسار الشخصي والعمل تصدر عنهما الرسالة ذاتها، كما يبدو أن نص باختين يوصي بذلك، وكما يريد المعجبون بياكبسون أن يفكروا أيضًا؟ هل العمل هو دائمًا انعكاس للحياة، وهل الحياة هي بالضرورة إدراك لمحتوى العمل؟ أم أنه من الأفضل ألا يلعب أحدهما دورًا تكميليًا فيما يتعلق بالآخر: دور التعويض، ودور التباين الأساس؟ لا شك في أن المسألة تأخذ معناها الكامل في حالتي باختين وياكبسون لأنهما كانا منظِّرين للغة، أي لنشاط يمارسه الجميع، إلا أن أحدهما بلغت نظريته الذروة في دراسة الحوار، أما الآخر ففي دراسة المونولوج.

في قصة قصيرة بعنوان: الحياة الخاصة (1992)، يجمع هنري جيمس بين شخصيتين من رجال الأدب وجهًا لوجه. أحدهما، ويدعى كلير فاودري، يعدّ كاتبًا جيدًا، وتكشف أعماله عوالم مجهولة لكنه في المجتمع رفيق ضحل وسطحي، لدرجة أن المرء يتساءل عما إذا كان هو الشخص نفسه الذي يكتب ويعيش! أما الآخر، اللورد ميليفوند، فهو محاور عميق ورائع، لكن بلاغته غير منتجة، علاوة على ذلك، من المستحيل أن يلفت وجوده الانتباه عندما يكون بمفرده، فهو موجود فقط بصحبة الجميع. كلير فاودري مضاعف، واللورد ميليفوند ليس حتى شخصًا واحدًا، لكن الحياة الخاصّة بأي منهما لا توضح العمل، مثلما لا يعكس العمل الحياة. فماذا عن شخصيتينا؟

في بداية حياتهما اختبر كلّ من باختين وياكبسون "الحلقات" Les cercles (العلمية) بشكل مكثف. اجتمعت الحلقة الأولى التي كان باختين عضوًا فيها في سانت بطرسبورغ عام 1911-1912، وكان يترأسها أخوه. هذه الحلقة كانت تسمى أومفالوس، Omphalos  أي السرّة، وكانت تضم حفنة من الشباب الذين يقترحون الإفصاح عن السخافة بأشدِّ النبرات جدية، ودعمها بالحجج العلمية أو الفلسفية. لاحقًا، كما رأينا، تشكلت حلقة حول باختين في نيفيل، ثم في فيتبسيك، ونفس الجو نجده في لينينغراد، حيث يشارك باختين في عدة "صالونات"، بينما يعيش حياة فكرية مكثفة مع شركائه ميدفيديف، فولوشينوف، بومبيانسكي، فاجينونف، إلخ. ومع ذلك، في بقية حياته، يبدو لنا باختين أكثر عزلة.

في أفضل حالاته، يعني الحوار، ضمنًا، أن المتحاورين يتمتعان بوضع مماثل وقابل للتحويل؛ أنا أتكلم وأنت تسمع، ولكن بعد ذلك أستمع بدوري بينما أنت تتحدث. لكن لا يبدو أن الشروط متوفرة أبدًا ليتمكن باختين من ممارسة هذا الحوار، ليس على أية حال بعد الانفصال عن أخيه وكاغان في عام (1920): بل الأصح أن باختين هو الذي يتكلَّم، والآخرون يستمعون. إن تفوقه الفلسفي ساحق للغاية بحيث لا يمكن إجراء أي حوار حقيقي: فهو يقود أصدقاءه ولكنهم لا يقودونه أبدًا، وإذا ألهمهم بالكتب أو المقالات أو مجرد التأملات، فهو نفسه لا يستمد منهم الإلهام إلا بشكل ضعيف. وحتى عندما يخاطب مجموعة أصغر من المستمعين، فإن باختين يتحدث كما لو كان في مدرّج الندوات، ولا يهتم بهوية طلابه[1]. والأكثر من ذلك، عندما يقوم بتدريس آلاف الطلاب في سارانسك، أو عندما يخاطب عمال المصانع في مؤتمرات عمومية: فهو لا يشارك في أي حوار حقيقي.

لا شكَّ في أن الكتب التي يعدُّ باختين مصدرًا إلهاميًا لها، والتي عمل صديقاه ميديفديف وفولوسينوف على نشرها، لا توضح فكرة الحوار، بل فكرة الجدلية (قليلة الأهمية لدى باختين)، بلحظاتها الثلاث: الأطروحة، والأطروحة المضادّة، والتركيب. كل هذه الكتب مبنية على النموذج النظري ذاته: يمكن للمرء أن يقابل (بدلًا من خلق حوار) بين مدرستين فكريتين مختلفتين تمامًا، ويظهر أوجه القصور في كليهما. يقيم كتاب الفرويدية (1927) تقابلًا بين النزعة المادية على غرار بافلوف ومثالية الفرويديين، ويعيد كتاب "المنهج الشكلي في الدراسات الأدبية (1982) علم الاجتماع والشكلانية إلى الخلف، أما "الماركسية وفلسفة اللغة* (1929) فيفصل في الصراع بين الذاتيين (فوسلر) والوضعيين (سوسير). لكن، في كلّ مرة، يكون خطاب المؤلف على مستوى أعلى فيما يتعلق بهذه المناقشة (بل قتال): بطلاه مخطئان، المؤلف يمتلك الحقيقة ولا يوجد أي شخص مثله على المستوى نفسه. كما أن الكتابات التي نشرها باختين باسمه لا تتميز أيضا بجو حواري خاص، بالمعنى القوي للكلمة؛ فبعد تفسير أعمال أسلافه على أنها خطوات كثيرة تؤدي إلى موقفه، يعرض باختين بقدر كبير من اليقين تفسيره لعمل دوستويفسكي ورابليه.

إن اتساق آراء باختين المعلنة بين عامي 1925 و1975 هو مؤشر آخر على أن آراء الآخرين لا تؤثر بشكل كبير على تفكيره. حتى في عمله، فهو لا يهتم كثيرًا بالتأثيرات التي يمكن أن تحدثها أفكاره، وبالتالي بنشرها؛ الشيء الرئيس هو بينه وبين الصفحة الفارغة التي أمامه. وللسبب ذاته تظلّ معظم مسوداته غير مكتملة: لماذا نطور أفكارًا إذا لم يكن من الممكن جعلها موضوع تواصل؟ إن صياغتها البسيطة كافية. وعندما علم أن أطروحته عن رابليه لن تُنشر، هز كتفيه ببساطة؛ ليس هو من سيقاتل ضدَّ محرِّري (منقّحي) موسكو، هذه الركائز الأرثوذكسية. يتولى كوزينوف نشر هذه الأعمال ضد رغبة مؤلفها؛ وهو أيضًا المسؤول عن فك رموز ونشر مخطوطات باختين المختلفة التي يتخلى عنها بشكل سلبي فور كتابتها.

تشكلت حلقة حول باختين في نيفيل، ثم في فيتبسيك، ونفس الجو نجده في لينينغراد... ومع ذلك، في بقية حياته، يبدو لنا باختين أكثر عزلة (إحدى الحلقات في ليننيغراد، ويظهر باختين إلى أسفل يسار الصورة، 1924-1926)


لا يبحث باختين عن الحوار في الحياة اليومية أكثر من البحث عنه في كتبه. لقد شكل هو وزوجته إيلينا Elena زوجين متحدين ومنسجمين للغاية (تزوجا عام 1921، وتوفيت عام 1971، ولم ينفصلا إلا أثناء مكوثه في السجن؛ وعندما دخل أحدهما المستشفى، انتقل الآخر للعيش بجانبه)؛ ولكن بفعل هذا الانسجام والتماسك بينهما، يستطيع باختين الاستغناء عن الآخرين. لا يرد على الهاتف، ولا يحبُّ كتابة الرسائل؛ وفي علاقاته الشخصية يبقى دائمًا، بحسب الشهادات، شكليًا وبعيدًا. وبعد عام 1961، وافق على مقابلة معجبيه من الجيل الجديد وعلى رأسهم كوزيفوف. لكن في اللحظة التي يظهرون فيها لأول مرة، يشعر بالانزعاج الشديد: اعتاد الحياة الهادئة والبعيدة عن الأنظار، فهل يجب عليه حقًا أن يتغير مرة أخرى ويقبل بلعب دور عمومي؟ إنه لا يشرب الكحول (ومع ذلك، فهو يستهلك الشاي القوي والسجائر بكميات كبيرة)، ولا يحبّ جو الألفة الزائفة والثرثرة التي لا يمكن السيطرة عليها والتي تحدث أثناء الإفراط في الشرب. وإذا كان لا يريد الانضمام إلى اتحاد الكتاب[2]، فذلك لأنه يخشى رؤية كتاب آخرين يظهرون بانتظام في منزله سكارى. الشخص الذي في كتاب رابليه**يصبح بطل الكرنفال والحياة الجسدية، هو غير صالح وناسك. إن الذي يشيد بالحوار في كتاب دوستويفسكي***، هو رجل يكره الاتصال الإنساني.

إن اختيار هذه الحياة لا ينبع من موقف أيديولوجي، بل يبدو أنه مشروط بعاملين خارجيين: المرض الجسدي (التهاب العظم) والمرض الاجتماعي (الستالينية). قد ينقذ الأول حياته، لكنه يحكم عليه بالجمود والاتكالية؛ أما الثاني فيدمّر نسيجًا اجتماعيًا لن يعاد بناؤه أبدًا. وحتى لحظة اعتقاله، كان باختين يتمتع بصداقات قوية؛ فالسنوات الثلاثين التالية، والتي يجب أن يكون خلالها، وفقًا للمثل الروسي، "أهدأ من الماء، وأخفض من العشب"، لا تؤدي إلى الثقة أو التبادل الإبداعي. ثم بعد فوات الأوان: يوافق باختين على مضض على ترك حالة الانعزال.

بدأ ياكبسون أيضًا حياته العامة في الحلقات، لا سيما في حلقة موسكو اللغوية التي سيشرع فيها عام 1915. كان هذا الشكل من الاتصال والعمل المشترك يناسبه جيدًا لدرجة أنه ساعده في إعادة تكوين حلقة في براغ عندما ذهب إليها عام 1920. وحتى عندما لم تعد هذه الحلقات موجودة، استمر في التشجيع على التعاون؛ وهكذا تم توقيع العديد من النصوص من قبل ياكبسون ومؤلف آخر، بالإضافة إلى تينيانوف Tynianov، وبوجاتيريف Bogatyrev، وهال Halle، وليفي شتراوس Lévi-Strauss، والعديد من الآخرين الأقل شهرة. هكذا كان تعاونه مع تروبيتسكوي Trobetzkoy في صميم تكون الصَّوتيات الحديثة La .phonologie

ما هي الظروف المواتية لهذا التعاون؟ فلنعد إلى مذكرات ياكبسون. يذكر أن أول مثله الأعلى كان خليبينيكوف Khlebinikov. لقد التقى به للتو، ولا تزال علاقتهما يطبعها التحفظ. لكن كلاهما قرَّرا قضاء ليلة رأس السنة معًا في الحانة الأدبية الشهيرة "Le chien errant" في سان بطرسبورغ.

هو ذا المكان الذي تعرفت فيه حقًا على خليبنيكوف: وبينما يشرب مشروبًا تلو الآخر، بدأ يصبح أكثر انفتاحًا[3].

ومع ذلك، فإن هذه الطريقة ليست مخصصة للشعراء المحبوبين: لا يُكنُّ ياكبسون تقديرًا كبيرًا لمارينيتي Marinetti زعيم المستقبليين الإيطاليين، "لكننا ما زلنا نذهب للشرب معًا"[4]. كما أنه شهد أيضًا ميلاد الأوبوياز L'Opoyaz  [التي تمثل] جوهر الشكلانية في سانت بطرسبورغ:

كان ذلك في مطعم بريك، حيث تناولنا العشاء مع مشروب بليني وفودكا، وناقشنا ما يمكننا فعله لرؤية بعضنا البعض وتكثيف البحث[5].

لا شكّ في أن الفورة التي عرفتها حلقة براغ اللغوية، كما تشهد على ذلك مذكرات ياكبسون، تعود بالأساس إلى كون النقاشات لم تظل حبيسة قاعات الدرس في الجامعة، بل امتدَّت إلى الحانات والمقاهي.

فقررنا بعد ذلك، وأصررت على هذا الأمر بشكل خاص، أن ننتقل إلى المقهى، إلى إحدى الغرف الخلفية. جلسنا هناك، وتناول البعض كأسًا من البراندي أو القهوة، والبعض الآخر شرب بيرة أو قنينة من النبيذ... كان الأمر مهمًّا للغاية![6]

عندما وصل ياكبسون إلى نيويورك شرع في التدريس بكلية الدراسات العليا الحرة، حيث التقى ليفي ستروس:

بعد المؤتمرات التي حضرتها أو تلك التي أتى إليها كلود، ذهبنا إلى مطعم صغير وواصلنا الدردشة. كان لدينا من الوقت أكثر مما لدينا الآن، والمزيد من الطاقة أيضًا... يمكنني حتى تسمية هذه المطاعم الصغيرة في نيويورك حيث ناقشنا هذه المشاكل[7].



يمكن لأي شخص يعرف ياكبسون أن يستمر في هذا الاستعراض بإسهاب. ومع ذلك، لم يكن لديه أي شيء [مما يدلّ على] مدمن كحول. ببساطة، مثَّل المشروب إضافةً إلى الألفة التي كان يعتز بها. فهل كان الحوار حقا؟ يقول ياكبسون نفسه، في نهاية إحدى مقابلاته: "أفضِّلُ الحوار على المونولوج، حتى في العلم"، ثم يضيف: "أنا مع التعاون دائمًا، وأعتبر العمل الجماعي أفضل أشكال العمل"[8]. من جهة أخرى، يشبه كتاب الحوارات الذي أصدره بالتعاون مع زوجته كريستينا بومورسكا Krystyna Pomorska، تلك الحوارات الأفلاطونية المتأخرة التي فيها يكتفي التلميذ المعجب بأن يقول من وقت لآخر: كما تقول يا سقراط!. أود أن أقول إن شكل الحوار الذي ميّز ياكبسون كان شكل العدوى. لقد كان يتمتع بموهبة خاصة تتمثل في جعلك تشاركه حماسته؛ وطالما كان حاضرًا، فإن موضوع اهتمامه - حتى بنيات الشعر التشيكي في القرن الرابع عشر- لا يمكن أن يفشل في الظهور لك على أنه الأكثر روعة في العالم. وبدلًا من النقد المتبادل، دعا بشكل لا يقاوم إلى التعاون. وكان لهذه الدعوة تأثير إيجابي علينا جميعًا، نحن الذين كنا أصغر سنًا وأقل شهرة من ياكبسون؛ لقد عاملنا دائمًا على أننا أنداد له، قادرون بالشغف نفسه للمعرفة، وهكذا رفع من شأننا إلى جانبه. هذا هو الشعور الذي شعرت به في عام 1964، عندما اقتربت منه للمرة الأولى، وأنا طالب بلغاري وصل حديثًا إلى باريس. يقول أشعيا برلين، الذي لم يكن أول من جاء، عن ياكبسون:

عندما كنا برفقته، شعرنا بأننا في منحى تصاعدي، وأكثر ذكاءً، وأكثر حساسية، وأكثر إثارة للاهتمام مما كنا عليه أو يمكن أن نكون عليه في الواقع[9].

إن السّخاء هي الكلمة التي تفرض نفسها على كل من يريد وصف العلاقة التي تشدُّه إلى ياكبسون في مجال الروح.

لم يكن ياكبسون راضيًا عن إثارة حماس الآخرين لما كان متحمسًا له؛ كان هو نفسه، وحتى نهاية حياته، قادرًا على اكتشاف حماس جديد. غالبًا ما كان يستحضر السِّحر الذي مارسته عليه شخصيتان غير عاديتين، نيكولا تروبتسكوي وكلود ليفي ستراوس؛ لكن إعجابه وكرمه لم يقتصر على أولئك الذين يعتبرهم عباقرة، ولا على أولئك الذين كافأوه بصداقتهم. في الواقع، قضية باختين تتحدث عن نفسها. لم يلتق الرجلان، كما رأينا، من قبل، لكن كتاب ميدفيديف، المستوحى من باختين، ينتقد ياكبسون بشدة. ومع ذلك، فإن هذا يرجع أساسًا إلى البعث الروحي لباختين في روسيا. في الواقع، في عام 1956، أثناء عودته الأولى إلى موسكو، خاطب ياكبسون العلماء الروس الشباب الذين يتحلقون حوله، وحدثهم عن أفضل الأعمال في السنوات الماضية التي تم تناسيها؛ وكتاب باختين عن دوستويفسكي هو واحد من هذه الأعمال[10]. من بين الحاضرينِ كوزينوف على وجه التحديد، الذي سيصبح لاحقًا المحرّك الفعال لهذه النهضة الروسية. في وقت لاحق (ولكن دائما قبل المجد الجديد لباختين)، لن يفوت ياكبسون الفرصة للثناء على عمله، على الرّغم من أن الصورة التي يعطيها تشبه مؤلفها أكثر من موضوعها: وفقًا لباختين، كتب في عام 1976، في بنية اللغة، تشكل جميع المفاهيم الجوهرية نظامًا لا يتزعزع، يتألف من أزواج غير قابلة للانفصام ومتحدة[11].

عندما نتحدث عن ياكبسون اليوم، فإننا مجبرون على التمسك بمضمون منشوراته، وبالأطروحات التي دافع عنها هنا وهناك. ومع ذلك، أتساءل عما إذا كنا، بفعلنا هذا، لا نفقد جزءًا أساسيًا من رسالته. عندما طُلب منه أن يصف عمل أصدقائه الشباب الشكلانيين، لم يكتف أبدًا بتحديد هذه الأطروحة أو تلك بعينها، ولكنه قال: "لم يكن هناك مذهب أو طريقة، ولكن حرية روحية كبيرة، وقدرة على الترحيب بالجديد؛ وكانت الفكرة المركزية هي حظر المذهبية"[12]. وبالمثل، فإن ما يميز مساهمة ياكبسون هو، كما يبدو لي، هذا التأكيد أو ذاك أقل من رفضه الجذري للتحذلق (ولهذا السبب واجه الممثلون الرسميون للعلوم الأكاديمية صعوبة في التعرف على أنفسهم في هذا النوع البوهيمي المتحمس)؛ وتجاهله للحدود التقليدية للتخصصات (لم يكن يبالي سواء كان يعمل في مجال اللغويات أو الشعر أو الأنثروبولوجيا أو علم النفس). وكما قال فيكتور فايسكوف Victor Weisskopf، أحد زملائه في معهد ماساشوستش للتكنولوجيا:

كانت روحه تشع بالصداقة والحب بقوة لدرجة أننا جميعًا عشنا برفقته بشكل أكثر كثافة[13].

من هنا ينبع الواجب الذي يقع على عاتقنا نحن الذين عرفنا الرَّجل، وليس العمل فقط. حدث كل شيء كما لو كان هناك الكثير من البينية الذواتية Intersubjectivité في وجوده لدرجة أنه لم يشعر بالحاجة إلى جعلها من صميم نظريته؛ لكن قارئ اليوم وغدًا يستطيع أن يتجاهل الجزء غير المسنَّن من رسالته. يجب علينا أن ننقل إلى قراء المستقبل هذا الجزء الأساس من تراث ياكبسون، الذي يظهر فقط على هوامش نصوصه، ولكنه كان محوريًا في حياته.


الأعمى والمقعد

لا شكّ في أن حياة ياكبسون- الحوارية، التفاعلية، والموجَّهة كُلّيةً نحو الآخرين- تكمِّل بسعادة مفهومه المونولوجي والموضوعي للغة والأدب. تعوّض نظرية باختين الحوارية حياته المنعزلة، المحرومة من لحظة التواصل المثمر مع الآخرين، كما تسلط عليها ضوء ينيرها. يمكننا الآن العودة إلى الحكاية التي كانت بمثابة نقطة البداية بالنسبة لنا، ألا وهي اللقاء الذي لم يَجرِ بين باختين وياكبسون. لو كان باختين قد تصرَّف فعلًا للأسباب التي ينسبها إليه كوزينوف - عدم احترامه للشكليين- لكان قد خالفَ بشكل خطير تصوراته الخاصة: الفرد يعيش في الزمن؛ كلّ تصرفاته فريدة ولا رجعة فيها؛ ولا يُمكنُ اختزالها في أي أيديولوجية تم الإعلان عنها في الماضي. كان من الممكن التأكيد على كمال الإنسان في حياته، واختزاله إلى حقيقة ما يتكرّر فيه. ومع ذلك، يَجبُ التأكيد على أنّ باختين ليس هو من طرح هذا الدافع، بل كوزينوف - الذي لا يحب أن يتذكر ما يدين به لياكبسون، والذي تُشيرُ تصريحاته الأخيرة المعادية للسامية إلى أن عداءه كان يتغذى من أكثر من مَصدرٍ. أما باختين، فليس اللقاء الوحيد مع ياكبسون الذي يفرُّ منه، بل من كل أولئك الأجانب والغرباء: لكونه مصدومًا ومشوه الحياة في ظل الدكتاتورية الشيوعية، فهو يَخافُ من أي لقاء، أو من أي دخيل على وجوده المنعزل. لهذا السبب فشل في نهاية المطاف في تحقيق مطلبه الخاص، أي الوحدة المسؤولة بين العمل والحياة.

كان ميخائيل باختين مقعدًا ويواجه صعوبة في التنقل. أما رومان ياكبسون فكان يعاني من مشاكل متعلقة بالرؤية. إلا أن هذين المفكرين العظيمين سيظلان قادرين على توجيهنا نحو الألفية المقبلة [= الألفية الثالثة] وفيها أيضًا، خاصة إذا قبلنا أن يتّحد الأعمى والمقعد، والقادر حاملًا البصير، والمشارك في الحوار مكمِّلا منظِّره. ولكن لهذا يجب أن نعترف بأنَّ المصير الذي نختبره له أيضًا معنى. 


مراجع:

[1] . K.Clark, M.Holquist, Mikhail Bakhtin, op, cit., p51.

* . هناك ترجمة عربية متاحة لهذا الكتاب أعدها الباحثان محمد البكري ويمنى العيد، ونشرت ضمن منشورات دار توبقال بالدار البيضاء (1986).

[2] . K.Clark, M.Holquist, Mikhail Bakhtin, op, cit., p.330.

** . تتوفر ترجمة عربية لهذا الكتاب بعنوان: "أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة" أعدها الباحث المغربي شكير نصر الدين، وصدرت ضمن منشورات الجمل بألمانيا (2015). 

*** . صدر كتاب "شعرية دوستويفسكي" في ترجمة عربية أعدها الدكتور جميل نصيف التكريتي، ضمن منشورات دار توبقال بالدار البيضاء (1986).

[3] . Réponses, in Russie, folie, poésie, op, cit., p.26.

[4] .Ibid., p.27.

[5] .Ibid., p.41.

[6] . Beseda s profesorom O.Jakobsonom, op, cit., p.27.

[7] . Archives du XX° siècle, op, cit., II, p.29-30.

[8] .Ibid., III, p.39-40.

[9] . A Tribute to Roman Jakobson, Berlin, Mouton, 1983, p.69.

[10] . K.Clark, M.Holquist, Mikhail Bakhtin, op, cit., p.331-332.

[11] . Préface(1976), in V.N.Volochonov (M.Bakhtine), le Marxisme et la philosophie du langage, Minuit, 1977, p.8.

[12] . Réponses, in Russie, folie, poésie, op, cit., p.42.

[13] . A Tribute to Roman Jakobson, Berlin, Mouton, 1983, p.87.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.